أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

‏إظهار الرسائل ذات التسميات تأملات في المعمار. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات تأملات في المعمار. إظهار كافة الرسائل

السبت، ديسمبر 13، 2025

المكان كرفيق للروح: من السكن الفردي إلى المحيط العمراني

 من نافذة الضوء إلى صمت الصحراء: أثر العمران في الروح الإنسانية


جمال الهمالي اللافي

الروح من أمر الله، لا تُدرك بالعقل ولا تُحاط بها التجربة، لكنها تسكن الجسد وتنعكس على سلوك الإنسان ومحيطه. وإذا كان السكن هو الحيز الذي يحتضن الجسد، فإن العمارة نفسها تحمل روحًا خاصة بها، تنبع من نية المصمم، ومن القيم التي يحملها المجتمع، ومن المواد التي تُبنى بها. هذه الروح الساكنة في العمارة ليست جامدة، بل تتفاعل مع روح الإنسان: قد تزكيها وتعيد إليها صفاءها، أو تزرع فيها الاضطراب والقلق. هكذا يصبح المكان فضاءً مزدوج الروح: روح الإنسان التي تبحث عن السكينة، وروح العمارة التي تترجم القيم والنيات إلى فراغ وظل وضوء. وعندما يلتقيان، يتحدد أثر العمران: إما أن يكون رفيقًا للروح، يفتح لها أبواب الصفاء، أو أن يتحول إلى عبء يضاعف اضطرابها.

حين يدخل الإنسان بيته، يبدأ أول حوار بين روح الإنسان وروح المكان. الضوء الطبيعي المتسلل عبر نافذة صغيرة أو مشربية لا يكتفي بإنارة الفراغ، بل يضبط إيقاع اليوم الداخلي، يذكّر الروح بدورة الزمن ويعيدها إلى صفائها. في البيوت الإسلامية، كان الفناء الداخلي قلب البيت، فضاءً مفتوحًا للسماء، يوازن بين الداخل والخارج، ويمنح الروح متنفسًا في قلب العمران الكثيف. الماء الذي يتوسط الفناء، نافورة صغيرة أو حوض بسيط، لم يكن مجرد عنصر جمالي، بل كان وسيلة لتصفية الروح وإعادة الطمأنينة إليها. المشربيات بدورها كانت أداة دقيقة لتنظيم الضوء والهواء والخصوصية، تمنح الروح النور دون أن تفضحها، وتتيح لها النظر إلى الخارج دون أن تُكشف.

لكن السكن الفردي يظل تجربة محدودة إذا بقي معزولًا عن محيطه العمراني. فالمحيط العمراني هو فضاء الأرواح المتعددة، حيث تتفاعل روح العمارة مع روح الإنسان في سياق جماعي. في المدن الإسلامية القديمة، كان تلاصق المساكن يخلق علاقة روحية بين الجيران، إذ يمنحهم خصوصية تمنع التطفل، لكنه في الوقت نفسه يفتح أبوابًا للتواصل اليومي. الأزقة الضيقة المخصصة للمشاة لم تكن مجرد مسارات وظيفية، بل فضاءات روحية، حيث يلتقي الناس وجهًا لوجه، ويتبادلون التحية، ويشعرون بحماية جماعية من حرارة الشمس أو برد الشتاء. هذه الشوارع الضيقة، بما توفره من ظل وتدرج، كانت أيضًا حماية بيئية، تلطّف المناخ وتخفف من قسوة الطبيعة، فتزكي الروح وتمنحها سكينة في قلب المدينة.

وفي الساحات العامة، من حديقة البيت الصغيرة إلى الميادين الكبرى، كانت الأرواح تجد متنفسًا جماعيًا. في فاس أو دمشق، كانت الساحات والحدائق الداخلية فضاءات للتأمل الجماعي، حيث الماء والظل والخضرة يخلقون إيقاعًا روحيًا مشتركًا. وفي المدن الساحلية، كان البحر نفسه جزءًا من المحيط العمراني، يذكّر الأرواح بديمومة الحياة ويمنحها صفاءً لا ينقطع. أما في المدن الجبلية مثل شفشاون، فإن الأزقة المتدرجة ليست مجرد مسار عمراني، بل رحلة روحية بين العلو والانخفاض، بين الانفتاح والانغلاق، حيث كل خطوة تحمل معنى جديدًا للروح.

وفي المساجد الكبرى، مثل جامع قرطبة أو جامع الزيتونة أو الجامع الأموي بدمشق، يتجلى البعد الروحي للعمارة بأوضح صورة. الضوء المتدرج عبر الأقواس والقباب لا يكتفي بإنارة الفضاء، بل يخلق إيقاعًا روحيًا يربط الأرواح ببعضها في حضرة جماعية. الفراغ الواسع، الموزون بين الامتلاء والصمت، يمنح الروح شعورًا بالانعتاق من ضيق اليومي إلى رحابة المطلق. حتى المواد ـ الحجر المنقوش، الخشب المزخرف، الرخام المصقول ـ ليست مجرد عناصر بناء، بل وسائط روحية تحمل ذاكرة الجماعة وتعيدها إلى أصلها. هنا تصبح العمارة أداة تزكية جماعية، لا مجرد انعكاس فردي، لأنها تجمع الأرواح في فضاء واحد، وتفتح لها أبواب الصفاء في حضرة الذكر والعبادة.

حتى الصحارى، بصمتها الكبير، كانت فضاءً آخر للروح. صمت الصخور والرمال يتيح للإنسان أن يستعيد توازنه في مواجهة الفراغ، أن يسمع صوته الداخلي بعيدًا عن ضوضاء المدينة، حين تحتويه سكينة بيته بعد يوم عمل شاق. العمارة هنا لا تنفصل عن الطبيعة، بل تتكامل معها: من نخلة البيت إلى المزارع الريفية، من نافورة الفناء إلى الشلالات الطبيعية، من الأزقة الضيقة إلى الساحات المفتوحة، كلها مشاهد عمرانية تسهم في صفاء الروح وتزكيتها.

العمارة إذن ليست مجرد لغة شكلية، بل هي روح تتجلى في المكان. هذه الروح تنبع من نية المصمم، من القيم التي يحملها المجتمع، ومن البيئة التي تحتضن العمران. وحين يدخل الإنسان إلى فضاء معماري، فإن روحه لا تبقى محايدة؛ بل تتأثر بروح المكان، وتعيد بدورها تشكيله عبر الاستخدام والتفاعل. العلاقة بين الروحين ليست انعكاسًا أحاديًا، بل هي تفاعل حيّ: إذا كانت روح العمارة صافية، متوازنة، فإنها تساعد روح الإنسان على التزكية والسكينة؛ وإذا كانت مشوشة، متنافرة، فإنها تضاعف اضطراب الروح وتزيد من قلقها.

الخاتمة

الحديث عن روح العمارة لا يكتمل إلا بربطها بروح الإنسان. فالمكان ليس مجرد انعكاس لحالة فردية، بل هو أداة لتزكية الأرواح أو إفسادها، بحسب ما تحمله العمارة من نية وقيم، وبحسب ما يتيحه المحيط العمراني من فضاءات للتفاعل والسكينة. العمارة الحق هي التي ترافق الروح في رحلتها، من نافذة الضوء إلى صمت الصحراء، وتظل شاهدة على حضور الإنسان في الدنيا بما يليق بكرامته.

الجمعة، ديسمبر 12، 2025

بين فراغ الزبون وتكرار المعماري: أين تضيع رسالة العمارة؟

 



جمال الهمالي اللافي

في علاقتنا بالعمارة، كثيراً ما يُختزل المشروع إلى شكل مبهر أو قائمة مطالب وظيفية، بينما تغيب الرسالة والمعنى. هنا يطرح السؤال نفسه بقوة.


عندما تقصد معماريّاً ليصمم لك بيتك أو مشروعك العام، اسألت نفسك أولاً: ما الرسالة التي تريد أن يلتقطها الزائر أو المشاهد من هذا المبنى؟ هل أخبرت المعماري بها ليضعها في حسبانه؟

غالباً ما نكتفي بالبحث عن شيء "مبهر"، دون أن نحمل رسالة واضحة. وأحياناً نذهب إلى معماري مشهور أو مُزكّى لنا، ونترك له الأمر كله، مكتفين بحزمة المتطلبات المعتادة. النتيجة؟ مبنى جميل في الصور، لكنه بلا أثر في الذاكرة.

وهنا ينقلب السؤال على المعماري نفسه: هل مشاريعك تحمل رسالة تسعى لتوصيلها للمتلقي والمجتمع، أم أنك تكرر أسلوباً أتقنته حتى صار عادة؟

العمارة ليست مجرد شكل، بل لغة. إما أن تكون لغة للتعبير عن الناس والمكان والزمان، أو أن تتحول إلى زخرفة عابرة.

المغزى واضح: هل أنت زبون يأتي محمَّلاً برؤية ورسالة تريد أن يضمّنها مشروعك، أم أنك زبون فارغ لا يحمل سوى قائمة المطالب المعتادة؟ وهل أنت معماري صاحب رسالة تسعى لإيصالها، أم مجرد مكرِّر لأسلوب أتقنته حتى صار عادة؟

بين فراغ الزبون وتكرار المعماري تضيع العمارة كخطاب حيّ، وتتحول إلى مجرد شكل أو وظيفة. والسؤال يبقى معلقاً: من منكما سيجرؤ أولاً على كسر هذه الحلقة؟ أهو وعي المجتمع بما يريد أن تعبّر عنه عماراته، أم التزام المعماري بأن يحمل مشاريعه رسالة تتجاوز الشكل والوظيفة؟

في جذور الظواهر المعمارية: قراءة في الأسباب لا الأعراض


جمال الهمالي اللافي

النقاش الحقيقي لا يقف عند النتائج أو الأعراض، بل يتجه إلى المنطلقات والدوافع التي أنتجتها. فكما لا يكتفي الطبيب بوصف الحمى أو السعال، بل يبحث عن الجرثومة والعوامل التي سمحت لها بالانتشار، كذلك ينبغي للفكر النقدي أن يتجاوز سطح الظواهر إلى جذورها.

المرض والجرثومة

حين نتحدث عن العمارة بوصفها كائنًا حيًا، فإننا نرى فيها انعكاسًا لصحة المجتمع أو مرضه. المبنى الذي ينهض بلا معنى أو بلا حاجة يشبه جسدًا أصابه خلل في جهازه المناعي؛ فهو يستهلك الموارد لكنه لا يضيف حياة. لذلك، لا يكفي أن نصف الأعراض: قبح الواجهة، ضعف الوظيفة، أو غياب الانسجام. علينا أن نبحث عن الجرثومة التي أنتجت هذه الأعراض: هل هي نزعة استعراضية؟ هل هي غياب التخطيط؟ أم هي ثقافة استهلاك لا ترى في العمارة سوى سلعة؟ بهذا يصبح النقد فعلًا علاجيًا، يضع يده على أصل المرض لا على نتائجه الظاهرة.

التربة والبذور

كل عمارة هي بذرة، لا تنمو إلا في تربة محددة. التربة هنا ليست مجرد أرض، بل هي مجموع القيم والعادات والذاكرة الجمعية التي تحتضن العمارة. حين تكون التربة فقيرة بالمعنى، تنبت عمارة هشة، بلا جذور، سرعان ما تذبل. أما حين تكون التربة غنية بالذاكرة والهوية، فإن العمارة تنمو قوية، قادرة على مقاومة الزمن. لذلك، لا يمكن أن نفصل نقد العمارة عن نقد التربة التي أنبتتها: السياسات، التعليم، الاقتصاد، وحتى المزاج العام للمجتمع.

الضوء والظل

العمارة تعيش بين الضوء والظل، بين ما يُعلن وما يُخفي. الضوء يكشف حضورها في المدينة، يبرز جمالها أو قبحها، ويجعلها جزءًا من المشهد اليومي. أما الظل فيخفي طبقات أخرى: دوافع المصمّم، مصالح المستثمر، أو التوترات الاجتماعية التي أحاطت بالمشروع. النقد الرصين لا يكتفي بما يظهر في الضوء، بل يتتبع ما يختبئ في الظل، ليكشف التناقضات بين الشكل المعلن والجوهر الكامن. بهذا يصبح النقد قراءة مزدوجة، لا تنخدع بالسطح، بل تنفذ إلى الباطن.

الماء والجريان

الماء رمز الحياة، والجريان رمز الاستمرارية. العمارة التي تنقطع عن تدفق الأفكار والموارد تتحول إلى قوالب جامدة، أشبه ببرك راكدة. أما العمارة التي تتغذى من جريان الأفكار، من الحوار مع الماضي والحاضر، ومن تفاعلها مع حاجات الناس، فإنها تبقى حيّة، متجددة، مثل نهر لا ينضب. لذلك، النقد المعماري لا بد أن يسأل: هل هذه العمارة جزء من جريان حيّ، أم أنها مجرد كتلة متصلبة فقدت علاقتها بالحياة؟

الزمن والصبر

الزمن هو المِحكّ الذي يكشف صدق العمارة أو هشاشتها. بعض الأبنية تنهار سريعًا لأنها بُنيت على دوافع عابرة، بينما أخرى تصمد لأنها ارتبطت بجذور عميقة وصبر طويل. الزمن يختبر العمارة كما يختبر المعادن في النار: ما هو أصيل يبقى، وما هو زائف يتلاشى. لذلك، النقد لا يكتفي بلحظة الحاضر، بل يقرأ أثر الزمن على العمارة، وكيف تتبدّل مع مرور الأجيال، وكيف تُعيد صياغة نفسها لتبقى جزءًا من ذاكرة الناس.

الغربة والتأقلم

حين تغترب العمارة عن بيئتها الأصلية، تواجه امتحانًا عسيرًا: هل تستطيع أن تتأقلم وتجد مكانًا جديدًا للعيش؟ أم تبقى غريبة، بلا جذور؟ الغربة تكشف قدرة العمارة على التفاعل مع الآخر، على إعادة صياغة نفسها في سياقات جديدة، أو على الانغلاق والانطفاء. بعض العمارات تنجح في الاندماج، فتضيف إلى المكان وتغتني به، بينما أخرى تبقى دخيلة، لا تُشبه الناس ولا تُشبه الأرض. النقد هنا يصبح بحثًا في حدود الهوية والانفتاح، في قدرة العمارة على أن تكون جسرًا لا جدارًا.

الخاتمة

هكذا يصبح النقاش المعماري بحثًا في الأسباب لا في النتائج، في البذور لا في الثمار، في الضوء والظل معًا، في الماء الذي يمنح الحياة، في الزمن الذي يختبر الصبر، وفي الغربة التي تكشف حدود الهوية. العمارة ليست مجرد شكلٍ يُبنى، بل هي كائن حي يتأثر بالبيئة والدوافع، ويكشف عن أمراض المجتمع كما يكشف عن طموحاته. ومن خلال هذه الاستعارات، ندرك أن النقد ليس إدانة أو ثناء، بل فعل علاجي، بحث عن الجذور، وسعي إلى بناءٍ أكثر صدقًا مع ذاته ومع الناس.

الأربعاء، ديسمبر 10، 2025

من الحداثة إلى التفكيكية: قراءة نقدية في الفلسفات المعاصرة وغاياتها

جمال الهمالي اللافي

المقدمة

في تصريحه قال فرانك غِهري بأن العمارة كانت جافة ومملة، وأنه أراد أن يغرس فيها الإبداع والطاقة والشعور بالحركة. هذا الادعاء يفتقر إلى الأساس التاريخي؛ فالعمارة عبر العصور لم تكن يومًا جامدة أو مملة، بل كانت دائمًا متجددة ومتنوعة، تعكس تنوع الثقافات والبيئات، وتنتج صروحًا تبهر العقل وتستفز قدراته.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الفلسفات المعاصرة التي شكّلت العمارة الحديثة وما بعدها، بدءًا من الحداثة وصولًا إلى التفكيكية، مع ربطها بالجذر الفلسفي المتمثل في نظرية داروين، وبيان أثرها في العمارة والفنون والإعلام العربي والغربي، وكيف ساهمت في زعزعة البنية الأخلاقية والثقافية للمجتمعات.

مراجعة الأدبيات

نظرية داروين والداروينية الاجتماعية

  • تشارلز داروين، أصل الأنواع (1859): طرح مفهوم الانتقاء الطبيعي، الذي تجاوز حدود البيولوجيا ليصبح إطارًا عامًا لفهم المجتمع والثقافة.
  • هربرت سبنسر: نقل الداروينية إلى المجال الاجتماعي، مؤسسًا لما سُمّي "الداروينية الاجتماعية"، التي بررت الاستعمار وإعادة تشكيل المجتمعات "الأضعف" وفق النموذج الغربي.
  • الأثر الثقافي: العقلية الغربية تبنّت هذا المنهج وروّجت له عبر التعليم والإعلام، حتى أصبح جزءًا من الثقافة السائدة، مما انعكس على العمارة والفنون باعتبارها "تطورًا" شكليًا مستمرًا، لا امتدادًا للذاكرة.

الحداثة المعمارية

  • ظهرت مع الثورة الصناعية، رافعة شعار "الوظيفة قبل الشكل".
  • مدرسة باوهاوس (1919–1933) ولو كوربوزييه مثالان بارزان على قطيعة مع الرموز التقليدية.
  • العمارة تحولت إلى أداة عقلانية صارمة، تفتقر إلى البعد الإنساني والذاكرة الحضارية.

ما بعد الحداثة

  • جاءت كرد فعل على صرامة الحداثة، لكنها عمّقت الانقطاع.
  • روبرت فينتوري وكتابه Learning from Las Vegas (1972) مثال على تحويل الشك إلى منهج، والرموز إلى لعبة.
  • فيليب جونسون وعمارة AT&T Building (1984) مثال على اللعب بالرموز التاريخية في سياق معاصر.

التفكيكية

  • فلسفة جاك دريدا (Of Grammatology, 1967) أسست للتفكيك.
  • ظاهرها إعادة ترتيب النصوص، حقيقتها هدمها ليحل الشك محل اليقين.
  • في العمارة: فرانك غهري (غوغنهايم بلباو، 1997) وبيتر آيزنمان، حيث الشكل هو الغاية، لا الوظيفة أو الهوية.
  • في الفنون: تفكيك الرموز الثقافية والدينية وإعادة عرضها في سياقات عبثية أو صادمة.
  • في الإعلام: تقديم كل يقين باعتباره قابلًا للشك، وكل حقيقة باعتبارها مجرد سردية نسبية.

التحليل

الإعلام والفنون الغربية

  • حركة الدادا (1916): هدم المعايير الفنية التقليدية وتقديم أعمال عبثية بلا معنى.
  • فن البوب (1960s): تفكيك الرموز الاستهلاكية وإعادة عرضها في سياقات جديدة، كما في أعمال آندي وارهول.
  • البرامج الوثائقية الغربية: أعادت قراءة التاريخ والدين بمنطق الشك والنسبية، مما ساهم في ترسيخ زمن "اللا معنى".

الإعلام والفنون العربية

  • المسرحيات المصرية:
    • مدرسة المشاغبين (1973): رسّخت صورة التمرد على المعلم والمؤسسة التعليمية.
    • العيال كبرت (1979): قدّمت صورة مشوهة عن سلطة الأسرة.
  • الأفلام المصرية:
    • خلف أسوار الجامعة (1981): ركّز على الانحرافات داخل الوسط الجامعي.
    • الكباب والإرهاب (1992): ربط الدين والسياسة بالفساد في قالب ساخر.
  • البرامج الإعلامية: برنامج هالة سرحان (قناة دريم، 1990s–2000s) مثال صريح على التفكيك الإعلامي للمسلمات العقائدية والاجتماعية، حيث كانت الحلقات تُبنى على التشكيك دون الوصول إلى يقين، مما يعكس جوهر التفكيك.
  • الأدب العربي: رواية نجيب محفوظ أولاد حارتنا (1959) مثال على توظيف التفكيك في النصوص العقائدية، حيث طرحت رموزًا دينية في سياق قابل للتأويل والشك، مما جعلها جزءًا من المشروع الثقافي الذي يزعزع الثوابت.

لماذا اتجه الإعلام المصري مبكرًا لتبني هذه النظريات؟

  • الإرث الاستعماري: إدخال المناهج الغربية في التعليم والإعلام.
  • النخبة الثقافية: مثقفون درسوا في الغرب وحملوا معهم نظريات الحداثة وما بعدها.
  • الإعلام كأداة للتغيير: الدولة رأت فيه وسيلة لإعادة تشكيل المجتمع.
  • الجوائز والاعتراف الدولي: مثل جائزة نوبل لنجيب محفوظ، التي شجعت النخبة على تبني خطاب ينسجم مع المعايير الغربية.
  • النتيجة: الإعلام المصري أصبح مبكرًا منصة لتطبيق هذه النظريات، عبر المسرحيات والأفلام والبرامج، مما ساهم في زعزعة البنية الأخلاقية والثقافية للمجتمع.

الخاتمة

الفلسفات المعاصرة من الحداثة إلى التفكيكية ليست طفرات منفصلة، بل امتداد لمسار بدأ منذ قرن وأكثر، حين قررت العمارة أن تنفصل عن جذورها الإنسانية والروحية، متأثرة بالداروينية والعقلية الغربية التي ربطت التطور بالقطيعة. ما نراه اليوم من "زمن اللا معنى" هو حصاد طبيعي لذلك الزرع القديم.
الحل لا يكمن في اختراع قطيعة جديدة، بل في العودة إلى ميراث حضاري محلي وإنساني أكثر نقاءً، يربط ولا يقطع، يواصل المسير ولا ينحرف عن الطريق. هذه العودة ليست مجرد خيار ثقافي، بل ضرورة وجودية لحماية الهوية والذاكرة من التفكك.

قائمة المراجع (نماذج أساسية)

  1. Charles Darwin, On the Origin of Species, 1859.
  2. Herbert Spencer, Principles of Biology, 1864.
  3. Walter Gropius, Bauhaus Manifesto, 1919.
  4. Le Corbusier, The Radiant City, 1930.
  5. Robert Venturi, Learning from Las Vegas, 1972.
  6. Jacques Derrida, Of Grammatology, 1967.
  7. Hans Richter, Dada: Art and Anti-Art, 1964.
  8. Andy Warhol, Pop Art Works, 1960s.
  9. Peter Eisenman, Diagram Diaries, 1999.
  10. دراسات نقدية عربية حول المسرح والسينما المصرية ) مدرسة المشاغبين، العيال كبرت، خلف أسوار الجامعة، الكباب والإرهاب).
  11. برنامج هالة سرحان (قناة دريم، 1990s–2000s).).
  12. نجيب محفوظ، أولاد حارتنا، 1959. 

الاثنين، ديسمبر 08، 2025

من التعليم والإعلام تبدأ الحكاية


جمال الهمالي اللافي

ما الذي يفعله المعماري؟

وما الذي يريده المجتمع؟

وما الذي جعل اغتراب المعماري يتقاطع مع رغبات المجتمع؟

الإجابة ليست بعيدة، إنها إصبع يشير إلى التعليم والإعلام. المعماري نتاج مناهج تعليمية مغتربة، والمجتمع نتاج إعلام تغريبي. التعليم سوق للسطحية، يغلق مسارات التفكير الحر منذ أولى المراحل، ويلقي بالطالب في متاهة تغريب ممنهج في الجامعة. لا شيء عن البيئة ولا عن التراث، فقط تمجيد للفكر الغربي ومنظريه ومنتجه المادي. أما الإعلام، فيسطّح الفكر، ويسوّق للتفاهة والخلاعة، ويُمجّد السلطة، ويزرع الخوف من الاعتراض، إذ هناك قوة قامعة تستأصل كل مخالف للسياق.

هكذا يلتقي المعماري والمجتمع في دائرة اغتراب واحدة، حيث يغيب الوعي وتُقمع الرؤية، بينما تبقى بذور النهضة مدفونة تنتظر من يكشف عنها.

السبت، ديسمبر 06، 2025

العمارة المؤدلجة… من تضخيم القزم إلى مصير الفناء

 

جمال الهمالي اللافي

ليست هذه الكلمات رثاءً لرحيل معماري اشتهر بالاستعراض، بل وقفة نقدية أمام ظاهرة معمارية صنعتها الأيديولوجيا الإعلامية والتعليم الممنهج. فما يُقدَّم اليوم كمنجزات كبرى ليس سوى فقاعات هواء ملونة، تُضخَّم لتُبهر العيون، لكنها تحمل في داخلها بذور الفناء. إن العمارة حين تُبنى على الوهم لا على الجوهر، لا تملك إلا أن تلحق بصانعها، تاركة وراءها حساباً على ما قدّم وزوالاً محتوماً أمام شمس الحقيقة.

رحل فرانك غِهري عن عالمنا، فعرضت وسائل الإعلام خبر وفاته وصوره ومشاريعه، وكأنها تسعى لتكريس أسطورة لا أراها إلا وهماً مؤقتاً. بالنسبة لي، لا مجال للرثاء أو الأسف؛ فالهدم له عمر افتراضي ينتهي معه أثر صاحبه، ولا يبقى سوى الحساب على ما قدّم. أما مشاريعه، فستشهد أجيال قريبة هدمها، لتلحق بمن صمّمها ومَوَّلها وأشرف على بنائها.

قد ينجح الإعلام المؤدلج والتعليم المعماري الممنهج في تضخيم القزم لبعض الوقت، وفي ترسيخ صورته في أذهان طلابه، لكنه في النهاية سيحتفي بزوالها. ليس لأن وعيه تبدّل أو صحا، بل لأنه يدرك أن فقاعات الهواء الملونة لا يمكنها أن تصمد أمام شمس الحقيقة الحارقة. وهكذا يعيد النفخ في فقاعات أخرى، ليُلهي بها صغار العقول وسفهاء الأحلام.

العمارة التفكيكية: بين الفلسفة والضحالة

 رحيل فرانك غيهري يعيد طرح سؤال المعنى: هل تكفي الجرأة الشكلية لتصنع حضارة؟

 


جمال الهمالي اللافي

مقدمة

عندما تتحول الضحالة إلى عظمة في عقول السفهاء، تصبح العمارة والفنون وسيلة لتسريب التفاهة إلى وعي العامة، عبر المختصين الذين يضخمون الرذيلة ويسطحون المعنى، ثم يمررون القيم الهدامة من خلال رموزها في العمارة والتصميم والفنون التطبيقية والجميلة، وحتى في نصوص المنتج الأدبي. وتُسخَّر وسائل الإعلام لترسيخ مفهوم الضحالة في صورة القيمة العليا، التي تُقدَّم كمرتبة لا يطالها نقد ولا شك.

الجذور الفلسفية للتفكيكية

العمارة التفكيكية ليست مجرد أشكال متكسّرة أو مبانٍ غريبة، بل هي امتداد لفلسفة التفكيك التي أسسها جاك دريدا، حيث يُرفض المعنى الواحد ويُحتفى بالتناقض والانقطاع. في العمارة، انتقل هذا الفكر إلى أعمال معمارين مثل بيتر آيزنمان وفرانك غيهري، الذين قدّموا مباني تُظهر الكتل المفككة والتلاعب بالفراغ والتناقض بين الماضي والحاضر.

التفكيكية كأداة لتسريب التفاهة

حين تُستقبل هذه العمارة بلا نقد أو وعي، تتحول إلى أداة لإعلاء التفاهة على أنها معيار الإبداع. المناهج الأكاديمية قد تساهم في تضخيمها، عبر تدريسها كإبداع مطلق، دون وضعها في سياقها الفلسفي أو نقدها كظاهرة مرتبطة بمرحلة ما بعد الحداثة. كما تلعب وسائل الإعلام دوراً في ترسيخها، عبر تصويرها كرمز للتجديد والجرأة، بينما قد تكون في الواقع مجرد استعراض شكلي بلا مضمون.

الغرب والمجتمعات المستهلكة

في الغرب، ورغم ظهور التفكيكية، لم تُقبل على علاتها؛ بل وُجهت إليها سهام النقد والتحليل، واعتبرها كثيرون هدمًا للمعنى أكثر من كونها إبداعاً. أما في المجتمعات الجاهلة، فيُستقبل كل ساقط باعتباره "موضة جديدة" تستحق التدويل في أوساطها، فتتسابق المؤسسات التعليمية إلى الإعلاء من شأنه، وتضخيمه في عقول الطلاب، حتى يصبح معياراً زائفاً للجمال.

المخاطر والنتائج

  • تسطيح المعنى: يتحول المعمار من حامل للقيم الإنسانية إلى مجرد لعبة شكلية.
  • إعلاء الضحالة: تُقدَّم التفاهة كقيمة عليا، ويُقنع الطلاب والجمهور أن الغرابة هي معيار الإبداع.
  • فقدان الهوية: الابتعاد عن التراث والمعنى المحلي، واستبداله بكتل مفككة لا علاقة لها بالبيئة أو الثقافة.

التفكيكية بين العمارة والفنون التشكيلية

    يرى بعض النقاد أن العمارة التفكيكية يمكن نسبها إلى العمارة من باب الوظيفة، فهي تنتج مباني تُستخدم وتؤوي الإنسان، حتى وإن بدت غريبة أو مفككة. لكن حقيقتها أقرب إلى الفنون التشكيلية التركيبية، لأنها تُعلي من الاستعراض البصري وتفكيك الشكل، بينما تُسخِّر الإنشاء الهندسي لخدمة هذه الصورة الغريبة.

    المبنى التفكيكي يُقرأ غالباً كـ"منحوتة ضخمة" أو "نص بصري"، لا كفضاء معماري يحمل معنى حضاري أو إنساني. وهنا تكمن المفارقة: التفكيكية عمارة من حيث الوظيفة، لكنها فن تركيبي من حيث الجوهر، لأنها تفتقر إلى النظام والمعنى الذي يخلّد العمارة في سجل الحضارات.

رحيل فرانك غيهري وإرثه المعماري

في السادس من ديسمبر 2025 رحل فرانك غيهري عن عمر ناهز 96 عاماً، بعد أن ترك بصمة قوية في العمارة المعاصرة. أعماله مثل متحف غوغنهايم في بلباو وقاعة والت ديزني للحفلات الموسيقية في لوس أنجلوس، ومؤسسة لويس فويتون في باريس، صارت تُحتفى بها كأيقونات معاصرة. لكن السؤال يبقى: هل تقف هذه المشاريع بشموخ أمام معالم الحضارات الكبرى؟

إذا عرضنا أعماله على مفهوم المعنى والقيمة والنظام، نجد أنها تُصنف ضمن منجزات فنية مرتبطة بمرحلة ما بعد الحداثة، لكنها لا ترقى إلى مستوى المعالم الحضارية التاريخية التي حملت معنىً كونيّاً ورسالة إنسانية ممتدة عبر القرون.

  • الحضارات الكلدانية والساسانية والإغريقية والرومانية، وكذلك الحضارة الإسلامية، تركت معالم تحمل جذوراً روحية وفكرية عميقة، شاهدة على هوية الإنسان وارتباطه بالسماء والأرض.
  • أما أعمال غيهري، فهي أقرب إلى "أيقونات معمارية" تُحتفى بها تقنياً وجمالياً، لكنها لا تحمل نفس العمق الرمزي ولا نفس الامتداد الحضاري.

خاتمة

يرى كثير من النقاد أن العمارة التفكيكية ليست خطأ في ذاتها، لكنها تصبح أداة للهدم حين تُستقبل بلا نقد أو وعي. ورحيل فرانك غيهري اليوم يعيد طرح السؤال: هل تكفي الجرأة الشكلية لتصنع حضارة؟ أم أن المعنى والقيمة والرسالة الإنسانية هي ما يخلّد العمارة في سجل التاريخ؟

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...