أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأحد، ديسمبر 29، 2024

بين المظاهر والواقع: طرابلس كمرآة لمدننا وأحلامنا

 

صورة لأحد شوارع مدينة طرابلس في يوم ماطر

جمال الهمالي اللافي

الدخول في التفاصيل يكشف لنا ما خفي من الأشياء التي تبدو لنا من بعيد رائعة وجميلة. المناظر العامة لمدينة طرابلس التي يلتقطها المصورون المبدعون، علمتني أن لا أنخدع وانبهر بمظاهر الأشياء. فهذه مدينة أعلم جيداً كم هي بائسة ومثقلة بالقبح المعماري لمبانيها وفوضى العمران وتهالك البنية التحتية وتدني الخدمات والمرافق في كل تفاصيلها، ومع ذلك تظهر جميلة جداً في تلك الصور. فما بالكم بمدن وأشخاص وأشياء لا نعلم عنها شيئاً غير ما نراه في الصور الفوتوغرافية لمصورين يحترفون انتقاء الزوايا الجميلة."

صورة لآحد مناطق العاصمة في يوم ماطر

وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى ظاهرة مشابهة تُعرف بـ "متلازمة باريس[1]". تصيب هذه الحالة غالب السياح اليابانيين الذين يزورون باريس، حيث يشعرون بصدمة نفسية وخيبة أمل كبيرة عندما يجدون أن المدينة تختلف كثيراً عن الصورة الرومانسية المثالية التي كانوا يحملونها عنها. يشمل الواقع ازدحام الشوارع، التصرفات غير المتوقعة من بعض السكان، والتوترات اليومية في المدينة.

علينا أن نتذكر أن الجمال الحقيقي يكمن في التفاصيل، في الروح الحية للأماكن والناس في رقي الخدمات وسلامة البنية التحية للمدن. الصور الفوتوغرافية قد تعكس جمالًاً ظاهرياً، ولكنها نادراً ما تستطيع نقل الحقيقة الكاملة. لذلك، دعونا نتعلم أن نقرأ بين السطور، ونبحث عن العمق والجمال الحقيقي فيما نراه ونعيشه، لا في أوهام الصور.



[1]- "متلازمة باريس" تعكس بوضوح التناقض بين المظاهر والواقع، وتعزز الفكرة أن الصور المثالية التي نراها قد تكون بعيدة كل البعد عن الحقيقة. كذلك يمكن أن تكون تصوراتنا عن الأماكن مبنية على الصور والأفلام والروايات المثالية، بينما يكشف الواقع تفاصيل أخرى مختلفة.  

السبت، ديسمبر 28، 2024

المعماري المسلم: بين الشغف والمسؤولية

 

مشروع إسكاني إستثماري لذوي الدخل المحدود- تم تطبيق معايير العمارة البيئية عليه


جمال الهمالي اللافي

ليس كافياً أن تكون شغوفاً بمجال العمارة منذ حداثة سنك. فالأهم من ذلك أن تعرف كيف تسير في دربها الصحيح مهما صعبت عليك مشاقه. وألاّ تنحرف عنه إلى تلك الدروب التي بداياتها تشع بالأضواء المبهرة، لتجد نفسك في نهاياتها تسير في دروب كالحة السواد، نهاياتها جرفٌ هارٍ. العمارة مسؤولية شرعية وأخلاقية تجاه مجتمعنا المسلم. فكر دائماً فيما تصممه، لماذا ولمن؟

الفرق بين القدرة والقناعة

هناك فرق كبير بين أن تُعجزك قدرتك على فعل الشيء، وبين أن تُعجزْ قناعاتك قدرتك على فعل الشيء نفسه. التماهي في التصميم المعماري مع العمارة الغربية ليس بالأمر الصعب على من يمتلك القدرة يقيناً. ولكن عندما تقف القناعات والمبدأ أمام هذه القدرة، لتصنع لها مساراً يلتزم بالمسؤولية في الحفاظ على قيم المجتمع من التحلل والتفسخ بفعل تأثيرات عمارة دخيلة تناقض في منطلقاتها الفكرية وأشكالها المعمارية، معتقدات المجتمع الدينية والأخلاقية، بالإضافة لمعطيات البيئة الحلية، فتلك هي القدرة بعينها.

المسؤولية تجاه المجتمع

القدرة الحقيقية لا تسقط أمام إغراءات المادة ومتطلبات الشهرة ولا انحراف المجتمع عن قيمه ومعتقداته الدينية تحت تأثير تعليم فاسد وإعلام مُضلل. إعادة قيادة المجتمع لتصحيح مفاهيمه الخاطئة، وإنقاذه من الانحراف عن جادة الصواب، هو الثمن الغالي الذي يدفعه المعماري المسلم، ولا يقبضه إلاّ رضاً عن كونه ينتمي لهذه العقيدة السمحاء وهذه الأمة العظيمة.

نحو عمارة مستدامة وقيمية

المعماري المسلم يجب أن يكون دائم التفكير في تصاميمه، وألا ينحرف عن المبادئ الأساسية التي تحافظ على قيم المجتمع وأخلاقياته. العمارة ليست مجرد أشكال وتصاميم، بل هي رسالة وقيم يجب أن تعكس هوية المجتمع وانتماءه الديني والثقافي.

استخدام المواد المستدامة والتصاميم البيئية يقلل من الأثر البيئي ويضمن التناغم مع الطبيعة. كما أن توظيف التكنولوجيا الحديثة يساهم في تعزيز القيم الإسلامية في التصاميم، من خلال استخدام البرامج الحاسوبية وتقنيات البناء المبتكرة، يمكن للمعماري المسلم إنشاء تصاميم مستدامة وجميلة تعكس هوية المجتمع.

الجمعة، ديسمبر 27، 2024

بيان وتوضيح

 

دار نويجي للثقافة - القنصلية الانجليزية سابقاً- مدينة طرابلس التاريخية

 مشرف المدونة: جمال الهمالي اللافي

أعلم أنني لست واقفاً على بحر من المعلومات في مجال اختصاصي، بل قد لا أكون حتى واقفاً على رماله. ولست باحثاً تاريخياً يخوض في أعماق كتب الغابرين. ما لدي من معلومات شحيحة لم ولن أبخل بنشرها على مدونتي "الميراث". فمن وجد فيها ضالته، فأهلاً به، ومن لم يجد، فليلتمس لي العذر.

أنا مصمم معماري، أسعى بتوفيق الله لإعادة تأصيل عمارتنا المحلية. إن وُفقت، فبفضلٍ من الله. ورغم شح الطلب عليها، إلاّ أنني أواصل اجتهادي في هذا الاتجاه بلا تردد. يكفيني منها إقبال القليل ممن يعي قيمة ما أقدمه. فالعبرة ليست بالكثرة، وإنما بما ينفع الناس.

لا أبخل بتقديم المساعدة في مجال اختصاصي واهتماماتي البحثية المرتبطة بالعمارة المحلية. ودائماً ما تكون غايتي من هذه المساعدة فتح آفاق بحثية جديدة لي ولمن استعان بي، فأنا أجد الإلهام فيها من خلال تساؤلات طالبي مساعدتي وعناوين بحوثهم. أعتذر فقط لأولئك الذين يبحثون عن معلومات قد تكون بعيدة عن مجالي واهتماماتي البحثية، فأنا أؤمن بأهمية البحث والاجتهاد الشخصي في تحقيق المعرفة والإنجاز، فذلك أفضل لمن أراد الارتقاء في مدارج العلم والمعرفة.

 

دعوة للمساهمة:

أدعو كل من يمتلك بحوثًا، دراسات، مقالات، أو مشاريع معمارية – أو مشاريع في أي من مجالات التصميم الداخلي والصناعي والحرفي والفني - تتعلق بالعمارة المحلية وتاريخها، للمساهمة في تعميم المعرفة بموروثنا الثقافي والحضاري من خلال مدونة "الميراث". إن مشاركتكم تعزز من قيمة المحتوى وتساهم في إحياء العمارة التقليدية والمحافظة على تراثنا المعماري، وتسهم بعون الله وتضافر الجهود في صناعة حاضر العمارة الليبية ومستقبلها.

لنسهم معًا في هذا الجهد المشترك لنشر المعرفة والإلهام، ولنعمل على بناء جسور تربط بين الماضي العريق والمستقبل الواعد. إن إسهاماتكم القيمة ستكون بمثابة الشعلة التي تضيء طريق الأجيال القادمة نحو فهم أعمق واحترام أكبر لتراثنا المعماري والثقافي.

غربة المعمار: عندما تفشل العمارة في التواؤم مع البيئة الثقافية

  

حوش قنابة بمدينة طرابلس التاريخية

جمال الهمالي اللافي

    توجد علاقة لازمة لا يمكن إغفالها بين عادات وتقاليد وقيم وطبائع الشعوب وبين عمارتهم. فإن أي عمارة هجينة يصممها المعماري أو يطلبها منه قاصده، ستبوء بالخذلان لمستعملها حين يكتشف أنه غير قادر على التواؤم معها والشعور بالراحة فيها. مهما أبدع المعماري في تصميمها ومهما أسرف المستعمل في تشطيبها وتأثيثها، ستبقى العلاقة بينهما مفصومة.

كغريبين يبحثان عن التوافق، ولا توافق بينهما.

الخميس، ديسمبر 26، 2024

الثقافة المعمارية بين التأصيل والاغتراب: نقاش حول بنيوية العمارة المحلية


 جمال الهمالي اللافي

مقدمة

تُثار العديد من الأسئلة حول كيفية اكتساب الثقافة المعمارية وما إذا كانت تأتي من كثرة المطالعة للمراجع الأجنبية أم من معايشة البيئة المحيطة. في هذا الحوار، نعرض آراء مجموعة من المعماريين والمهتمين بالعمارة المحلية في ليبيا، ونسعى لاستكشاف جوانب هذه القضية المهمة.

الحوار:

جمال الهمالي اللافي:  هل الثقافة المعمارية تُكتسب بكثرة المطالعة للمراجع الأجنبية، أم تُورّث من كثرة معايشة البيئة المحيطة؟ سؤال موجه للمعماري الممارس للمهنة وليس للطلاب على مقاعد الدراسة بأقسام العمارة.

محمد الرمالي: العمارة ليس لها حدود، فهي مرتبطة بمواد البناء وكيفية الوضع الاجتماعي والمناخي لكل بلد.

 رضا عون: لا أعتبر نفسي معماريًا، لكن لدي خبرة ثلاث سنوات ونصف في العمل في محجر لقص وقطع الحجر الطبيعي في أوروبا. في ليبيا، ألاحظ أن الكثير من المتخصصين يهملون التفاصيل الصغيرة، رغم أهميتها الكبيرة في البناء.

محمد الشيخ: من وجهة نظري، المتابعة للبيئة وعلاقتك بالوظائف حولك مهم، ولا مانع من الاستعانة ببعض المصادر الأخرى لزيادة المعرفة ومعرفة ثقافات وتراث الشعوب. كل تجربة لها مميزاتها وعيوبها، ويمكننا الاستفادة من الجميع.

 رمضان بلقاسم: الثقافة، من وجهة نظري، هي مجموعة القيم التي يكتسبها المعماري، ومصادرها متعددة. هذه القيم هي التي توجه أو تتحكم في المواقف التي قد يتخذها المعني.

جمال الهمالي اللافي:  أتفق معك دكتور رمضان في تعدد مصادر الثقافة. ولكن هل نعتبر أن مطالعة المراجع، رغم قيمتها العلمية، تضيف شيئًا لواقع الحال في البلدان التي تتعارض معه بيئيًا وتقنيًا؟ الهدف من هذا الطرح هو الدعوة لتعزيز تواصل المعماري الليبي أكثر مع بيئته الجغرافية والثقافية، والبحث عن حلول عملية لإشكالياتها. شكرًا لمداخلتك القيمة.

Rio Tripoli: الثقافة المعمارية تأتي من الجمع بين المطالعة والنهل من كل ما يتيسر، وبين ما نستمده من بيئتنا. المعرفة لا حدود لها ولا قيود، لكن الاستخدام هو بيت القصيد وفي ذلك كلام كثير.

جمال الهمالي اللافي: "المهم في طرح الموضوع هو كيف ننهل من المعرفة التي يمكننا الاستفادة منها، لا تلك التي نتباهى بمعرفتنا بها.

 شيماء عويدات: أنا مهندسة ولدي أصدقاء معماريين يتأثرون بثقافات ومعارف مكتسبة من الدراسة والتطلع، لكنهم أيضًا يتأثرون بالطابع المعماري الليبي والإسلامي، ودائماً ما يحدثوني عنه، فأحببته من خلالهم.

ليلى شلادي: العمارة يجب أن تعالج المشاكل القائمة، سواء كانت اجتماعية أو بيئية أو اقتصادية. لذا تعتمد على دراسة البيئة والمحيط، ويمكن الاستفادة من الثقافات الأخرى في طريقة التفكير وأسلوب العلاج، وليس بنقل الأفكار مباشرة.

 رمضان أحمد: الثقافة المعمارية تأتي من المطالعة والمعايشة معاً.

Alamira Ben: من خلال المطالعة والمواكبة والممارسة. خاصة في عصر التطبيقات والإنترنت، تجد ما تحتاجه بتفاصيله ومواد تنفيذه وأساس فكرته.

سمية الأربد: هل البيئة المحيطة مصدر للثقافة المعمارية؟

جمال الهمالي اللافي: ليس في ذلك أدنى شك، فهي المرجع الأساسي لكل معماري.

طارق دياب: في سنوات الدراسة، طلب منا أستاذنا أحمد امبيص أن نقوم بجولة في محيط مدينة طرابلس، ويقوم كل طالب باختيار عنصر معماري لدراسته. بالنسبة لي، هذه التجربة فتحت آفاقًا كثيرة في عقلي، وجعلتني أدرك أهمية دراسة المحيط والخروج بحلول معمارية مبنية على تجارب سابقة، ومحاولة إيجاد حلول تناسب الظروف الراهنة.

جمال الهمالي اللافي:  بارك الله فيك مهندس طارق على سرد هذه التجربة مع الأستاذ أحمد امبيص، وعرضك للخلاصة التي توصلت إليها، ففيها جزء كبير من المستهدف من هذا الطرح.

أصيل الشيخ: في اعتقادي، المطالعة تساعد في معرفة العالم أين وصل وشن صار. لكن المطالعة الأكاديمية وحدها ليست كافية، فالبيئة المحيطة قد تكون طاردة إذا لم يكن هناك توجيه سليم. أفضل التوازن بين الممارسة والتجربة، مع مواكبة كل جديد ومحاولة تطوير النفس."

محمد ابورقيقة: هناك مثل يقول: (اللي ما ليه قديم، ما ليه جديد). المثل يتحدث عن أهمية التاريخ والحضارة السابقة. العمارة يجب أن تقف على أرضية صلبة تستمد من ماضيها لتتمكن من التبحر في العوالم الجديدة.

دعاء عبدالكريم: أنا عن نفسي أحس روحي في دوامة. كل جهة لديها أنماط معينة في التصميم، وأنت كمعماري تتبعها حسب تعاقدك معهم. كأنه سوق تجاري أكثر من كونه علم. أبحث عن نصيحة لأجد نفسي في العلم والفن.

جمال الهمالي اللافي: مشاركة متميزة جدًا م. دعاء، تضع مبضع الجراح على مكمن الداء في ممارسة المهنة والتعليم المعماري. رغم وضوح الرؤية عندي، إلا أن الرد على طلبك يحتاج مني لوقت لصياغته بصورة مختصرة. يمكنك من حيث المبدأ الاطلاع على منشوراتي بموقع الانستغرام، حيث حاولت اختصار الكثير من المواضيع على شكل بطاقات.

Gaida Mon: أنا عايشة في صراع بين ارتباطي بالمجلات المعمارية الأجنبية وجمال المعمار المحلي الذي عرفته من خلال منشوراتك. هل لأننا تم تدريسنا عليه كتاريخ فقط، أم أنا من أسأت الفهم؟ أضيف إلى ذلك أن جهات العمل تفرض علينا أشياء معينة، وإذا رفضنا يكون الرد بأننا موظفون، مما يجعلني أفكر في الاستقالة باستمرار. في العمل الخاص، أجد صعوبات أخرى بفرض صاحب المكتب أو رأي الزبون الذي يعتبر المعمار المحلي موضة قديمة.

جمال الهمالي اللافي: كلامك عميق م. غيداء، فهو يخوض في تجربتين، مطالب المنهج الدراسي والممارسة. في فترة دراستي بقسم العمارة، لم يكن أحد يرغب في تدريس العمارة المحلية. في ممارسة المهنة، فضلت الالتحاق بالعمل بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة بطرابلس، وفي القطاع الخاص، فضلت فتح مكتب مشترك مع بعض الزملاء لأجل أن أتسيد بأفكاري. من يحمل فكراً ورؤية عليه الاستقلال بنفسه، وهذا ما أفعله الآن.

لمياء سامي دخيل: المطالعة والبيئة والتأمل والربط بينهم يجعل منك معمارياً.

جمال الهمالي اللافي:  ماذا لو تفاجأتي أن مطالعة الكتب الأجنبية لا تتفق مع واقع الحال، فتتحول لزمن مهدور فيما لا ينفع؟

لمياء سامي دخيل: وارد جدًا، لذا الاعتماد على الأفكار يكون له نتائج أفضل.

جمال الهمالي اللافي:  لدينا مدن تاريخية يمكن أن تكون شاهداً ومرجعاً يربطنا بالواقع. علينا الاسترشاد بها والاستلهام منها، وتوظيف تقنيات العصر المتاحة في السوق الليبي.

علي شيبو: البيئة المحيطة فقيرة جدًا وملوثة أيضًا، لذا لابد من تغذية ذاكرة المهندس المعماري بالاطلاع على ما هو موجود في الحضارات المعمارية القديمة والحديثة.

جمال الهمالي اللافي:  البيئة التاريخية والطبيعية المحيطة زاخرة بالمعالم والدروس. التغذية من الخارج لن تفيد إذا كنت ترى أن البيئة فقيرة، لأن ما وصل العالم إليه اليوم لن تستطيع تطبيقه.

علي شيبو: قد تكون الأمور أفضل لو طبقنا ما وصل إليه العالم قبل مئة عام.

جمال الهمالي اللافي:  حتى لو تعارض مع معطيات بيئتنا وقيمنا؟ ألا ترى التخبط الذي يعايشه المجتمع الليبي جراء محاولاتهم المستميتة تطبيق كل ما أتى به الغرب؟ ألا ترى أن الغرب قد عاد يبحث عن عمارة الطين والتراب والرمل والعمارة الخضراء والتنمية المستدامة وكفر بما هو عليه؟

علي شيبو: ربما ما أقصده هو أن نستفيد من دراسة ما قام به الآخرون، خاصة في كيفية التفكير والأهداف المرجوة من أي عمل معماري. أيضاً، أسس المعمار تكاد تكون واحدة حول العالم. بينما البيئة المحلية، وهنا أقصد البيئة الحديثة في الخمسين عامًا الأخيرة، لا تعلمك حتى أسس التصميم المعماري.

ElHassan Ibn: الثقافة المعمارية هي فلسفة تجمع بين منظومة معرفية متعددة الموارد والواقع الاجتماعي والأصالة لكل أمة. أي كلا الأمرين معاً.

خاتمة:

من خلال هذا الحوار، يتضح أن الثقافة المعمارية هي مزيج من التجارب والمعارف المكتسبة من البيئة المحلية والمراجع العالمية. تعزيز تواصل المعماريين مع بيئتهم الجغرافية والثقافية والبحث عن حلول عملية يتطلب توازناً بين استلهام التراث والانفتاح على التطورات الحديثة. نسعى جميعًا للحفاظ على هويتنا المعمارية وتعزيزها، مع التطوير المستمر والاستفادة من جميع المصادر المتاحة.

 

حديث حول الجمال المفقود


جمال الهمالي اللافي

أتذكر الجملة الوحيدة التي احتفظت بها للأستاذ فؤاد الكعبازي (رحمه الله) خلال فترة عملنا بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة بطرابلس، حيث قال: "إن الإنسان عندما يتآلف مع القبح نتيجة المعايشة اليومية، يصبح في عينه جميلاً".

لهذا السبب تداوم وسائل الإعلام المختلفة، خاصةً تلك المسيسة، على تكرار العديد من المشاهد القبيحة التي تمجها النفس وتنفر منها العين، بسبب شناعتها ووضاعتها وشذوذها. الهدف من هذا التكرار هو أن تتعود عليها العيون وتتآلف معها النفوس، فيصبح بعدها المرفوض مقبولاً والممجوج مستساغاً والمستقبح بهاءً والمنكر حسناً.

التوثيق والدراسات

تدعم الأبحاث هذا الطرح، فقد وجدت دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا، بركلي، أن الإعلانات التي تظهر في وسائل الإعلام تؤثر بشكل كبير على تصورات الأفراد حول الجمال والقبح. وأظهرت دراسة أخرى من جامعة ستانفورد أن الأفراد الذين يستمتعون بمشاهدة الأفلام والمسلسلات التي تتضمن مواضيع جمالية وقبحية يظهرون تأثيرات ملحوظة في تصوراتهم حول الجمال والقبح. كما بينت دراسة أجرتها جامعة أوكسفورد أن الإعلانات التي تعرض في وسائل الإعلام تسهم بشكل كبير في تشكيل تصورات الأفراد حول الجمال والقبح.

ومع مرور الأيام والمداومة على المشاهدة، تتحول النفوس والعقول إلى حالة التماهي مع هذا القبح، لدرجة أنه يبدو في عيونهم كحق ضائع انتصفت له العدالة من ظالميه، وجمالاً كان محتجباً عن الأنظار فكشفت عنه الأستار لناظريه.

السؤال الأساسي

والسؤال الذي يطرح نفسه علينا بإلحاح: لماذا تتفق كل وسائل الإعلام في أخبارها، ومؤسسات التعليم في مناهجها، ودور الثقافة في مناشطها على الترويج للقبح وترسيخه في نفوس المتلقين؟

 في النهاية، يجب أن نتساءل عن دورنا كأفراد في مواجهة هذا التغيير السلبي في تصورات الجمال والقبح. هل نختار أن نكون مجرد متلقين للمحتوى الذي يُعرض علينا، أم نختار أن نكون ناقدين ومدركين لتأثيره علينا؟

قد يكون الوقت قد حان لإعادة تقييم ما نراه ونقبله كجميل أو قبيح، واستعادة المعايير التي تعكس القيم الحقيقية لجمال الحياة.

الأربعاء، ديسمبر 25، 2024

العمارة: لغة تعبير تعكس القيم والمجتمع

 

جمال الهمالي اللافي

مقدمة

العمارة هي لغة ووسيلة تعبير، تُضاف إلى وسائل التعبير الأخرى التي يلجأ إليها الإنسان للتعبير عن ذاته وتلبية احتياجاته المادية والعاطفية. لذلك فهي تخضع لمجموعة من النظم والقواعد كغيرها من اللغات. وتمتلك مجموعة من الأدوات التعبيرية التي تتحكم في مسار العملية التصميمية أولاً، وتمكّن المعماري من رسم ملامحها وصياغة تعابيرها ثانياً. ومن ثم يسهل قراءتها وفهم المضامين التي تحملها والرسالة التي تسعى لإيصالها إلى المتلقي عبر تكويناتها الفراغية وتشكيلاتها الجمالية بأبعادها الثقافية.

مشكلات العمارة المعاصرة

تخيل شابًا يتخرج من كلية العمارة، ممتلئًا بالحماس لكنه يفتقر إلى الأدوات الأساسية للتعبير عن أفكاره المعمارية. للأسف، معاناة العمارة المعاصرة من غياب لغة تحكمها قواعد ونظم، تقابلها ضعف شديد في اللغة المحكية عند أجيال اليوم التي لم تعد أيضاً تحكمها قواعد. وكلتا الحالتين هما نتيجة لانهيار منظومة القيم الأخلاقية في المجتمعات المعاصرة، مما ترتب عليه انهيار المنظومة التعليمية على مختلف المستويات.

انعكاس القيم الأخلاقية والتعليمية على العمارة

في أحد الأيام، جلس هذا الشاب أمام شاشة الكمبيوتر، يحاول بكل جهد أن يصمم مبنى يعبر عن رؤيته. لكنه وجد نفسه يتلعثم في أفكاره، مثل الطالب الذي يتخرج من الجامعة وهو لا يستطيع كتابة جملة مفيدة ويتعتع في قراءته. هذا الشاب هو نفسه الطالب الذي يتخرج من كليات العمارة وأقسامها وهو لا يمتلك القدرة على التحكم في أدوات التعبير عن أفكاره المعمارية بالصورة الصحيحة. يتطلب ذلك إخضاع الأفكار للمنظومة القيمية للمجتمع الذي ينتمي إليه المعماري بعقيدته وثقافته ومعطيات البيئة التي تتحكم في مسارات العملية التصميمية ويفترض به مراعاتها في أي مشروع معماري يكلف به.

الابتكار والتحديات في العمارة المعاصرة

نتيجة لفقره المعرفي وقصوره الإدراكي، يلجأ الطالب إلى ابتكار وسائل تعبير مستوردة يغلب عليها الارتجال وعدم التناسق والتمرد على أي ضوابط أو قواعد تحكم العملية التصميمية. تخيل مبانٍ جديدة تفقد هويتها، مفتقرة للمعنى، غير قادرة على التفاعل مع بيئتها المحلية. هذه العمارة تُروج لها عبر وسائط الإعلام التي تضم بداخلها أشباهه من مخرجات مدارس التسطيح المعرفي والتفريخ الكمي. دعاة الفن لأجل الفن وحرية الإبداع التي لا تقيدها قواعد ولا تلزمها ضوابط ولا تربطها جذور.

حقائق علمية ومؤشرات

وفقًا لدراسات متعددة، تظهر الأرقام أن تدهور مستوى التعليم له تأثير مباشر على جودة المهن الفنية والمعمارية. على سبيل المثال، تقرير من منظمة اليونسكو يشير إلى أن نسبة الخريجين الذين يمتلكون مهارات كتابية وتعبيرية متقدمة قد انخفضت بنسبة 30% خلال العقد الأخير. هذه الأرقام تسلط الضوء على الفجوة الكبيرة بين التعليم النظري والعملي وأثرها على جودة العمارة المعاصرة.

العمارة كمؤشر أخلاقي

وبالتالي، نعود هنا لنقول إن العمارة ما هي إلا مرآة عاكسة لحالة أخلاقية. فانهيار الأخلاق أدى بدوره إلى انهيار التعليم وتفسخ الثقافة واضطراب العلاقات الإنسانية داخل المجتمع الواحد، بحيث أصبحت هذه كلها تقع في أسفل سلم الأولويات وفي آخر قائمة الاهتمامات لدى أفراد المجتمع وقياداته السياسية وخبراته الاقتصادية.

خاتمة

العمارة ليست مجرد بناء، بل هي تعبير عن القيم والمعتقدات والعلاقات في المجتمع. إن الانهيار الأخلاقي والتعليمي الذي نشهده في المجتمعات المعاصرة ينعكس بشكل واضح على جودة العمارة وأصالتها. لذا، فإن إعادة بناء منظومة القيم الأخلاقية والتعليمية تعد خطوة ضرورية لإعادة الارتباط بجذورنا وتحقيق عمارة تتوافق مع هويتنا الثقافية وتلبي احتياجات بيئتنا المحلية.

العمارة: التزام ومسؤولية

 


جمال الهمالي اللافي


مقدمة

خطابي المعماري لا يندرج تحت مسمى "عمارة الفقراء" التي دعا إليها حسن فتحي، ولا أتبع منهجه. إنما ألتزم بمنهجي الخاص، الذي دخلت لأجله إلى قسم العمارة، والذي يشمل جميع فئات المجتمع بغض النظر عن وضعهم المادي. هدفي هو تقديم حلول معمارية متكاملة تُخاطب الجميع، سواء كانوا من الطبقة القادرة على تحمل تكاليف البناء، المستثمرين، أو مشاريع الدولة.

أهمية احترام الذات والاعتزاز بالهوية

بالنسبة لقناعة المجتمع الليبي بالعمارة المحلية، أراها مسألة تتعلق باحترام الذات والاعتزاز بها عند أفراد المجتمع. عملية التدمير الممنهج التي تعرض لها المجتمع خلال الخمسين عامًا الماضية أوصلته إلى الشعور بالدونية في مقابل الآخر وما عند الآخر. زد على ذلك السلوك الغوغائي لأساليب التدريس ومنهج قسم العمارة المغترب والمعادي لأي محاولة لتأصيل العمارة المحلية والعمل على قهرها وعرقلة حراكها. لهذا، يقع المعماري في هذا الوحل وهذا التناقض بين الإعجاب بالعمارة التقليدية ورفض التعاطي معها في المشاريع المعاصرة.

قصص واقعية وأمثلة

عندما بدأت مشواري المهني في تصميم المباني، واجهت العديد من التحديات في إقناع العملاء بأهمية العمارة المحلية. على سبيل المثال، عملت على تصميم عدة مشاريع سكنية تجمع بين المعاصرة واللمسات المعمارية التقليدية. على الرغم من الصعوبات التي واجهتها، نجحت في إقناع العملاء بجدوى التصميم المحلي، وكانت النتيجة رائعة. أصبحت هذه المشاريع نموذجًا يحتذى به، حيث استعان بها طلبة الدراسات العليا الليبيين في رسائلهم كنماذج لتأصيل العمارة المحلية، مستدلين بها على أن العمارة المحلية يمكن أن تكون معاصرة وجذابة في نفس الوقت.

غياب التآزر بين المعماريين

غياب تظافر جهود المعماريين (حسب التربية التي تلقوها على مقاعد قسم العمارة) جعلهم يعيشون حالة من التصادم والتشرذم والتقوقع على ما يمكنهم تقديمه وليس ما يفترض بهم تقديمه. يدافعون عن ذلك دفاع المستميت من أجل قطعة عظم. هذا الاتجاه يعد أحد الأسباب التي ساهمت في عزوف المجتمع عن التعاطي مع عمارته المحلية المعاصرة والخوف منها، في غياب دعم التوجه إليها.

التوثيق والإحصاءات

وفقًا لتقرير منظمة اليونسكو لعام 2020، فإن نسبة الخريجين الذين يمتلكون مهارات تصميم معمارية تقليدية لا تتجاوز 20%. هذا الانخفاض يعكس الفجوة الكبيرة بين التعليم المعماري الحديث واحتياجات السوق المحلية. إضافة إلى ذلك، تشير الدراسات إلى أن 70% من مشاريع البناء في ليبيا تتبع تصميمات مستوردة، مما يؤثر سلباً على الهوية المعمارية المحلية.

الإيمان بالنوايا

إنما الأعمال بالنوايا. فإما لدنيا يصيبها أو لآخرة. ولكل امرءٍ ما نوى. تذكر أيها المعماري أننا نحمل مسؤولية العمارة في بلادنا، وسنُسأل عنها يوم القيامة. تأثيرها في سلوك الناس وأخلاقهم عظيم، إما تقودهم إلى الخير أو إلى الشر. فمن سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سنّ سنة سيئة فله إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم الدين. العمارة ليست أكل عيش، بل هي مسؤولية في رقبة كل معماري.

خاتمة

العمارة هي انعكاس لهويتنا وقيمنا كمجتمع. من خلال التزامنا بالتصميم المعماري المحلي وتكريس الجهود لدعمه، يمكننا تعزيز الهوية الثقافية والإسلامية لبلادنا. دعم العمارة المحلية ليس مجرد خيار، بل هو واجب ومسؤولية نحملها جميعًا. لنكن رواد التغيير ونسعى لبناء مستقبل معماري يعكس قيمنا وهويتنا. وفقنا الله وإياكم لكل خير وأعاننا عليه. وجعل نياتنا فيه خالصة لوجهه الكريم.

 

العودة إلى البساطة: درس من حياة امرأة

 


جمال الهمالي اللافي

مقدمة

في عالم اليوم، نجد أنفسنا نتسابق لبناء القصور الكبيرة والفيلات الفارهة، متجاوزين احتياجاتنا الأساسية وغارقين في ملذات الحياة وبهرجتها. لكن هل حققت لنا هذه الحياة الفاخرة السعادة التي ننشدها؟

القصة الواقعية

بدلاً من ذلك، دعونا نتأمل في قصة امرأة تعيش حياة بسيطة ولكن مليئة بالاكتفاء. في أحد الفيديوهات القصيرة التي لا تتجاوز العشر دقائق، تظهر هذه المرأة وهي تحاول في برد الشتاء وعز المطر أن تضع فراشًا من النايلون على سطح حجرة لا تزيد أبعادها عن 3×3، وهي كل بيتها، لمنع تسرب قطرات المطر إلى الداخل. بعد أن فرشت النايلون وثبتته بمجموعة من الطوب الإسمنتي، قفزت من على سطح الحجرة برشاقة غريبة.

في داخل الحجرة، كانت بنتها البالغة من العمر ست سنوات ورضيع ينام في المهد، وبداخلها مدفأة. خرجت تحت رخات المطر وقطعت مجموعة من الأخشاب بالفأس وعادت لتضعها بالمدفأة، ثم بدأت في تحضير وجبة الغداء وعجنت الخبز وطهته على نار المدفأة.

التعلم من البساطة

هذا الفيديو، على الرغم من قصر مدته، يُخبرنا بالكثير من الحقائق التي أصبحنا نغفل عنها في خضم اللهاث على بناء القصور الكبيرة التي تخصص كل حجرة فيها لفرد من أفراد العائلة وتفيض عن الحاجة، إلى جانب مطبخ كبير للفرجة وآخر للطهي، وعشر حمامات وعشرون مكيفًا أو يزيد إلى جانب الأثاث الفخم وبلاط الجرانيت الغالي. ما الذي يجعلنا نعتقد أن الإسراف في الماديات سيجلب لنا السعادة؟ هل حقًا نحتاج إلى هذه الفيلات الفاخرة والمباني الشاهقة لنشعر بالرضا؟

حياة هذه المرأة مع بنتيها وزوجها، الذي يبدو أنه هو من يقوم بالتصوير، تلخص نقطة مهمة جداً. نحن انغمسنا في ملذات الحياة وبهرجتها والإسراف عليها بسخاء، مما جعلنا نصل إلى المرحلة التي افتقدنا فيها المعنى من وجودنا، إلى جانب متعة الحياة الحقيقية التي تعكسها بساطة العيش وليس تعقيداتها. كيف يمكن لحياة بسيطة في مساحة صغيرة أن تكون أكثر إشباعًا من القصور الكبيرة؟

التأمل في الفوائد

عندما نرى حالة الاكتفاء داخل هذا الفراغ الصغير، نستشعر مدى الإسراف المبالغ فيه في تشييد بيوتًا لم تحقق لنا السعادة التي ننشدها، بقدر ما أصابتنا بتخمة من الملل القاتل والعزلة بداخلها عن جمال الطبيعة بكل تنوعاتها. فقط جدران إسمنتية باردة كبرودة مشاعر ساكنيها، حتى فيما بينهم. هل فكرنا يومًا في تأثير هذه المنازل الكبيرة على علاقتنا مع الطبيعة ومع أنفسنا؟ هل نغفل عن جمال البساطة في سعينا وراء الكمال المادي؟

ربما يصادفكم هذا الفيديو أو غيره، الذي يحكي نفس القصة. وبالتأكيد ستخرجون منه بالكثير من العبر والدروس التي تنير بصيرتكم وتجلي بصائركم عن جمال موجود ولكننا لم نعد نستطيع رؤيته في ظل التهافت على تشييد الفلل الفارهة والعمائر الشاهقة. لماذا ننسى أن السعادة تكمن في اللحظات البسيطة والتفاصيل الصغيرة؟ كيف يمكننا إعادة اكتشاف قيمة البساطة والرضا في حياتنا اليومية؟

خاتمة

في النهاية، تذكروا أن سعادتنا ورضانا لا تأتي من الإسراف في الماديات، بل من البساطة والتقدير للأشياء الصغيرة التي تشكل حياتنا اليومية. لنعد التفكير في أولوياتنا، ولنستمد الإلهام من هذه القصص البسيطة كيف يمكن أن نجد السعادة في البساطة بعيدًا عن تعقيدات الحياة الحديثة. هل يجب علينا مراجعة أولوياتنا وإعادة التفكير في أسلوب حياتنا؟ لنكن رواد التغيير ونسعى لبناء مستقبل معماري يعكس قيمنا وهويتنا.

الخميس، ديسمبر 12، 2024

إستراتيجية تعليمية لتعزيز الهوية الثقافية في العمارة الليبية

 


جمال الهمالي اللافي

مقدمة:

في ظل التحولات السريعة التي تشهدها المجتمعات العربية عامة والمجتمع الليبي خاصة بعد الثورة الشعبية في 17 فبراير 2011، برزت الحاجة إلى إعادة النظر في الهوية الثقافية والمحلية، لا سيما في مجال العمارة. فقد تأثرت البيئة المعمارية التقليدية بشدة جراء الانغلاق السياسي والاجتماعي خلال العقود السابقة، وأصبح المجتمع يواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على موروثه الثقافي المعماري في ظل التغيرات الحالية. إن المزج بين الموروث المعماري التقليدي والابتكار المعاصر يعد السبيل الأمثل لتعزيز الهوية الثقافية وتحقيق الاستدامة البيئية والاجتماعية، من خلال تصميمات معمارية تحترم الموروث وتلبي الاحتياجات المعاصرة.

الهدف:

يهدف هذا البرنامج إلى تقديم تجربة تعليمية شاملة ومتكاملة تركز على دراسة وتحليل البيئات المختلفة في ليبيا، بما يشمل البيئات الساحلية، الريفية، الجبلية، والصحراوية. سيتمكن الطلاب من تطبيق المعرفة المكتسبة في تصميم معماري يجمع بين الأصالة والمعاصرة، مما يعزز من مهاراتهم الأكاديمية والعملية. سيتم تنفيذ هذا البرنامج كنشاط دراسي ضمن أحد الفصول الدراسية أو كنشاط صيفي مشترك بين كلية الفنون والتصميم وقسم العمارة والتخطيط العمراني بكلية الهندسة أو أي جامعة خاصة منضبطة بمعايير التعليم . من المتوقع أن يسهم البرنامج في تطوير جيل من المعماريين  وخريجي كلية الفنون والتصميم الذين يمتلكون فهمًا عميقًا للتراث المعماري المحلي وقدرة على الابتكار المستدام.

المنهج الدراسي:

المرحلة الأولى: البحث والتحليل (نصف الفصل الدراسي الأول(

اختيار أربع مدن، (كمقترح للسنة الدراسية الأولى وفي كل سنة دراسية بعدها يتم اختيار أربع مدن أخرى)

·         طرابلس كمثال للبيئة الساحلية.

·         ترهونة كمدينة ريفية.

·         غريان كمدينة جبلية.

·         غدامس كمدينة صحراوية.

إعداد بحث شامل عن كل بيئة يشمل:

·         التضاريس المناخية وتأثيرها على العمارة.

·         العادات والتقاليد الثقافية والاجتماعية.

·         أنماط العمارة التقليدية والتوزيع الفراغي.

·         مواد البناء والتشطيب المستخدمة.

·         طرق الإنشاء والتفاصيل المعمارية والزخرفية.

·         عناصر التأثيث والمفروشات والأواني التقليدية.

·     أعمال رفع لمسكن تقليدي يمثل نموذجاً متكاملاً للنمط المعماري لهذه المدن المقترحة، شاملاً كل التفاصيل المطلوبة ضمنه في شكل(مساقط أفقية موضحاً عليها الأبعاد ببرنامج الأوتوكاد، قطاعات توضح التفاصيل الداخلية والمناسيب، واجهات خارجية مع توضيح مناسيب الشارع، مجسم افتراضي ثلاثي الأبعاد ببرنامج اسكتش اب).

·         مجسم دراسي لهذا النموذج.

المناقشات الجماعية الأسبوعية:

·         تقديم ومناقشة نتائج الأبحاث بشكل جماعي لتعزيز التعاون وتبادل الأفكار.

خطوات عملية مطلوبة من كل طالب:

1.      الزيارات الميدانية: تشجيع الطلاب على القيام بزيارات ميدانية للمدن والقرى المختارة لجمع البيانات والمعلومات بشكل عملي.

2.   المقابلات الشخصية: تضمين المقابلات مع السكان المحليين والخبراء في مجال العمارة والتاريخ للحصول على رؤى أعمق عن البيئات الثقافية والاجتماعية.

3.      التوثيق الفوتوغرافي: تعزيز التوثيق البصري باستخدام الصور الفوتوغرافية والرسوم التوضيحية لتسجيل التفاصيل المعمارية والزخرفية.

المرحلة الثانية: التصميم التطبيقي(نصف الفصل الدراسي الثاني)

اختيار المواقع وتصميم المشاريع:

·         عدد من القطع المتجاورة (متلاصقة أو متقابلة، بعدد طلبة كل مجموعة.(

·         إعداد دراسة تحليلية للموقع في كل مدينة.

·         تحديد الفكرة الأساسية للتصميم المعاصر استناداً إلى البحث وتحليل الموقع.

·         تطوير التصميم المعماري للمسكن وتفاصيله المعمارية والزخرفية.

·         اختيار مواد التشطيب وعناصر التصميم الداخلي والمواد المصنعة لها.

·         تنسيق الموقع واستخدام النباتات المحلية في التصميم الداخلي والحدائق.

خطوات عملية مطلوبة من كل طالب:

1.   البرمجيات الحديثة: استخدام برمجيات التصميم المعماري الحديثة مثل AutoCAD و Revit لتسهيل عملية التصميم وتوضيح الأفكار بشكل دقيق.

2.      النماذج المصغرة: تشجيع الطلاب على بناء نماذج مصغرة للمشاريع المقترحة باستخدام مواد مختلفة لإظهار التفاصيل المعمارية والزخرفية.

3.      التصميم المستدام: تضمين مبادئ التصميم المستدام والبيئي في المشاريع لتحفيز الطلاب على التفكير في الحلول البيئية والاقتصادية.

المحاضرات الدراسية:

·         محاضرة عن كل بيئة دراسية توضح خصائصها المعمارية والقيم التي انطلقت منها.

التقييم الدراسي:

1.      معايير التقييم المتعددة الأبعاد:

·     الابتكار والإبداع: تقييم قدرة الطلاب على تقديم حلول تصميمية مبتكرة تجمع بين الموروث والتكنولوجيا الحديثة. يمكن استخدام مقاييس لتقدير مدى التوافق مع المبادئ الابتكارية.

·     الاستدامة: تقييم مدى استدامة المشاريع من حيث استخدام المواد المحلية، تقنيات البناء المستدامة، وتأثيرها البيئي. يمكن تخصيص جزء من التقييم لمراجعة المبادرات التي تحسن الاستدامة البيئية.

·     دمج العناصر التقليدية: تقييم قدرة الطلاب على دمج العناصر المعمارية التقليدية مع المتطلبات المعاصرة. يمكن استخدام نماذج تقييم لقياس مدى نجاح الدمج بين الموروث والتصميم الحديث.

2.      التقييم الجماعي:

·     جلسات النقاش الجماعية: تنظيم جلسات نقاش جماعية حيث يعرض الطلاب مشاريعهم ويقدمون تغذية راجعة لبعضهم البعض. يمكن أن تشمل هذه الجلسات عروضًا تقديمية ونقاشات حول التحديات والابتكارات التي تضمنتها المشاريع.

·     المراجعة من قبل الخبراء: دعوة خبراء في مجالات العمارة والتصميم المستدام لتقديم تغذية راجعة وتقييم المشاريع الطلابية. يمكن أن يكون هذا التقييم جزءًا من العلامة النهائية.

·     التقييم متعدد الأبعاد: تضمين جوانب مختلفة في التقييم مثل جودة البحث، دقة التحليل، الابتكار في التصميم، والقدرة على دمج العناصر التقليدية مع المتطلبات المعاصرة. يمكن تطوير استمارات تقييم تغطي هذه الجوانب.

الفوائد المتوقعة:

1.      التطوير المهني:

الفوائد للطلاب:

  • تعزيز المهارات العملية: يوفر هذا البرنامج للطلاب فرصة لتطبيق المعرفة النظرية بشكل عملي من خلال الزيارات الميدانية والمشاريع التطبيقية، مما يطور مهاراتهم العملية ويزيد من كفاءتهم.
  • تطوير القدرة على البحث والتحليل: يشجع البرنامج الطلاب على إجراء أبحاث معمقة وتحليل البيانات، مما يعزز من قدراتهم البحثية والتحليلية، وهي مهارات قيمة في سوق العمل.
  • اكتساب خبرة في استخدام البرمجيات الحديثة: من خلال استخدام برمجيات التصميم مثل AutoCAD وRevit، يكتسب الطلاب مهارات تقنية متقدمة تساهم في زيادة قابليتهم للتوظيف.
  • العمل الجماعي والتعاون: يعزز البرنامج من مهارات العمل الجماعي والتعاون بين الطلاب، مما يعدهم بشكل أفضل للعمل في فرق متعددة التخصصات في المستقبل.

الفوائد لسوق العمل:

  • تحضير كفاءات مؤهلة: يخرج البرنامج طلاباً مؤهلين ومجهزين بمهارات عملية ونظرية عالية، مما يزيد من تنافسيتهم في سوق العمل.
  • تنوع المهارات: تطوير مهارات متعددة في البحث والتحليل، التصميم، واستخدام التكنولوجيا يعزز من فرص الطلاب في الحصول على وظائف متنوعة في مجالات الهندسة المعمارية والتصميم الداخلي.
  • التوظيف السريع: يتمتع الخريجون بمهارات متقدمة تجعلهم مؤهلين للعمل مباشرة بعد التخرج، مما يقلل من فترة البحث عن العمل ويساعد في سد الفجوات في السوق.

2.      الابتكار والاستدامة:

الفوائد الأكاديمية والمجتمعية:

  • تعزيز الابتكار: يشجع البرنامج الطلاب على التفكير الإبداعي وابتكار حلول جديدة تجمع بين الموروث والمتطلبات المعاصرة، مما يعزز من قدرتهم على تقديم تصاميم مبتكرة.
  • تحقيق الاستدامة: تضمين مبادئ التصميم المستدام في المشاريع يدرب الطلاب على التفكير في الحلول البيئية والاقتصادية، مما يساهم في تعزيز ممارسات البناء المستدام في ليبيا.
  • الحفاظ على الموروث الثقافي: يعزز البرنامج من الوعي بأهمية الموروث الثقافي المعماري، ويشجع الطلاب على تبني تصاميم تحافظ على الهوية الثقافية المحلية.
  • تعزيز الوعي البيئي: من خلال التفاعل مع البيئات المختلفة، يكتسب الطلاب فهماً أعمق للتحديات البيئية وكيفية مواجهتها من خلال تصميمات مستدامة.

التأثير على المجتمع:

  • تحسين جودة الحياة: التصاميم المعمارية المستدامة والمبتكرة تسهم في تحسين جودة الحياة للأفراد من خلال تقديم بيئات معيشية أفضل وأكثر راحة.
  • تشجيع الاقتصاد المحلي: استخدام المواد المحلية في التصاميم المعمارية يعزز من الاقتصاد المحلي ويدعم الحرفيين المحليين.
  • التنمية المستدامة: يساهم البرنامج في تعزيز ممارسات التنمية المستدامة، مما يؤدي إلى تقليل الأثر البيئي للبناء ويحافظ على الموارد الطبيعية للأجيال القادمة.

 

ختاماً:

في ضوء التحديات الكبيرة التي تواجهها العمارة المحلية في ليبيا، تأتي هذه الاستراتيجية الشاملة لتعزيز الهوية الثقافية كخطوة حاسمة نحو المستقبل. إن دمج التراث المعماري التقليدي بالابتكار المعاصر لا يسهم فقط في الحفاظ على الموروث الثقافي، بل يفتح أيضًا آفاقًا جديدة للإبداع والتميز المعماري.

من خلال هذا البرنامج المقترح، نوفر للطلاب في كلية الفنون والتصميم، بما في ذلك تخصصات التصميم الداخلي وتنسيق المواقع، فرصة فريدة لتعلم العمارة بطريقة تتجاوز الحدود النظرية، لتشمل التطبيق العملي والتفاعل المباشر مع المجتمع المحلي. هذا النهج التعليمي المتكامل لا يعزز فقط من مهارات الطلاب الأكاديمية والعملية، بل يساهم أيضًا في تحقيق تنمية مستدامة تسهم في تحسين جودة الحياة ودعم الاقتصاد المحلي.

إننا ندعوكم لتبني هذا المقترح وإطلاقه في كلية الفنون والتصميم وقسم العمارة والتخطيط العمراني بكلية الهندسة أو أي جامعة خاصة منضبطة بمعايير التعليم. دعمكم لهذا البرنامج ليس فقط استثماراً في تعليم الطلاب، بل هو أيضاً إسهام في بناء مستقبل أفضل لبلادنا من خلال الحفاظ على تراثنا المعماري وتعزيزه.

نؤمن بأن تنفيذ هذا البرنامج سيكون له تأثير عميق ومستدام على كل من الطلاب والمجتمع، وسيسهم في تكوين جيل من المعماريين والمصممين الذين يمتلكون القدرة على الابتكار والتجديد، ملتزمين بأصالة موروثهم الثقافي.

لنتكاتف جميعًا لتحقيق هذا الهدف النبيل، ونعمل معًا من أجل مستقبل معماري مشرق ومستدام لليبيا.

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية