أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأحد، ديسمبر 29، 2024

بين المظاهر والواقع: طرابلس كمرآة لمدننا وأحلامنا

 

صورة لأحد شوارع مدينة طرابلس في يوم ماطر

جمال الهمالي اللافي

الدخول في التفاصيل يكشف لنا ما خفي من الأشياء التي تبدو لنا من بعيد رائعة وجميلة. المناظر العامة لمدينة طرابلس التي يلتقطها المصورون المبدعون، علمتني أن لا أنخدع وانبهر بمظاهر الأشياء. فهذه مدينة أعلم جيداً كم هي بائسة ومثقلة بالقبح المعماري لمبانيها وفوضى العمران وتهالك البنية التحتية وتدني الخدمات والمرافق في كل تفاصيلها، ومع ذلك تظهر جميلة جداً في تلك الصور. فما بالكم بمدن وأشخاص وأشياء لا نعلم عنها شيئاً غير ما نراه في الصور الفوتوغرافية لمصورين يحترفون انتقاء الزوايا الجميلة."

صورة لآحد مناطق العاصمة في يوم ماطر

وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى ظاهرة مشابهة تُعرف بـ "متلازمة باريس[1]". تصيب هذه الحالة غالب السياح اليابانيين الذين يزورون باريس، حيث يشعرون بصدمة نفسية وخيبة أمل كبيرة عندما يجدون أن المدينة تختلف كثيراً عن الصورة الرومانسية المثالية التي كانوا يحملونها عنها. يشمل الواقع ازدحام الشوارع، التصرفات غير المتوقعة من بعض السكان، والتوترات اليومية في المدينة.

علينا أن نتذكر أن الجمال الحقيقي يكمن في التفاصيل، في الروح الحية للأماكن والناس في رقي الخدمات وسلامة البنية التحية للمدن. الصور الفوتوغرافية قد تعكس جمالًاً ظاهرياً، ولكنها نادراً ما تستطيع نقل الحقيقة الكاملة. لذلك، دعونا نتعلم أن نقرأ بين السطور، ونبحث عن العمق والجمال الحقيقي فيما نراه ونعيشه، لا في أوهام الصور.



[1]- "متلازمة باريس" تعكس بوضوح التناقض بين المظاهر والواقع، وتعزز الفكرة أن الصور المثالية التي نراها قد تكون بعيدة كل البعد عن الحقيقة. كذلك يمكن أن تكون تصوراتنا عن الأماكن مبنية على الصور والأفلام والروايات المثالية، بينما يكشف الواقع تفاصيل أخرى مختلفة.  

السبت، ديسمبر 28، 2024

المعماري المسلم: بين الشغف والمسؤولية

 

مشروع إسكاني إستثماري لذوي الدخل المحدود- تم تطبيق معايير العمارة البيئية عليه


جمال الهمالي اللافي

ليس كافياً أن تكون شغوفاً بمجال العمارة منذ حداثة سنك. فالأهم من ذلك أن تعرف كيف تسير في دربها الصحيح مهما صعبت عليك مشاقه. وألاّ تنحرف عنه إلى تلك الدروب التي بداياتها تشع بالأضواء المبهرة، لتجد نفسك في نهاياتها تسير في دروب كالحة السواد، نهاياتها جرفٌ هارٍ. العمارة مسؤولية شرعية وأخلاقية تجاه مجتمعنا المسلم. فكر دائماً فيما تصممه، لماذا ولمن؟

الفرق بين القدرة والقناعة

هناك فرق كبير بين أن تُعجزك قدرتك على فعل الشيء، وبين أن تُعجزْ قناعاتك قدرتك على فعل الشيء نفسه. التماهي في التصميم المعماري مع العمارة الغربية ليس بالأمر الصعب على من يمتلك القدرة يقيناً. ولكن عندما تقف القناعات والمبدأ أمام هذه القدرة، لتصنع لها مساراً يلتزم بالمسؤولية في الحفاظ على قيم المجتمع من التحلل والتفسخ بفعل تأثيرات عمارة دخيلة تناقض في منطلقاتها الفكرية وأشكالها المعمارية، معتقدات المجتمع الدينية والأخلاقية، بالإضافة لمعطيات البيئة الحلية، فتلك هي القدرة بعينها.

المسؤولية تجاه المجتمع

القدرة الحقيقية لا تسقط أمام إغراءات المادة ومتطلبات الشهرة ولا انحراف المجتمع عن قيمه ومعتقداته الدينية تحت تأثير تعليم فاسد وإعلام مُضلل. إعادة قيادة المجتمع لتصحيح مفاهيمه الخاطئة، وإنقاذه من الانحراف عن جادة الصواب، هو الثمن الغالي الذي يدفعه المعماري المسلم، ولا يقبضه إلاّ رضاً عن كونه ينتمي لهذه العقيدة السمحاء وهذه الأمة العظيمة.

نحو عمارة مستدامة وقيمية

المعماري المسلم يجب أن يكون دائم التفكير في تصاميمه، وألا ينحرف عن المبادئ الأساسية التي تحافظ على قيم المجتمع وأخلاقياته. العمارة ليست مجرد أشكال وتصاميم، بل هي رسالة وقيم يجب أن تعكس هوية المجتمع وانتماءه الديني والثقافي.

استخدام المواد المستدامة والتصاميم البيئية يقلل من الأثر البيئي ويضمن التناغم مع الطبيعة. كما أن توظيف التكنولوجيا الحديثة يساهم في تعزيز القيم الإسلامية في التصاميم، من خلال استخدام البرامج الحاسوبية وتقنيات البناء المبتكرة، يمكن للمعماري المسلم إنشاء تصاميم مستدامة وجميلة تعكس هوية المجتمع.

الجمعة، ديسمبر 27، 2024

بيان وتوضيح

 

دار نويجي للثقافة - القنصلية الانجليزية سابقاً- مدينة طرابلس التاريخية

 مشرف المدونة: جمال الهمالي اللافي

أعلم أنني لست واقفاً على بحر من المعلومات في مجال اختصاصي، بل قد لا أكون حتى واقفاً على رماله. ولست باحثاً تاريخياً يخوض في أعماق كتب الغابرين. ما لدي من معلومات شحيحة لم ولن أبخل بنشرها على مدونتي "الميراث". فمن وجد فيها ضالته، فأهلاً به، ومن لم يجد، فليلتمس لي العذر.

أنا مصمم معماري، أسعى بتوفيق الله لإعادة تأصيل عمارتنا المحلية. إن وُفقت، فبفضلٍ من الله. ورغم شح الطلب عليها، إلاّ أنني أواصل اجتهادي في هذا الاتجاه بلا تردد. يكفيني منها إقبال القليل ممن يعي قيمة ما أقدمه. فالعبرة ليست بالكثرة، وإنما بما ينفع الناس.

لا أبخل بتقديم المساعدة في مجال اختصاصي واهتماماتي البحثية المرتبطة بالعمارة المحلية. ودائماً ما تكون غايتي من هذه المساعدة فتح آفاق بحثية جديدة لي ولمن استعان بي، فأنا أجد الإلهام فيها من خلال تساؤلات طالبي مساعدتي وعناوين بحوثهم. أعتذر فقط لأولئك الذين يبحثون عن معلومات قد تكون بعيدة عن مجالي واهتماماتي البحثية، فأنا أؤمن بأهمية البحث والاجتهاد الشخصي في تحقيق المعرفة والإنجاز، فذلك أفضل لمن أراد الارتقاء في مدارج العلم والمعرفة.

 

دعوة للمساهمة:

أدعو كل من يمتلك بحوثًا، دراسات، مقالات، أو مشاريع معمارية – أو مشاريع في أي من مجالات التصميم الداخلي والصناعي والحرفي والفني - تتعلق بالعمارة المحلية وتاريخها، للمساهمة في تعميم المعرفة بموروثنا الثقافي والحضاري من خلال مدونة "الميراث". إن مشاركتكم تعزز من قيمة المحتوى وتساهم في إحياء العمارة التقليدية والمحافظة على تراثنا المعماري، وتسهم بعون الله وتضافر الجهود في صناعة حاضر العمارة الليبية ومستقبلها.

لنسهم معًا في هذا الجهد المشترك لنشر المعرفة والإلهام، ولنعمل على بناء جسور تربط بين الماضي العريق والمستقبل الواعد. إن إسهاماتكم القيمة ستكون بمثابة الشعلة التي تضيء طريق الأجيال القادمة نحو فهم أعمق واحترام أكبر لتراثنا المعماري والثقافي.

غربة المعمار: عندما تفشل العمارة في التواؤم مع البيئة الثقافية

  

حوش قنابة بمدينة طرابلس التاريخية

جمال الهمالي اللافي

    توجد علاقة لازمة لا يمكن إغفالها بين عادات وتقاليد وقيم وطبائع الشعوب وبين عمارتهم. فإن أي عمارة هجينة يصممها المعماري أو يطلبها منه قاصده، ستبوء بالخذلان لمستعملها حين يكتشف أنه غير قادر على التواؤم معها والشعور بالراحة فيها. مهما أبدع المعماري في تصميمها ومهما أسرف المستعمل في تشطيبها وتأثيثها، ستبقى العلاقة بينهما مفصومة.

كغريبين يبحثان عن التوافق، ولا توافق بينهما.

الخميس، ديسمبر 26، 2024

الثقافة المعمارية بين التأصيل والاغتراب: نقاش حول بنيوية العمارة المحلية


 جمال الهمالي اللافي

مقدمة

تُثار العديد من الأسئلة حول كيفية اكتساب الثقافة المعمارية وما إذا كانت تأتي من كثرة المطالعة للمراجع الأجنبية أم من معايشة البيئة المحيطة. في هذا الحوار، نعرض آراء مجموعة من المعماريين والمهتمين بالعمارة المحلية في ليبيا، ونسعى لاستكشاف جوانب هذه القضية المهمة.

الحوار:

جمال الهمالي اللافي:  هل الثقافة المعمارية تُكتسب بكثرة المطالعة للمراجع الأجنبية، أم تُورّث من كثرة معايشة البيئة المحيطة؟ سؤال موجه للمعماري الممارس للمهنة وليس للطلاب على مقاعد الدراسة بأقسام العمارة.

محمد الرمالي: العمارة ليس لها حدود، فهي مرتبطة بمواد البناء وكيفية الوضع الاجتماعي والمناخي لكل بلد.

 رضا عون: لا أعتبر نفسي معماريًا، لكن لدي خبرة ثلاث سنوات ونصف في العمل في محجر لقص وقطع الحجر الطبيعي في أوروبا. في ليبيا، ألاحظ أن الكثير من المتخصصين يهملون التفاصيل الصغيرة، رغم أهميتها الكبيرة في البناء.

محمد الشيخ: من وجهة نظري، المتابعة للبيئة وعلاقتك بالوظائف حولك مهم، ولا مانع من الاستعانة ببعض المصادر الأخرى لزيادة المعرفة ومعرفة ثقافات وتراث الشعوب. كل تجربة لها مميزاتها وعيوبها، ويمكننا الاستفادة من الجميع.

 رمضان بلقاسم: الثقافة، من وجهة نظري، هي مجموعة القيم التي يكتسبها المعماري، ومصادرها متعددة. هذه القيم هي التي توجه أو تتحكم في المواقف التي قد يتخذها المعني.

جمال الهمالي اللافي:  أتفق معك دكتور رمضان في تعدد مصادر الثقافة. ولكن هل نعتبر أن مطالعة المراجع، رغم قيمتها العلمية، تضيف شيئًا لواقع الحال في البلدان التي تتعارض معه بيئيًا وتقنيًا؟ الهدف من هذا الطرح هو الدعوة لتعزيز تواصل المعماري الليبي أكثر مع بيئته الجغرافية والثقافية، والبحث عن حلول عملية لإشكالياتها. شكرًا لمداخلتك القيمة.

Rio Tripoli: الثقافة المعمارية تأتي من الجمع بين المطالعة والنهل من كل ما يتيسر، وبين ما نستمده من بيئتنا. المعرفة لا حدود لها ولا قيود، لكن الاستخدام هو بيت القصيد وفي ذلك كلام كثير.

جمال الهمالي اللافي: "المهم في طرح الموضوع هو كيف ننهل من المعرفة التي يمكننا الاستفادة منها، لا تلك التي نتباهى بمعرفتنا بها.

 شيماء عويدات: أنا مهندسة ولدي أصدقاء معماريين يتأثرون بثقافات ومعارف مكتسبة من الدراسة والتطلع، لكنهم أيضًا يتأثرون بالطابع المعماري الليبي والإسلامي، ودائماً ما يحدثوني عنه، فأحببته من خلالهم.

ليلى شلادي: العمارة يجب أن تعالج المشاكل القائمة، سواء كانت اجتماعية أو بيئية أو اقتصادية. لذا تعتمد على دراسة البيئة والمحيط، ويمكن الاستفادة من الثقافات الأخرى في طريقة التفكير وأسلوب العلاج، وليس بنقل الأفكار مباشرة.

 رمضان أحمد: الثقافة المعمارية تأتي من المطالعة والمعايشة معاً.

Alamira Ben: من خلال المطالعة والمواكبة والممارسة. خاصة في عصر التطبيقات والإنترنت، تجد ما تحتاجه بتفاصيله ومواد تنفيذه وأساس فكرته.

سمية الأربد: هل البيئة المحيطة مصدر للثقافة المعمارية؟

جمال الهمالي اللافي: ليس في ذلك أدنى شك، فهي المرجع الأساسي لكل معماري.

طارق دياب: في سنوات الدراسة، طلب منا أستاذنا أحمد امبيص أن نقوم بجولة في محيط مدينة طرابلس، ويقوم كل طالب باختيار عنصر معماري لدراسته. بالنسبة لي، هذه التجربة فتحت آفاقًا كثيرة في عقلي، وجعلتني أدرك أهمية دراسة المحيط والخروج بحلول معمارية مبنية على تجارب سابقة، ومحاولة إيجاد حلول تناسب الظروف الراهنة.

جمال الهمالي اللافي:  بارك الله فيك مهندس طارق على سرد هذه التجربة مع الأستاذ أحمد امبيص، وعرضك للخلاصة التي توصلت إليها، ففيها جزء كبير من المستهدف من هذا الطرح.

أصيل الشيخ: في اعتقادي، المطالعة تساعد في معرفة العالم أين وصل وشن صار. لكن المطالعة الأكاديمية وحدها ليست كافية، فالبيئة المحيطة قد تكون طاردة إذا لم يكن هناك توجيه سليم. أفضل التوازن بين الممارسة والتجربة، مع مواكبة كل جديد ومحاولة تطوير النفس."

محمد ابورقيقة: هناك مثل يقول: (اللي ما ليه قديم، ما ليه جديد). المثل يتحدث عن أهمية التاريخ والحضارة السابقة. العمارة يجب أن تقف على أرضية صلبة تستمد من ماضيها لتتمكن من التبحر في العوالم الجديدة.

دعاء عبدالكريم: أنا عن نفسي أحس روحي في دوامة. كل جهة لديها أنماط معينة في التصميم، وأنت كمعماري تتبعها حسب تعاقدك معهم. كأنه سوق تجاري أكثر من كونه علم. أبحث عن نصيحة لأجد نفسي في العلم والفن.

جمال الهمالي اللافي: مشاركة متميزة جدًا م. دعاء، تضع مبضع الجراح على مكمن الداء في ممارسة المهنة والتعليم المعماري. رغم وضوح الرؤية عندي، إلا أن الرد على طلبك يحتاج مني لوقت لصياغته بصورة مختصرة. يمكنك من حيث المبدأ الاطلاع على منشوراتي بموقع الانستغرام، حيث حاولت اختصار الكثير من المواضيع على شكل بطاقات.

Gaida Mon: أنا عايشة في صراع بين ارتباطي بالمجلات المعمارية الأجنبية وجمال المعمار المحلي الذي عرفته من خلال منشوراتك. هل لأننا تم تدريسنا عليه كتاريخ فقط، أم أنا من أسأت الفهم؟ أضيف إلى ذلك أن جهات العمل تفرض علينا أشياء معينة، وإذا رفضنا يكون الرد بأننا موظفون، مما يجعلني أفكر في الاستقالة باستمرار. في العمل الخاص، أجد صعوبات أخرى بفرض صاحب المكتب أو رأي الزبون الذي يعتبر المعمار المحلي موضة قديمة.

جمال الهمالي اللافي: كلامك عميق م. غيداء، فهو يخوض في تجربتين، مطالب المنهج الدراسي والممارسة. في فترة دراستي بقسم العمارة، لم يكن أحد يرغب في تدريس العمارة المحلية. في ممارسة المهنة، فضلت الالتحاق بالعمل بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة بطرابلس، وفي القطاع الخاص، فضلت فتح مكتب مشترك مع بعض الزملاء لأجل أن أتسيد بأفكاري. من يحمل فكراً ورؤية عليه الاستقلال بنفسه، وهذا ما أفعله الآن.

لمياء سامي دخيل: المطالعة والبيئة والتأمل والربط بينهم يجعل منك معمارياً.

جمال الهمالي اللافي:  ماذا لو تفاجأتي أن مطالعة الكتب الأجنبية لا تتفق مع واقع الحال، فتتحول لزمن مهدور فيما لا ينفع؟

لمياء سامي دخيل: وارد جدًا، لذا الاعتماد على الأفكار يكون له نتائج أفضل.

جمال الهمالي اللافي:  لدينا مدن تاريخية يمكن أن تكون شاهداً ومرجعاً يربطنا بالواقع. علينا الاسترشاد بها والاستلهام منها، وتوظيف تقنيات العصر المتاحة في السوق الليبي.

علي شيبو: البيئة المحيطة فقيرة جدًا وملوثة أيضًا، لذا لابد من تغذية ذاكرة المهندس المعماري بالاطلاع على ما هو موجود في الحضارات المعمارية القديمة والحديثة.

جمال الهمالي اللافي:  البيئة التاريخية والطبيعية المحيطة زاخرة بالمعالم والدروس. التغذية من الخارج لن تفيد إذا كنت ترى أن البيئة فقيرة، لأن ما وصل العالم إليه اليوم لن تستطيع تطبيقه.

علي شيبو: قد تكون الأمور أفضل لو طبقنا ما وصل إليه العالم قبل مئة عام.

جمال الهمالي اللافي:  حتى لو تعارض مع معطيات بيئتنا وقيمنا؟ ألا ترى التخبط الذي يعايشه المجتمع الليبي جراء محاولاتهم المستميتة تطبيق كل ما أتى به الغرب؟ ألا ترى أن الغرب قد عاد يبحث عن عمارة الطين والتراب والرمل والعمارة الخضراء والتنمية المستدامة وكفر بما هو عليه؟

علي شيبو: ربما ما أقصده هو أن نستفيد من دراسة ما قام به الآخرون، خاصة في كيفية التفكير والأهداف المرجوة من أي عمل معماري. أيضاً، أسس المعمار تكاد تكون واحدة حول العالم. بينما البيئة المحلية، وهنا أقصد البيئة الحديثة في الخمسين عامًا الأخيرة، لا تعلمك حتى أسس التصميم المعماري.

ElHassan Ibn: الثقافة المعمارية هي فلسفة تجمع بين منظومة معرفية متعددة الموارد والواقع الاجتماعي والأصالة لكل أمة. أي كلا الأمرين معاً.

خاتمة:

من خلال هذا الحوار، يتضح أن الثقافة المعمارية هي مزيج من التجارب والمعارف المكتسبة من البيئة المحلية والمراجع العالمية. تعزيز تواصل المعماريين مع بيئتهم الجغرافية والثقافية والبحث عن حلول عملية يتطلب توازناً بين استلهام التراث والانفتاح على التطورات الحديثة. نسعى جميعًا للحفاظ على هويتنا المعمارية وتعزيزها، مع التطوير المستمر والاستفادة من جميع المصادر المتاحة.

 

حديث حول الجمال المفقود


جمال الهمالي اللافي

أتذكر الجملة الوحيدة التي احتفظت بها للأستاذ فؤاد الكعبازي (رحمه الله) خلال فترة عملنا بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة بطرابلس، حيث قال: "إن الإنسان عندما يتآلف مع القبح نتيجة المعايشة اليومية، يصبح في عينه جميلاً".

لهذا السبب تداوم وسائل الإعلام المختلفة، خاصةً تلك المسيسة، على تكرار العديد من المشاهد القبيحة التي تمجها النفس وتنفر منها العين، بسبب شناعتها ووضاعتها وشذوذها. الهدف من هذا التكرار هو أن تتعود عليها العيون وتتآلف معها النفوس، فيصبح بعدها المرفوض مقبولاً والممجوج مستساغاً والمستقبح بهاءً والمنكر حسناً.

التوثيق والدراسات

تدعم الأبحاث هذا الطرح، فقد وجدت دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا، بركلي، أن الإعلانات التي تظهر في وسائل الإعلام تؤثر بشكل كبير على تصورات الأفراد حول الجمال والقبح. وأظهرت دراسة أخرى من جامعة ستانفورد أن الأفراد الذين يستمتعون بمشاهدة الأفلام والمسلسلات التي تتضمن مواضيع جمالية وقبحية يظهرون تأثيرات ملحوظة في تصوراتهم حول الجمال والقبح. كما بينت دراسة أجرتها جامعة أوكسفورد أن الإعلانات التي تعرض في وسائل الإعلام تسهم بشكل كبير في تشكيل تصورات الأفراد حول الجمال والقبح.

ومع مرور الأيام والمداومة على المشاهدة، تتحول النفوس والعقول إلى حالة التماهي مع هذا القبح، لدرجة أنه يبدو في عيونهم كحق ضائع انتصفت له العدالة من ظالميه، وجمالاً كان محتجباً عن الأنظار فكشفت عنه الأستار لناظريه.

السؤال الأساسي

والسؤال الذي يطرح نفسه علينا بإلحاح: لماذا تتفق كل وسائل الإعلام في أخبارها، ومؤسسات التعليم في مناهجها، ودور الثقافة في مناشطها على الترويج للقبح وترسيخه في نفوس المتلقين؟

 في النهاية، يجب أن نتساءل عن دورنا كأفراد في مواجهة هذا التغيير السلبي في تصورات الجمال والقبح. هل نختار أن نكون مجرد متلقين للمحتوى الذي يُعرض علينا، أم نختار أن نكون ناقدين ومدركين لتأثيره علينا؟

قد يكون الوقت قد حان لإعادة تقييم ما نراه ونقبله كجميل أو قبيح، واستعادة المعايير التي تعكس القيم الحقيقية لجمال الحياة.

الأربعاء، ديسمبر 25، 2024

العمارة: لغة تعبير تعكس القيم والمجتمع

 

جمال الهمالي اللافي

مقدمة

العمارة هي لغة ووسيلة تعبير، تُضاف إلى وسائل التعبير الأخرى التي يلجأ إليها الإنسان للتعبير عن ذاته وتلبية احتياجاته المادية والعاطفية. لذلك فهي تخضع لمجموعة من النظم والقواعد كغيرها من اللغات. وتمتلك مجموعة من الأدوات التعبيرية التي تتحكم في مسار العملية التصميمية أولاً، وتمكّن المعماري من رسم ملامحها وصياغة تعابيرها ثانياً. ومن ثم يسهل قراءتها وفهم المضامين التي تحملها والرسالة التي تسعى لإيصالها إلى المتلقي عبر تكويناتها الفراغية وتشكيلاتها الجمالية بأبعادها الثقافية.

مشكلات العمارة المعاصرة

تخيل شابًا يتخرج من كلية العمارة، ممتلئًا بالحماس لكنه يفتقر إلى الأدوات الأساسية للتعبير عن أفكاره المعمارية. للأسف، معاناة العمارة المعاصرة من غياب لغة تحكمها قواعد ونظم، تقابلها ضعف شديد في اللغة المحكية عند أجيال اليوم التي لم تعد أيضاً تحكمها قواعد. وكلتا الحالتين هما نتيجة لانهيار منظومة القيم الأخلاقية في المجتمعات المعاصرة، مما ترتب عليه انهيار المنظومة التعليمية على مختلف المستويات.

انعكاس القيم الأخلاقية والتعليمية على العمارة

في أحد الأيام، جلس هذا الشاب أمام شاشة الكمبيوتر، يحاول بكل جهد أن يصمم مبنى يعبر عن رؤيته. لكنه وجد نفسه يتلعثم في أفكاره، مثل الطالب الذي يتخرج من الجامعة وهو لا يستطيع كتابة جملة مفيدة ويتعتع في قراءته. هذا الشاب هو نفسه الطالب الذي يتخرج من كليات العمارة وأقسامها وهو لا يمتلك القدرة على التحكم في أدوات التعبير عن أفكاره المعمارية بالصورة الصحيحة. يتطلب ذلك إخضاع الأفكار للمنظومة القيمية للمجتمع الذي ينتمي إليه المعماري بعقيدته وثقافته ومعطيات البيئة التي تتحكم في مسارات العملية التصميمية ويفترض به مراعاتها في أي مشروع معماري يكلف به.

الابتكار والتحديات في العمارة المعاصرة

نتيجة لفقره المعرفي وقصوره الإدراكي، يلجأ الطالب إلى ابتكار وسائل تعبير مستوردة يغلب عليها الارتجال وعدم التناسق والتمرد على أي ضوابط أو قواعد تحكم العملية التصميمية. تخيل مبانٍ جديدة تفقد هويتها، مفتقرة للمعنى، غير قادرة على التفاعل مع بيئتها المحلية. هذه العمارة تُروج لها عبر وسائط الإعلام التي تضم بداخلها أشباهه من مخرجات مدارس التسطيح المعرفي والتفريخ الكمي. دعاة الفن لأجل الفن وحرية الإبداع التي لا تقيدها قواعد ولا تلزمها ضوابط ولا تربطها جذور.

حقائق علمية ومؤشرات

وفقًا لدراسات متعددة، تظهر الأرقام أن تدهور مستوى التعليم له تأثير مباشر على جودة المهن الفنية والمعمارية. على سبيل المثال، تقرير من منظمة اليونسكو يشير إلى أن نسبة الخريجين الذين يمتلكون مهارات كتابية وتعبيرية متقدمة قد انخفضت بنسبة 30% خلال العقد الأخير. هذه الأرقام تسلط الضوء على الفجوة الكبيرة بين التعليم النظري والعملي وأثرها على جودة العمارة المعاصرة.

العمارة كمؤشر أخلاقي

وبالتالي، نعود هنا لنقول إن العمارة ما هي إلا مرآة عاكسة لحالة أخلاقية. فانهيار الأخلاق أدى بدوره إلى انهيار التعليم وتفسخ الثقافة واضطراب العلاقات الإنسانية داخل المجتمع الواحد، بحيث أصبحت هذه كلها تقع في أسفل سلم الأولويات وفي آخر قائمة الاهتمامات لدى أفراد المجتمع وقياداته السياسية وخبراته الاقتصادية.

خاتمة

العمارة ليست مجرد بناء، بل هي تعبير عن القيم والمعتقدات والعلاقات في المجتمع. إن الانهيار الأخلاقي والتعليمي الذي نشهده في المجتمعات المعاصرة ينعكس بشكل واضح على جودة العمارة وأصالتها. لذا، فإن إعادة بناء منظومة القيم الأخلاقية والتعليمية تعد خطوة ضرورية لإعادة الارتباط بجذورنا وتحقيق عمارة تتوافق مع هويتنا الثقافية وتلبي احتياجات بيئتنا المحلية.

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية