أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الثلاثاء، أبريل 29، 2014

حانت الساعة





جمال اللافي


عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في قصة سؤال جبريل عليه السلام عن الإيمان والإسلام والإحسان، وفي آخره قول جبريل عليه السلام: فأخبرني عن الساعة؟ قال صلى الله عليه وسلم : " ما المسؤولُ عنها بأعلمَ من السائل " قال: فأخبرني عن أمارتها ؟ قال: " أن تلد الأمةُ ربَّتها، وأن ترى الحُفاة العُراةَ، العالةَ رِعاء الشاء، يتطاولون في البنيان"[1].



بداية،

      هذه المقالة ليست محاولة لتفسير نص شرعي. ولكنها قراءة لهذا الحديث الشريف من منظور واقع المجتمع الإسلامي اليوم. وتأمل لظاهرة معمارية تنتشر في عالمنا الإسلامي، لا يرتجى من ورائها خير.


الموضوع،

لماذا أخبرنا رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، أن من علامات الساعة، أن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. ولماذا وصفهم بهذا الوصف تحديداً (الحفاة العراة العالة رعاء الشاء)؟

ما يجب أن نعرفه أولاً، أن حالة التطاول (على وزن التفاعل)، نفهم منها أنها تعني التنافس في الارتفاع بالمباني إلى أقصى حد ممكن والتفاخر بذلك، وكلما وصل مبنى إلى حد معين نافسه الآخر بالزيادة عليه ولا تتوقف العملية عند حد، بل هي في استمرار لا يتوقف إلاّ بوجود رادع أو مانع قوي.

وهذا التطاول في البنيان (أي الارتفاع به في السماء) ليس مذموما لذاته، عندما يأتي ذلك تعبيراً عما وصلت إليه الحضارة الإنسانية من تقدم علمي وتطور تقني ولضرورة تستدعيها الحاجة لذلك ومنفعة لعموم الناس. فالإسلام لا يتعارض، لا مع العلم ولا مع التقدم التقني ولا مع عمارة الأرض ولا مع المصلحة العامة، في غير إسراف ولا تبذير.

·        إذاً، أين تكمن المشكلة في هذا الموضوع؟
·        وهل هناك مشكلة أصلاً؟
·        ولماذا لا نعتبر الأمر مجرد إقرار بمرحلة من التقدم العلمي والتقني ستصل إليها الحضارة البشرية. وتكون تلك المرحلة علامة على استيفاء الدنيا عمرها الزمني. فقط ليس إلاّ؟

كان يمكن أن يأتي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بغير تلك الصيغة، إذا كانت الغاية من الموضوع هي الإقرار بنهاية الدنيا عندما تصل الحضارة الإنسانية إلى هذه المرحلة من التقدم العلمي والتقني. ولكنه الذي قال فيه المولى عز وجل في محكم كتابه الكريم: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[2] ، وبالتالي لا يمكن أن تأتي هذه الجملة عبثاً.

إذاً، هي إلى جانب كونها إقراراً بمرحلة ستأتي، فهي ذم في معرض مدح. ذم لحالة أقوام (الحفاة العراة رعاء الشاء) في معرض مدح لمرحلة من التقدم العلمي والتقني (التطاول في البنيان) ستصلها البشرية في يوم ما.

·        ولكن، من هم هؤلاء الحفاة العراة- وسنتجاوز قليلا عن مسألة الخوض في معنى "رعاء الشاء"؟
·        ولماذا وصفوا بهذا الوصف المشين تحديداً؟

لا أعتقد جازماً كغيري، أن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو القائل: " ليسَ المؤمِنُ بِطَعّان ولا لعّان ولا فاحِش ولا بَذيء" [3]. يصدر عنه كلمات تستهزئ بقومه أو يستهين بهم أو ينتقص من قدرهم. وهو في معرض تعليمهم أمور دينهم ويأمرهم بحسن الخلق. فيخاطبهم بوصفه لهم بالحفاة العراة رعاء الشاء وبأن الدنيا ستنتهي عندما يتطاولون في البنيان.

عندما يوصف الإنسان بأنه حافي القدمين عاري الجسد، فهذا يعني أنه وصل في مرحلة الفقر إلى درجة شديدة من العوز بحيث لا يمتلك ما يستر به جسده أو يحمي به قدميه عند المشي على الأرض.


وعليه نفهم من هذا الحديث الشريف، أنه يقرُّ بوجود حالة من التمايز الطبقي ستكون بين المسلمين تصل إلى ذروتها القصوى من السفه وانعدام الضمير، أن يطلع حكام المسلمين وأثرياهم على سوء أحوال عموم المسلمين في أوطانهم أو في كثير من دول العالم نتيجة استشراء الظلم والعدوان الواقع عليهم وانعدام فرص العيش الكريم لديهم، فيكتفون بمجرد النظر ولا يبالون بنجدتهم ولا بتحسين أحوالهم ولا بتوفير مصادر العيش الكريم لهم ولا بالدفاع عنهم ولا بتأمين حاجاتهم الضرورة من كساء وغطاء ومأكل ومشرب. وربما يشاركون في تأزيم هذه الحالة لغاية في نفوسهم. وهي في بعض منها استغلال لحاجة هؤلاء البؤساء وتسخيرهم في خدمتهم وتلبية رغباتهم وإشباع شهواتهم. وصرف أموالهم في بناء ناطحات السحاب التي تتنافس في الطول والزيادة، لمجرد التفاخر بهذا الأمر بينهم وإشباع نزعة الغرور عندهم. وهذا واقع تقره الكثير من المصادر الإعلامية والحقائق المرصودة اليوم.


وهذا الحديث الشريف في صيغته هذه، هو إقرار أيضا  بحجم الانحدار الحضاري والتخلف القيمي والاجتماعي، الذي ستعايشه الأمة الإسلامية على وجه التحديد في يوم ما، يقابله مظاهر فارهة من العمران في نطاق الخواص من حكامها ومترفيها، ولا يصب في مصلحة وفائدة ومنفعة عموم المسلمين، الذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ولا يجدون مأوي يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء. يقابلها مظاهر استهلاكية، لا تعرف طريقها للإنتاج. ولهذا جاء الإقرار بكونهم عالة رعاء الشاء، لتدل على أن كل هذه المظاهر العمرانية لا تقابلها أي مظاهر حقيقية للمدنية في واقع حال المسلمين. بل هي مدنية مستجلبة بفعل كثرة الأموال من دول أخرى متقدمة علميا وتقنيا وصناعيا لتوضع في بلاد المسلمين فقط من باب التطاول والتفاخر والمباهاة. أما الواقع فيقول أنهم قد انحدروا في سلم الحضارة الإنسانية إلى مرحلة بدائية هي مرحلة الرعي (رعي الشياء).


      ولهذا جمع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم المترفين مع عامة الناس تحت مصطلح أو معرف (الحفاة العراة رعاء الشاء)، للإقرار بحالة عامة ستكون منتشرة في آخر الزمان يغلب عليها هذه الصفات. بغض النظر عن وضع المترفين وهم قلة، ترتدي أفخم الملابس وتنتعل أجود أنواع الأحدية، لأن القاعدة تأخذ بالغلبة وليس بالاستثناء.

     وكيف تستقيم الأمور في مجتمعات غالبتها العظمى من الحفاة العراة المتخلفين في السلم الحضاري عن الشعوب والأمم التي تجاورهم، أن يصرفوا أموالهم في التطاول في البنيان بدلاً من تحسين أحوالهم وظروفهم المعيشية ودفع ضرر العوز عنهم؟! وبالتالي فهذا الحديث جاء في معرض ذم لهذه المرحلة، التي يتفشى فيها الظلم الشديد والفساد، إلى هذه الدرجة من التباين الطبقي بين مجموعة من المترفين ومجتمعات من المعوزين. رغم توفر الأموال والثروات الطائلة التي تكفي الجميع وزيادة. 



      وكان من الطبيعي والمفترض، أن يتداعى الجسد الإسلامي لبعضه البعض في أحلك الظروف، فإن اشتكى عضو فيه تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. وإن لم تتداعَ سائر الأعضاء لشكوى عضو، فهذا يعني أن الخلل أو المرض أو ضعف المناعة قد أصابها كلها بحيث أعجزها عن نجدة بعضها البعض.

     ولهذا اعتبر المترفون وهم قلة يعيشون في مجتمعات غلب عليها الفقر المدقع وغياب فرص العمل والعيش الكريم لعامة المسلمين، في حالة ميؤوس منها لا تمكنهم من نجدة إخوانهم المسلمين المحتاجين إلى عونهم، لأنهم هم أيضا يعانون. ولكن ليس من الفقر، بل من حالة نفسية مرضية مستعصية هي قسوة القلوب وانعدام الرحمة فيها وانتفاء العدل عنها .

      وقسوة القلوب مجلبة لغضب الرب. وهو إقرار في حقيقته بما ستصل إليه البشرية في عمومها والمجتمع الإسلامي على وجه التحديد من انحطاط أخلاقي في مقابل التقدم العلمي. ولأن الأخلاق هي المقوم الأساسي لوجود البشر بعد توحيد العبودية لله على وجه الأرض. فقد انتفى بغيابها هذا المبرر لاستمرار الحياة البشرية.

وحيث أن هذا الحديث الشريف يقر بعلامة من علامات آخر الزمن، إلاّ أنه لا يعني بالضرورة نهاية العالم. بل ربما هي إقرار بوضع غير طبيعي، لا يفترض أن يكون عليه حال الأمة الإسلامية في يوم ما. حال وجب تغييره عندما يقع. ولأنه واقع اليوم، فلا نجد ما نقوله غير:


حانت الساعة... ساعة التغيير للأفضل.




[1] الحديث بطوله رواه مسلم 

[2] - الآية (4) - سورة النجم.

[3] - رواه البخاري في الأدب وأحمد وابن حبان والحاكم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية