أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأربعاء، ديسمبر 27، 2017

الحضارة والمدنية




جمال اللافي


ترتبط الحضارة ارتباطا وثيقا بقيم ومعتقدات الشعوب وعاداتها وتقاليدها المتوارثة. بينما ترتبط المدنية بالتقدم التقني وتطور الأساليب والمعالجات لكل ما يمس حياة الناس ويتعاطى مع احتياجاتهم المادية ويسهل عليهم سبل العيش ويعينهم على تكاليف الحياة.

لهذا نجد أن البون شاسع بين مفهومي الحضارة والمدنية وتطبيقاتهما وانعكاساتهما على الشعوب، فالحضارة ترتبط بالشق القيمي والثقافي من حياة الشعوب، وهو الشق الذي تتراكم فيه التجارب والخبرات والمفاهيم والمعتقدات والقناعات والرؤى التي تشكل أسلوب حياة وطريقة عيش، تتوارثها الأجيال للحفاظ على كينونتها وتمايزها عن الشعوب الأخرى، وبالتالي تشكل لها ملامح لهوية دامغة في مواجهة هوية الآخر. ليس من باب التضارب ولكن من نافذة التعارف، الذي ينتج عنه التلاقح والتزاوج في غالب الأحيان دون أن يفقد كل طرف هويته المستقلة بذاتها عن باقي الهويات.
أما المدنية فترتبط بالشق المادي وهو بدوره جانب متغير يتطور بتقدم التقنيات وزيادة الاكتشافات العلمية. والشق المادي قابل للتصدير والاستيراد دون أن يترتب عنه إخلال بمنظومة قيم أي مجتمع بقدر ما يدعمها ويفتح لها آفاقا جديدة توسع مداركها وتعينها على الارتقاء بأدوات التعبير عن ذواتها بأساليب ومواد وتقنيات جديدة.

الحضارة بمفهومها الشامل تستوعب كافة مظاهر المدنية وتستند عليها في الارتقاء بقيمها وأدوات ووسائل التعبير عنها، وإن كان للمدنية أوجه متعددة تتفاوت تقنياتها من حيث التطور أو البدائية من مجتمع إلى آخر، إلا أن غياب مظاهر التمدن لا يلغي بالضرورة وجود مظاهر الحضارة في المجتمعات، لأن المفهوم الحضارة ووسائل التعبير عنها متفاوت من شعب إلى آخر مثلها مثل مظاهر التمدن. فوجود الإهرامات مثلا أو غيابها لا يعني وجود حضارة أو غيابها. فالإهرامات مجرد أداة تعبير عن مستوى ثقافي معين ونظرة مختلفة إلى الحياة وعلاقة بين الحاكم والمحكوم، يراها آخرون بمنظار مختلف وأدوات تعبير مختلفة تكون رهينة بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم أيضا. كما أن المدنية لا تعني بالضرورة الحضارة. فقد يكون هناك مجتمع متطور تقنيا ومتقدم صناعيا ولكنه يفتقر لمقومات الحضارة. وهذا يظهر جليا في المجتمعات الهجينة متضاربة الثقافات والقيم التي يغلب عليها الصراعات العرقية والطبقية. أو المجتمعات الفقيرة قيميا والتي تستورد منتجات ثقافات الشعوب الأخرى لتتقمصها في شكل لغات أو عادات وتقاليد وسلوكيات أو في ملبس ومأكل ومشرب أو في منجزات معمارية وفنية وحرفية وأدبية.

الحضارة، تصنعها الشعوب. أما المدنية فتصنعها الدولة ورؤوس الأموال. وهي بدورها التي تصون الحضارة من مزالق الاغتراب عبر توظيف مؤسساتها التعليمية والثقافية والإعلامية ومواردها الاقتصادية لهذه الغاية. وعندما يسيطر الساسة الفاسدون على مقومات المدنية وتوظيفها لخدمة مصالحهم تنحدر الحضارة إلى أسفل السافلين ويحدث الاغتراب الثقافي أو تعم الفوضى ويشيع الجهل بين أفراد المجتمع.

وتحت هذا الإطار يمكننا قياس مستوى التحضر لأي مجتمع بمقدار التزامه بقيمه الأخلاقية ومعتقداته الدينية وثقافته الأصيلة، ممثلة في عاداته وتقاليده المتوارثة، وذلك على المستوى التطبيقي من خلال الشواهد التي تعكس هذا الالتزام، في العمارة والفنون الحرفية، كذلك إبداعهم الأدبي بمختلف مجالاته وطبيعة المواضيع التي يتناولونها وفي السلوك والمظهر العام وفي مجالات العمل والتعاملات. 
أما مستوى التمدن فيأتي من خلال تقدير مدى التقدم التقني الذي وصل إليه المجتمع في الصناعة بمجالاتها المختلفة وأدواتها المتعددة، مقارنة بما وصلت إليه المجتمعات الأخرى في هذه المجالات. والأهم من ذلك فهي تقاس بمدى قدرة المجتمع نفسه على استحداث هذه التقنيات وإنتاجها من خلال حسن استثماره لموارده الطبيعية والعقول البشرية من ابنائه وليس على العقول التي يستوردها. وتوظيف مؤسساته العلمية والتعليمية لتحقيق هذه الغاية.

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية