أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

السبت، أكتوبر 16، 2010

قراءة في حالة التعليم المعماري





سأدخل للموضوع من باب يندرج تحت عنوان" فاقد الشئ لا يعطيه"

فعود على بدء، إلى المرحلة الأولى لنشأة المعماري العربي، داخل أروقة أقسام العمارة بالجامعات العربية، تقودنا إلى طبيعة المنهج الذي يدرّس له في هذه الجامعات، والذي بقدرة قادر أزاح كل أثر للعمارة المحلية، البيئية، الثقافية، المنتمية للمكان قلبا وقالبا، مادة وفكرا، المستوعبة لكل المتغيرات والظروف المحيطة، لتحل محلها عمارة غريبة مغتربة، أشاعوا عنها، أنها عمارة العصر والتنوير، ووسموها بالإبداع والتطوير، وجعلوها حلم كل حالم وهاجس كل طامح للمجد والخلود، وكلما عافها الزمن واعتراها الخلل من فرط هشاشتها، ضخوا فيها أسباب الاستمرارية، تحت عدة مسميات لتعيش فترة أطول( الحداثة، ما بعد الحداثة، البنائية، اللابنائية.... إلخ).

ولم يكتفوا بهذا، بل عمدوا إلى العمارة المحلية وكل ما يمت إليها بصلة من قريب أو بعيد، فأسبغوا عليها شتى صنوف التخلف التي تحط من قدرها، وتنسب إليها كل علة وقصور. كما زيفوا أوراق ثبوتيتها فمحوا كل معنى يربطها بالملاءمة البيئية والقدرة على التكيف مع متطلبات الزمان والمكان. مثلما دنسوا خصوصيتها تحت دعاوى مواكبة روح العصر والتطلع إلى كل جديد واستشراف آخر ما وصلت إليه التقنية والصرعات الفكرية في الغرب. كما حطموا كل النظم والقواعد التي تربط العمارة بالأرض والإنسان والعقيدة والثقافة. لا لشئ ، فقط من أجل عيون رائد التفكيك، وما أدراك ما التفكيك، إنها كل عمل دنئ يبخس الغالي، ويعلي من شأن الرخيص، ويستحل الشذوذ، ويحرم الطيبات.

فإذا كان هذا حال المصنع، فماذا تتوقع أن يكون المنتوج!


ونأتي إلى السؤال الأهم: لماذا كل هذا الذي حدث ويحدث مع العمارة المحلية وطلاب العمارة ومن بعدهم المعماريين في عالمنا العربي؟

الإجابة، وبكل بساطة حسب قناعتي، يرجع بالدرجة الأولى إلى أن منبت العمارة المحلية يستمد مصادر وجوده ومنطلقاته الفكرية وتطبيقاته العملية وديمومة تواصله كواقع متجدد في وجدان الأمة وممارساتها الحياتية اليومية، من جذور الإسلام وتعاليمه، كما أنها البوتقة التي احتضنت هذه القيم، والمرآة التي عكست تعاليمه على سطوح مدنها، ورسمت مسارته بين دروبها وأروقة مبانيها.

ولكي تخرج هذه العقيدة من نفوس الناس، كان لابد من سلخها وهي لا زالت حية من دائرة اهتمامهم، وصرف أنظارهم عنها وعن مضامينها ومحتواها الفكري والعقائدي. وإعلان وفاتها المبكر تحت دعاوي الصدمة الحضارية، وفقدان القدرة على استيعاب المستجدات، والتفاعل مع متطلبات العصر. وفي المقابل إشغالهم بعمارة تخلو من أي محتوى نافع ومضمون هادف ، عمارة تتلون كل يوم بلون جديد وتتشكل في كل فترة بشكل عجيب يستهوي النفوس الخائرة والعقول الخاوية. مثلما يستهوي الآراقوز ويداعب بحركاته البهلوانية أحاسيس الأطفال ويسيطر على مشاعرهم. ولكنه في النهاية لا يقدم لهم إلاّ الوهم، ولا يشغل أوقاتهم إلاّ بالخرافات.

ليأتي بعدها دور الإعلام للترويح والتسويق وصناعة النجوم... وهكذا هو حال العمارة الغربية وربيبتها العرجاء العمارة العربية المعاصرة التي تسير في ركابها لتتلقف فتاتها بلا استحياء، وعلى غرارهما هذا هو حال جل المعماريين العرب في وقتنا الراهن، إلاّ من رحم ربي.

وخلاصة القول، تجرنا إلى خطورة العملية التعليمية في مراحلها المختلفة، وأهميتها في تنشأة أجيال تنتمي إلى ثقافتها، أو تنسلخ عنها. فالعمارة قبل كل شئ رسالة ضمنية تعكسها كل المعالم العمرانية والمعمارية بمختلف مجالاتها وتخصصاتها.  

هناك تعليقان (2):

  1. احيي فيك الجرأة أستاذ جمال ودقة التصويب لقد أصبت جرحا يلف الجميع حوله ويدعي اللامبالاة.. إحساسا مثقلا بالضآلة يصعب مواجهته فيهربون بالتجاهل ..نعم نحتاج لمواجه أنفسنا والبداية من مناهج تعليم العمارة....
    أولا أؤكد معك على أن العمارة هي إسقاط للهوية في المنجز مثلها مثل غيرها من الفنون وان ابتعدت عن الهوية تصبح مسخ لا طعم له ولا قيمة... والهوية نفسها تحوي فروع ثانوية بداخلها كشجرة كبيرة لمفهوم الذات... واتفق معك أن المعتقد أهم ما يشكلها... ولكن العمارة الإسلامية التي تدرس هي المشكلة...! بمعنى ان العمارة الإسلامية تدرس ضمن تسلسل تاريخي.. ولي تحفظ كبير حول هذا الطرح..فالتاريخ الإسلامي أكاديميا كمصطلح ينتهي بانتهاء الخلافة الإسلامية ثم تبدا مرحلة التاريخ الحديث او المعاصر..!
    ولكن ما نقصده انأ وأنت هو الهوية الإسلامية او الفكر الإسلامي الباقي ..هذا مدخل كبير لعدم جدوى مناهج تاريخ العمارة عندما تقدم من هذا المفهوم واقصد السياسي وليس الانساني..
    ثم المحتوى التعليمي ..يتحدث عن تجارب لم تكن إسلامية الروح بقدر ما هي عمائر انتمت سياسيا للدول الإسلامية وأنت تعلم المدة والشروط اللازمة ليتحقق الإتباع الفني بعد الإتباع السياسي .. أي ان التجارب المستهدفة كنماذج إسلامية هي تجارب غير ناضجة فنيا وفق الفكر الإسلامي ولم تحقق إسلاميتها بعد...القضية هي ان المناهج التاريخية تتعاطى التاريخ السياسي وليس التاريخ الانساني..هذا مكمن الداء... نحتاج فعلا للإسراع بإنقاذ ما يمكن إنقاذه ومواجهة ذواتنا..نحتاج لنتحاور بغية تأصيل لملامح هوية إسلامية واخرى محلية ليبية هي أيضا تعاني نفس المرض..لما لا نعترف..لما لا نبدأ بالتأصيل بوعي فني وعقائدي...أضم صوتي لصوتك وأرحب بأي تعاون مع أي زميل معماري له نفس الهدف..ولميراث كل الشكر..والله ولي التوفيق...

    ردحذف
  2. أشكرك أختي الكريمة/ م. وفاء الحسين على هذا التفاعل المتميز مع موضوع المقالة. ولا شك عندي في ضرورة التعاون بين أصحاب الرؤية الواحدة، لتوحيد الجهود وتفعيلها على أرض الواقع. ويهمني جدا في هذا الصدد أن نوضح سبل ذلك، وأن لا تظل قناعاتنا حبيسة الأوراق.

    ردحذف

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية