أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأربعاء، يناير 31، 2018

تساؤلات حول العمارة المحلية (الجزء الثاني)

حوش القره مانللي بمدينة طرابلس القديمة - تصوير/ الفنان التشكيلي أحمد السيفاو


جمال اللافي

أستعرضت في الجزء الأول مجموعة من التساؤلات التي طرحتها إحدى الباحثات في إطار التحضير لرسالتها العلمية وردي عليها. وفي مراسلة تالية طرحت هذه الباحثة مجموعة أخرى من التساؤلات/

تساؤلات الباحثة/
1.     لماذا فقد المسكن ذو الفناء الوسطي (الحوش العربي) من التخطيط الحضري, ولم يحدث ذلك التاثير في ثورة الاسكان؟
2.  الى أي مدى سيكون تحديث النموذج التقليدي للحوش العربي ملائما للحياة الحديثة للعائلة الليبية, هل سيسهم هذا التحديث في تطور البيئة السكنية في طرابلس؟
3.  فيما يتعلق بالحركة من التقليد الى الحداثة في البيت ذو الفناء الوسطي(الحوش العربي) ماذا تغير في ملامح الحوش العربي وما هو مازال ملائم وصالح لليوم؟ وهل الحوش العربي يمتلك مميزات السكن المستدام؟
4.  في إحدى المقالات اقترحم دعوة للحوار حول البيت العربي وكيف تواجه الصعوبات التي تمنع من إحياء هذا النوع من الاسكان، كبديل للسكن الشائع اليوم. ما هي أسبابكم وراء فتح هذا الحوار؟
5.  كذلك هل لديكم مبررات تدفعكم للأخذ بعين الاعتبار مفهوم البيت المعاصر (الصورة المعاصره للبيت التقليدي) الحوش العربي وأين هذا الحوار من صانعي القرار فيما يتعلق بسياسات الإسكان في طرابلس؟

السؤال الأول/ لماذا فقد المسكن ذو الفناء الوسطي (الحوش العربي) من التخطيط الحضري, ولم يحدث ذلك التأثير في ثورة الاسكان؟

الإجابة/
بالنسبة لمسألة عدم استمرار نظام البيت ذو الفناء" الحوش" في المشاريع المعاصرة، فذلك يعود لغياب الدراسات العلمية المنهجية التي تستوعب طبيعة البيئة الاجتماعية والمناخية للمنطقة المستهدفة بالمشاريع الإسكانية، وبالتالي تعرض هذا النوع من البيوت للانحسار عند تخطيط وتنفيذ المشاريع الإسكانية الجديدة.
كما أن الشركات الأجنبية التي تمّ تكليفها بإعداد دراسات تخطيطية وعمرانية، عن قصد أو جهل تعمدت تجاهل هذا النوع من البيوت، وذلك لدوافع عدة منها:
·   علمها بعدم وجود متابعة واعية من قبل مؤسسات الدولة الليبية سواء في العهد الملكي أو الانقلاب العسكري 69 للدراسات التي تعدها هذه الشركات حول المشاريع الإسكانية المقترحة أو للمشاريع المنفذة، وبالتالي فهي تختصر الطريق على نفسها وتقدم ما ألفته من أنواع سكنية كالفلل التي تفتح نوافذها على الخارج أو العمارات السكنية التي ستوفر في تكلفة التنفيذ من وجهة نظر اقتصادية بحثة.
·   هدم البنية الاجتماعية والثقافية والأخلاقية من خلال استبعاد نموذج الأحواش" البيت ذو الفناء"، واستبداله بالنموذج المستحدث ممثلا في العمارة الدولية التي تتجه نوافذها لتفتح على الخارج، فتؤثر من خلال التعود على استعمالها على خلخلة القيم الاجتماعية وكسر حدود الحشمة والخصوصية عند المجتمع الليبي المحافظ.
·   الإصرار في عهد الانقلاب العسكري69 م. على تنفيذ المشاريع الإسكانية من خلال تطبيق نموذج العمارات السكنية المتكرر بصورة عشوائية داخل الموقع المقترح، فهذا له عدة أسباب من أهمها:
§    السيطرة على أكبر مجموعة من الناس داخل عمارة سكنية واحدة عبر إغلاق منفذها الوحيد الذي يؤدي لكل عمارة سكنية.
§   كذلك خلق العديد من المشاكل الاجتماعية والنفسية والأخلاقية عبر تكديس المواطنين في مجمعات سكنية متكونة من عدة طوابق وزيادة الكثافة السكانية في أقل المساحات.
ويمكنك مراجعة ما توصل إليه علماء الاجتماع من تأثيرات سلبية لنموذج العمارات السكنية، أشرت إليها في مقالتي" جدلية الساكن والمسكون" المنشور بمدونة الميراث في شهر يوليو 2008م.

السؤال الثاني/ الى أي مدى سيكون تحديث النموذج التقليدي للحوش العربي ملائماً للحياة الحديثة للعائلة الليبية وهل سيسهم هذا التحديث في تطور البيئة السكنية في طرابلس؟

الإجابة/
النموذج التقليدي من البيوت ذوات الأفنية" الحوش"، يتميز بقدرته على تحقيق عوامل الاستدامة من حيث الوظيفة والشكل. فهو لا يزال يقدم نفسه على أنه البيت النموذجي من حيث الكفاءة الوظيفية والاجتماعية والمناخية، ويمكننا ملاحظة ذلك عند زيارتنا للمدن القديمة حيث يشكل هذا النوع من الأنظمة التصميمية سواء كانت في البيوت السكنية أو المباني العامة نسيج المدن القديمة التخطيطي والعمراني. كما نلاحظ أن هذا النموذج لا يتعارض في شكله العام أو توزيع فراغاته مع متطلبات العصر وأدواته وتقنياته، بل إن تطور أساليب التقنية أضاف كفاءة جمالية وخدمية لهذا النوع، حيث أصبحت جميع إمدادات الخدمات من (مياه، وكهرباء، وتصريف مجاري) تتم تحت الأرض وبتقنيات بسيطة التنفيذ، عالية الكفاءة والجودة. أما أنظمة الاتصالات، فقد أصبحت لاسلكية تتم عبر الأقمار الصناعية، فلم يعد هناك حاجة لإمدادات خطوط الهواتف وأجهزة الربط بين التلفزيون والأقمار الصناعية.... وغير ذلك من الخدمات. أما عناصر التأثيث فإن الخيارات المطروحة في السابق والمقدمة حاليا من دور التصميم الصناعي فهي قابلة للتطبيق والاستعمال داخل هذه البيوت دون عوائق. ومن هنا نستطيع القول أن مجرد طرح النموذج التقليدي بدون أي معالجات وظيفية سيكون ملائماً وبكفاءة عالية لمتطلبات هذا العصر.

أما في حالة تقديم مقترحات تعالج بعض الإشكاليات غير الضرورية ولكنها تأتي في مقابل الرد على الأفكار المعاصرة المطروحة على الساحة الليبية مثلاً، ومنها اتساع مساحات الفراغات، كذلك الحماية من الأمطار وأشعة الشمس الحارقة عند التنقل بين فراغات البيت عبر الفناء( وهي فقط تمثل كل الإشكاليات التي تواجه نموذج" الحوش"). فهذا ومن خلال بعض الأفكار المطروحة التي تمّ تصميمها أو تنفيذها من قبل مجموعة من المعماريين الليبيين، والتي بدأت تلاقي قبولاً كبيراً وتأييداً في المحيط الاجتماعي، كل هذا يؤكد على أنه سيكون نموذج المرحلة القادمة بكل اقتدار، وربما سيؤثر على الرؤية التخطيطية والتصميمية للمشاريع الإسكانية المقبلة، سواء التي ينفذها أفراد أو ستقدمها الدولة كحل إسكاني لذوي الدخل المحدود كبديل لنموذج العمارات السكنية الذي أثبت فشله من جميع النواحي.

السؤال الثالث/ فيما يتعلق بالحركة من التقليد الى الحداثة في البيت ذو الفناء الوسطي(الحوش العربي) ماذا تغير في ملامح الحوش العربي وما هو مازال ملائماً وصالحاً إلى اليوم؟ وهل الحوش العربي يمتلك مميزات السكن المستدام؟

الإجابة/
تمّ الإجابة ضمنياً على هذا السؤال من خلال ما سبق، ولكن نستطيع أن نقول أن التركيز اتجه إلى إعادة توزيع موقع الفناء الذي كان يتوسط البيت ليأخذ جانباً متطرفاً من زوايا البيت المعاصر، بحيث لا يضطر سكان البيت إلى المرور عبره عند تنقلهم بين فراغات البيت، وبالتالي تجنب التعرض لمياه الأمطار في فصل الشتاء، أو الأتربة وحرارة الشمس في فصل الصيف. وهذه أكثر الأسباب الداعية للتغيير.

كما تتجه البيوت المعاصرة إلى تحقيق عوامل الكفاءة الوظيفية من حيث توفير خصوصية تامة لكل فراغ وفصل فراغات نوم الوالدين عن الأبناء، والمعيشة عن استقبال الضيوف، وضم فراغ التخزين الذي كان موجوداً تحت سدة النوم إلى المطبخ، الذي أصبح يحتل مساحة كبيرة بعض الشيء بعدما كان يحشر تحت السلالم في أغلب البيوت المتوسطة الحجم. وهي جميع الأنشطة التي كانت تمارس في فراغ واحد يسمى في البيوت التقليدية" دار القبو أو دار القبول".

كذلك تمّ طرح بعض الأفكار حول عناصر تأثيث هذه البيوت مثل المطابخ المبنية من الطوب والتي تتوفر فيها جميع الأدوات المطبخية الحديثة، الصالون المبني من الطوب أيضاً، كذلك الدواليب الحائطية، عودة السدة كفراغ للنوم بدلاً من الأسرّة المتعارف عليها في وقتنا هذا. وقد تم تنفيذ أغلب هذه المقترحات في البيوت المعاصرة التي تستوحي فكرتها من النموذج التقليدي للبيوت الليبية. ويمكنك الرجوع للرسومات والصور المعروضة في مدونة الميراث. والتي يمكن إرسالها لك إذا استدعى الأمر.

كذلك بدأ الاتجاه بعد طرح الأفكار التصميمية ومعالجة مسألة الهوية المعمارية للبيوت الطرابلسية المعاصرة، إلى البحث عن مواد بناء يمكنها تحقيق الكفاءة البيئية مثل البناء بالطوب الرملي أو الطوب الطيني أو الترابي. حيث بدأ في ليبيا الشروع في تركيب مصنع الطوب الرملي. والذي في حالة استكماله ستتحقق مشاريع تتوفر فيها إلى جانب ما سبق طرحه، الكفاءة البيئية التي تغني عن استخدام مكيفات التبريد وسائل التدفئة الصناعية التي تستهلك طاقة كبيرة. إلى جانب أنها ستقلل من تكلفة تنفيذ المباني، والعودة لنظام الحوائط الحاملة، التي تختصر زمن التنفيذ والتكلفة. كل هذه الخطوات تحقق عوامل الاستدامة.

السؤال الرابع/ في إحدى المقالات اقترحتم دعوة للحوار حول البيت العربي وكيف تواجه الصعوبات التي تمنع من إحياء هذا النوع من الاسكان، كبديل للسكن الشائع اليوم. ما هي اسبابكم وراء فتح هذا الحوار؟

الإجابة/
هذه الدعوة جاءت بناءً على معطيات واقعية يعاني منها المجتمع الليبي، الذي تمّ فرض نموذج العمارات السكنية عليه كحل وحيد لأنماط ونماذج السكن في ليبيا التي تتبناها الدولة في عهد المقبور، والذي تمّ تعميمه على جميع شرائح المجتمع، ولم يستثن منه إلاّ الحاشية المرتبطة بالقيادة الحاكمة في تلك الفترة، والذين استطاعوا بالأموال المنهوبة من شراء الفلل وبناء القصور والاستراحات في مزارعهم.

هذا النوع من المشاريع الإسكانية( نموذج العمارات السكنية) بني بالحد الأدنى من المواصفات مع الانعدام الكلي للمرافق الخدمية، بل وصل الأمر في مشروع منطقة إنجيلة الإسكاني، أن جاء مفتقرا لخدمات الصرف الصحي، مما حدا بمن سكنوا تلك العمارات إلى حفر آبار سوداء لحل المشكلة.

هذا الأمر، إضافة لافتقار المساكن التي ينفذها الأفراد للكثير من المقومات المعمارية والتخطيطية والاجتماعية والاقتصادية والمعالجات المناخية، كذلك افتقارها للطابع المعماري الذي يعبر عن هوية المدن الليبية بتنوع ثقافاتها وبيئتها الجغرافية، وانتشار البناء العشوائي الذي يفتقر للتخطيط، كل ذلك كان الدافع لهذه الدعوة لفتح باب الحوار حول مستقبل العمارة في ليبيا بصفة عامة ومشاريع الإسكان بصفة خاصة.

السؤال الخامس/ كذلك هل لديكم مبررات تدفعكم للأخذ بعين الاعتبار مفهوم البيت المعاصر (الصورة المعاصرة للبيت التقليدي) الحوش العربي وأين هذا الحوار من صانعي القرار فيما يتعلق بسياسات الإسكان في طرابلس؟

الإجابة/
المبررات مستمدة من الوعي بالمسؤوليات الملقاة على عاتق المعماري للبحث دائما عن حلول للمعضلات البيئية السكنية التي تواجه المجتمع، وطرح الحلول من خلال البحث عن أفكار تصميمية جديدة، قد ترتبط بثقافة المجتمع وقد تتنافر معها، وهنا كان الانحياز لتاريخ وثقافة وهوية المجتمع هو الخيار الأول والأخير، لقناعة بأن المجتمع قد تعرض لحالة استغفال من طرف الجهات الاستشارية والشركات الأجنبية التي تمّ تكليفها بإعداد الدراسات المتعلقة بتطوير المناطق وتصميم المشاريع الإسكانية ووضع مخططات المدن. وقد ساهم الوضع المتردي لمؤسسات الدولة في العهد السابق في زيادة تأزم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية من خلال فرض نموذج العمارات السكنية التي تفتقر للخدمات والمرافق.

ورغم كثرة المحاولات لعرض هذه الإشكاليات على المسؤولين في الدولة من خلال نشر المقالات بالصحف والجرائد والمشاركة في الحوارات عبر المحاضرات والبرامج التلفزيونية التي تمّ توجيه الدعوة فيها لعرض هذه الإشكاليات وتوصيل الصوت للمسؤولين، إلاّ أن الآذان صمّت عن الاستماع، ولم تؤثر كل المحاولات لإحداث فارق.

فقط كانت المبادرة بتبني هذه الأفكار من بعض المستثمرين أصحاب رؤوس الأموال الصغيرة بقبول فكرة تنفيذ بعض البيوت التي تتجه إلى إعادة إحياء نموذج البيت الليبي ذو الفناء، سواء النموذج الحضري أو النموذج الريفي. وعند الانتهاء من تنفيذ نموذج بيوت الضواحي في مدينة طرابلس كان الإقبال على زيارته بمنطقة السبعة بطرابلس كبيراً، وشجعت جميع الانطباعات على الاستمرار في هذا الاتجاه التصميمي.

أمّا نموذج البيت الطرابلسي المعاصر، وهو قيد التنفيذ في مرحلة التشطيبات، فقد استرعى اهتمام مجموعة من أصحاب رؤوس الأموال الراغبين في الدخول في مجال الاستثمار العقاري، وأبدوا رغبتهم بعد انتهاء جميع أعمال التشطيبات للمبنى في استنفار اصحاب رؤوس الأموال من معارفهم لتنفيذ مشروع إسكاني متكامل المرافق والخدمات يراعى فيه الاعتبارات التخطيطية والتصميمية للعمارة المحلية. هذا الأمر كان قبل قيام ثورة 17 فبراير، حيث كان الاستثمار العقاري يتعرض لمضايقات وعراقيل من الدولة.


والأمل في أن يأخذ هذا الموضوع مساره الصحيح بعد هذه الثورة التي أزاحت أكبر العراقيل التي تواجه تنفيذ مثل هذه المشاريع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية