أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأربعاء، يناير 31، 2018

تساؤلات حول العمارة المحلية (الجزء الثاني)

حوش القره مانللي بمدينة طرابلس القديمة - تصوير/ الفنان التشكيلي أحمد السيفاو


جمال اللافي

أستعرضت في الجزء الأول مجموعة من التساؤلات التي طرحتها إحدى الباحثات في إطار التحضير لرسالتها العلمية وردي عليها. وفي مراسلة تالية طرحت هذه الباحثة مجموعة أخرى من التساؤلات/

تساؤلات الباحثة/
1.     لماذا فقد المسكن ذو الفناء الوسطي (الحوش العربي) من التخطيط الحضري, ولم يحدث ذلك التاثير في ثورة الاسكان؟
2.  الى أي مدى سيكون تحديث النموذج التقليدي للحوش العربي ملائما للحياة الحديثة للعائلة الليبية, هل سيسهم هذا التحديث في تطور البيئة السكنية في طرابلس؟
3.  فيما يتعلق بالحركة من التقليد الى الحداثة في البيت ذو الفناء الوسطي(الحوش العربي) ماذا تغير في ملامح الحوش العربي وما هو مازال ملائم وصالح لليوم؟ وهل الحوش العربي يمتلك مميزات السكن المستدام؟
4.  في إحدى المقالات اقترحم دعوة للحوار حول البيت العربي وكيف تواجه الصعوبات التي تمنع من إحياء هذا النوع من الاسكان، كبديل للسكن الشائع اليوم. ما هي أسبابكم وراء فتح هذا الحوار؟
5.  كذلك هل لديكم مبررات تدفعكم للأخذ بعين الاعتبار مفهوم البيت المعاصر (الصورة المعاصره للبيت التقليدي) الحوش العربي وأين هذا الحوار من صانعي القرار فيما يتعلق بسياسات الإسكان في طرابلس؟

السؤال الأول/ لماذا فقد المسكن ذو الفناء الوسطي (الحوش العربي) من التخطيط الحضري, ولم يحدث ذلك التأثير في ثورة الاسكان؟

الإجابة/
بالنسبة لمسألة عدم استمرار نظام البيت ذو الفناء" الحوش" في المشاريع المعاصرة، فذلك يعود لغياب الدراسات العلمية المنهجية التي تستوعب طبيعة البيئة الاجتماعية والمناخية للمنطقة المستهدفة بالمشاريع الإسكانية، وبالتالي تعرض هذا النوع من البيوت للانحسار عند تخطيط وتنفيذ المشاريع الإسكانية الجديدة.
كما أن الشركات الأجنبية التي تمّ تكليفها بإعداد دراسات تخطيطية وعمرانية، عن قصد أو جهل تعمدت تجاهل هذا النوع من البيوت، وذلك لدوافع عدة منها:
·   علمها بعدم وجود متابعة واعية من قبل مؤسسات الدولة الليبية سواء في العهد الملكي أو الانقلاب العسكري 69 للدراسات التي تعدها هذه الشركات حول المشاريع الإسكانية المقترحة أو للمشاريع المنفذة، وبالتالي فهي تختصر الطريق على نفسها وتقدم ما ألفته من أنواع سكنية كالفلل التي تفتح نوافذها على الخارج أو العمارات السكنية التي ستوفر في تكلفة التنفيذ من وجهة نظر اقتصادية بحثة.
·   هدم البنية الاجتماعية والثقافية والأخلاقية من خلال استبعاد نموذج الأحواش" البيت ذو الفناء"، واستبداله بالنموذج المستحدث ممثلا في العمارة الدولية التي تتجه نوافذها لتفتح على الخارج، فتؤثر من خلال التعود على استعمالها على خلخلة القيم الاجتماعية وكسر حدود الحشمة والخصوصية عند المجتمع الليبي المحافظ.
·   الإصرار في عهد الانقلاب العسكري69 م. على تنفيذ المشاريع الإسكانية من خلال تطبيق نموذج العمارات السكنية المتكرر بصورة عشوائية داخل الموقع المقترح، فهذا له عدة أسباب من أهمها:
§    السيطرة على أكبر مجموعة من الناس داخل عمارة سكنية واحدة عبر إغلاق منفذها الوحيد الذي يؤدي لكل عمارة سكنية.
§   كذلك خلق العديد من المشاكل الاجتماعية والنفسية والأخلاقية عبر تكديس المواطنين في مجمعات سكنية متكونة من عدة طوابق وزيادة الكثافة السكانية في أقل المساحات.
ويمكنك مراجعة ما توصل إليه علماء الاجتماع من تأثيرات سلبية لنموذج العمارات السكنية، أشرت إليها في مقالتي" جدلية الساكن والمسكون" المنشور بمدونة الميراث في شهر يوليو 2008م.

السؤال الثاني/ الى أي مدى سيكون تحديث النموذج التقليدي للحوش العربي ملائماً للحياة الحديثة للعائلة الليبية وهل سيسهم هذا التحديث في تطور البيئة السكنية في طرابلس؟

الإجابة/
النموذج التقليدي من البيوت ذوات الأفنية" الحوش"، يتميز بقدرته على تحقيق عوامل الاستدامة من حيث الوظيفة والشكل. فهو لا يزال يقدم نفسه على أنه البيت النموذجي من حيث الكفاءة الوظيفية والاجتماعية والمناخية، ويمكننا ملاحظة ذلك عند زيارتنا للمدن القديمة حيث يشكل هذا النوع من الأنظمة التصميمية سواء كانت في البيوت السكنية أو المباني العامة نسيج المدن القديمة التخطيطي والعمراني. كما نلاحظ أن هذا النموذج لا يتعارض في شكله العام أو توزيع فراغاته مع متطلبات العصر وأدواته وتقنياته، بل إن تطور أساليب التقنية أضاف كفاءة جمالية وخدمية لهذا النوع، حيث أصبحت جميع إمدادات الخدمات من (مياه، وكهرباء، وتصريف مجاري) تتم تحت الأرض وبتقنيات بسيطة التنفيذ، عالية الكفاءة والجودة. أما أنظمة الاتصالات، فقد أصبحت لاسلكية تتم عبر الأقمار الصناعية، فلم يعد هناك حاجة لإمدادات خطوط الهواتف وأجهزة الربط بين التلفزيون والأقمار الصناعية.... وغير ذلك من الخدمات. أما عناصر التأثيث فإن الخيارات المطروحة في السابق والمقدمة حاليا من دور التصميم الصناعي فهي قابلة للتطبيق والاستعمال داخل هذه البيوت دون عوائق. ومن هنا نستطيع القول أن مجرد طرح النموذج التقليدي بدون أي معالجات وظيفية سيكون ملائماً وبكفاءة عالية لمتطلبات هذا العصر.

أما في حالة تقديم مقترحات تعالج بعض الإشكاليات غير الضرورية ولكنها تأتي في مقابل الرد على الأفكار المعاصرة المطروحة على الساحة الليبية مثلاً، ومنها اتساع مساحات الفراغات، كذلك الحماية من الأمطار وأشعة الشمس الحارقة عند التنقل بين فراغات البيت عبر الفناء( وهي فقط تمثل كل الإشكاليات التي تواجه نموذج" الحوش"). فهذا ومن خلال بعض الأفكار المطروحة التي تمّ تصميمها أو تنفيذها من قبل مجموعة من المعماريين الليبيين، والتي بدأت تلاقي قبولاً كبيراً وتأييداً في المحيط الاجتماعي، كل هذا يؤكد على أنه سيكون نموذج المرحلة القادمة بكل اقتدار، وربما سيؤثر على الرؤية التخطيطية والتصميمية للمشاريع الإسكانية المقبلة، سواء التي ينفذها أفراد أو ستقدمها الدولة كحل إسكاني لذوي الدخل المحدود كبديل لنموذج العمارات السكنية الذي أثبت فشله من جميع النواحي.

السؤال الثالث/ فيما يتعلق بالحركة من التقليد الى الحداثة في البيت ذو الفناء الوسطي(الحوش العربي) ماذا تغير في ملامح الحوش العربي وما هو مازال ملائماً وصالحاً إلى اليوم؟ وهل الحوش العربي يمتلك مميزات السكن المستدام؟

الإجابة/
تمّ الإجابة ضمنياً على هذا السؤال من خلال ما سبق، ولكن نستطيع أن نقول أن التركيز اتجه إلى إعادة توزيع موقع الفناء الذي كان يتوسط البيت ليأخذ جانباً متطرفاً من زوايا البيت المعاصر، بحيث لا يضطر سكان البيت إلى المرور عبره عند تنقلهم بين فراغات البيت، وبالتالي تجنب التعرض لمياه الأمطار في فصل الشتاء، أو الأتربة وحرارة الشمس في فصل الصيف. وهذه أكثر الأسباب الداعية للتغيير.

كما تتجه البيوت المعاصرة إلى تحقيق عوامل الكفاءة الوظيفية من حيث توفير خصوصية تامة لكل فراغ وفصل فراغات نوم الوالدين عن الأبناء، والمعيشة عن استقبال الضيوف، وضم فراغ التخزين الذي كان موجوداً تحت سدة النوم إلى المطبخ، الذي أصبح يحتل مساحة كبيرة بعض الشيء بعدما كان يحشر تحت السلالم في أغلب البيوت المتوسطة الحجم. وهي جميع الأنشطة التي كانت تمارس في فراغ واحد يسمى في البيوت التقليدية" دار القبو أو دار القبول".

كذلك تمّ طرح بعض الأفكار حول عناصر تأثيث هذه البيوت مثل المطابخ المبنية من الطوب والتي تتوفر فيها جميع الأدوات المطبخية الحديثة، الصالون المبني من الطوب أيضاً، كذلك الدواليب الحائطية، عودة السدة كفراغ للنوم بدلاً من الأسرّة المتعارف عليها في وقتنا هذا. وقد تم تنفيذ أغلب هذه المقترحات في البيوت المعاصرة التي تستوحي فكرتها من النموذج التقليدي للبيوت الليبية. ويمكنك الرجوع للرسومات والصور المعروضة في مدونة الميراث. والتي يمكن إرسالها لك إذا استدعى الأمر.

كذلك بدأ الاتجاه بعد طرح الأفكار التصميمية ومعالجة مسألة الهوية المعمارية للبيوت الطرابلسية المعاصرة، إلى البحث عن مواد بناء يمكنها تحقيق الكفاءة البيئية مثل البناء بالطوب الرملي أو الطوب الطيني أو الترابي. حيث بدأ في ليبيا الشروع في تركيب مصنع الطوب الرملي. والذي في حالة استكماله ستتحقق مشاريع تتوفر فيها إلى جانب ما سبق طرحه، الكفاءة البيئية التي تغني عن استخدام مكيفات التبريد وسائل التدفئة الصناعية التي تستهلك طاقة كبيرة. إلى جانب أنها ستقلل من تكلفة تنفيذ المباني، والعودة لنظام الحوائط الحاملة، التي تختصر زمن التنفيذ والتكلفة. كل هذه الخطوات تحقق عوامل الاستدامة.

السؤال الرابع/ في إحدى المقالات اقترحتم دعوة للحوار حول البيت العربي وكيف تواجه الصعوبات التي تمنع من إحياء هذا النوع من الاسكان، كبديل للسكن الشائع اليوم. ما هي اسبابكم وراء فتح هذا الحوار؟

الإجابة/
هذه الدعوة جاءت بناءً على معطيات واقعية يعاني منها المجتمع الليبي، الذي تمّ فرض نموذج العمارات السكنية عليه كحل وحيد لأنماط ونماذج السكن في ليبيا التي تتبناها الدولة في عهد المقبور، والذي تمّ تعميمه على جميع شرائح المجتمع، ولم يستثن منه إلاّ الحاشية المرتبطة بالقيادة الحاكمة في تلك الفترة، والذين استطاعوا بالأموال المنهوبة من شراء الفلل وبناء القصور والاستراحات في مزارعهم.

هذا النوع من المشاريع الإسكانية( نموذج العمارات السكنية) بني بالحد الأدنى من المواصفات مع الانعدام الكلي للمرافق الخدمية، بل وصل الأمر في مشروع منطقة إنجيلة الإسكاني، أن جاء مفتقرا لخدمات الصرف الصحي، مما حدا بمن سكنوا تلك العمارات إلى حفر آبار سوداء لحل المشكلة.

هذا الأمر، إضافة لافتقار المساكن التي ينفذها الأفراد للكثير من المقومات المعمارية والتخطيطية والاجتماعية والاقتصادية والمعالجات المناخية، كذلك افتقارها للطابع المعماري الذي يعبر عن هوية المدن الليبية بتنوع ثقافاتها وبيئتها الجغرافية، وانتشار البناء العشوائي الذي يفتقر للتخطيط، كل ذلك كان الدافع لهذه الدعوة لفتح باب الحوار حول مستقبل العمارة في ليبيا بصفة عامة ومشاريع الإسكان بصفة خاصة.

السؤال الخامس/ كذلك هل لديكم مبررات تدفعكم للأخذ بعين الاعتبار مفهوم البيت المعاصر (الصورة المعاصرة للبيت التقليدي) الحوش العربي وأين هذا الحوار من صانعي القرار فيما يتعلق بسياسات الإسكان في طرابلس؟

الإجابة/
المبررات مستمدة من الوعي بالمسؤوليات الملقاة على عاتق المعماري للبحث دائما عن حلول للمعضلات البيئية السكنية التي تواجه المجتمع، وطرح الحلول من خلال البحث عن أفكار تصميمية جديدة، قد ترتبط بثقافة المجتمع وقد تتنافر معها، وهنا كان الانحياز لتاريخ وثقافة وهوية المجتمع هو الخيار الأول والأخير، لقناعة بأن المجتمع قد تعرض لحالة استغفال من طرف الجهات الاستشارية والشركات الأجنبية التي تمّ تكليفها بإعداد الدراسات المتعلقة بتطوير المناطق وتصميم المشاريع الإسكانية ووضع مخططات المدن. وقد ساهم الوضع المتردي لمؤسسات الدولة في العهد السابق في زيادة تأزم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية من خلال فرض نموذج العمارات السكنية التي تفتقر للخدمات والمرافق.

ورغم كثرة المحاولات لعرض هذه الإشكاليات على المسؤولين في الدولة من خلال نشر المقالات بالصحف والجرائد والمشاركة في الحوارات عبر المحاضرات والبرامج التلفزيونية التي تمّ توجيه الدعوة فيها لعرض هذه الإشكاليات وتوصيل الصوت للمسؤولين، إلاّ أن الآذان صمّت عن الاستماع، ولم تؤثر كل المحاولات لإحداث فارق.

فقط كانت المبادرة بتبني هذه الأفكار من بعض المستثمرين أصحاب رؤوس الأموال الصغيرة بقبول فكرة تنفيذ بعض البيوت التي تتجه إلى إعادة إحياء نموذج البيت الليبي ذو الفناء، سواء النموذج الحضري أو النموذج الريفي. وعند الانتهاء من تنفيذ نموذج بيوت الضواحي في مدينة طرابلس كان الإقبال على زيارته بمنطقة السبعة بطرابلس كبيراً، وشجعت جميع الانطباعات على الاستمرار في هذا الاتجاه التصميمي.

أمّا نموذج البيت الطرابلسي المعاصر، وهو قيد التنفيذ في مرحلة التشطيبات، فقد استرعى اهتمام مجموعة من أصحاب رؤوس الأموال الراغبين في الدخول في مجال الاستثمار العقاري، وأبدوا رغبتهم بعد انتهاء جميع أعمال التشطيبات للمبنى في استنفار اصحاب رؤوس الأموال من معارفهم لتنفيذ مشروع إسكاني متكامل المرافق والخدمات يراعى فيه الاعتبارات التخطيطية والتصميمية للعمارة المحلية. هذا الأمر كان قبل قيام ثورة 17 فبراير، حيث كان الاستثمار العقاري يتعرض لمضايقات وعراقيل من الدولة.


والأمل في أن يأخذ هذا الموضوع مساره الصحيح بعد هذه الثورة التي أزاحت أكبر العراقيل التي تواجه تنفيذ مثل هذه المشاريع.

الثلاثاء، يناير 30، 2018

تساؤلات حول العمارة المحلية (الجزء الأول)

مربوعة علي التليسي بمدينة بني وليد، بعد ترميمها- تصوير محمد التليسي


جمال اللافي


أستعرض في هذه المشاركة مجموعة من التساؤلات التي طرحتها إحدى الباحثات في إطار التحضير لرسالتها العلمية وردي عليها. وذلك لتعميم الفائدة وإثراء هذه الردود بمساهماتكم.


تساؤلات الباحثة/
أود أن اطرح جملة من التساؤلات حول التطور السكني في مدينة طرابلس، الموضوع عبارة عن دراسة اجتماعية- مكانية!


حيث شهد هيكل طرابلس الحضري أربع فترات للتنمية الإسكانيه, وقد تغيرت تدريجيا مفاهيم الإسكان وفقا لهذه الفترات للتنمية.

·        العهد العثماني: المدينة القديمة في طرابلس: السكن التقليدي ذو الفناء (البيت العربي) الدراسات السابقة أثبتت أن هذا النوع من السكن كان مناسبا بيئيا واجتماعيا.

·        الفترة الإيطالية: تم تغيير مفهوم الإسكان الفناء، وأشكال سكنية جديدة ظهرت ... هل كان التصميم الإيطالي مناسبا و متفقا مع مطالب الأسرة الليبية؟

·        وخلال فترة الاستقلال: استمر مفهوم التصميم الإيطالي ... ما كان رد السكان نحو الهيكل المكاني للوحده السكنيه؟

·        الفترة الحالية: السكن الفناء (البيت العربي) اختفى تماما من التخطيط الحضري لطرابلس . ما هو مستقبل البيت ذو الفناء في طرابلس؟ النوايا المستقبليه المحتملة لتطوير هذا النوع؟

تمهيد/
بداية بارك الله فيك، على تناولك في رسالتك لهذا الموضوع القيّم، وهو أمر بلا شك سيمهد الطريق لفهم واحدة من إشكاليات البيت الليبي المعاصر، المرتبطة بمنظومة القيم المعمارية ومسألة الهوية المعمارية، التي افتقدناها في بيوتنا- منذ بدايات القرن العشرين- تحت ادعاء الحداثة والتغيير والتطور ومجاراة روح العصر ومواكبة ما يستجد فيه من أفكار ومشاريع معمارية وعمرانية.

وقد يكون للاحتلال الإيطالي دور في خلخلة هذا النسيج العمراني التاريخي المتواصل عبر العصور السابقة. ولكنه كان مرحلة يفترض أن تستقيم الأوضاع بعدها، إلاّ أنها استمرت في نهجها التغريبي ووصلت إلى مدارك الانحدار بعد الاستقلال وبعد انقلاب 69، حيث لم تعد للعمارة خلالها- إن وجدت بهذا المسمى- معنى أو قيمة أو دلالة تعبيرية.

الرد على التساؤلات/

السؤال الأول/
العهد العثماني: المدينة القديمة في طرابلس: السكن التقليدي ذو الفناء (البيت العربي) الدراسات السابقة أثبتت أن هذا النوع من السكن كان مناسبا بيئيا واجتماعيا.

الإجابة/
عندما نتكلم عن نموذج الفناء( في البيت الطرابلسي التقليدي) دائما ما نقول بلسان الماضي، كان مناسبا بيئيا واجتماعيا، وكأني بالظروف البيئية والاجتماعية قد تغيرت تغيراً جذريا بحيث لم يعد هذا البيت مؤهلاً في وقتنا الحاضر مثلما هو مستقبلا ليكون النموذج الملائم بيئياً واجتماعياً.

وسؤالي ما هي المتغيرات البيئية التي حصلت في ليبيا، حتى أضحى هذا البيت غير ملائم بيئيا، وما معنى غير ملائم بيئيا حتى نتحدث عن متغيرات في طبيعة المسكن الطرابلسي المعاصر.

في اعتقادي أن هناك معلومة مغلوطة يتداولها البحاثة حول علاقة المسكن التقليدي بالملاءمة البيئية. لأننا قبل أن نتحدث في هذا الشأن، علينا أولا التحدث عن حدوث متغيرات في المناخ لم تكن معتادة وأصبحت تتعارض مع طرح نموذج الفناء، كهطول الأمطار الشديدة وانخفاض درجات الحرارة إلى ما دون درجة الصفر مئوية.

السؤال الثاني/
الفترة الإيطالية: تم تغيير مفهوم الإسكان الفناء، وأشكال سكنية جديدة ظهرت ... هل كان التصميم الإيطالي مناسبا و متفقا مع مطالب الأسرة الليبية؟

الإجابة/
رغم أن الفناء كان دارجا في الجنوب الإيطالي، إلاّ أن اهتمام المحتل الإيطالي كان منصبا أكثر على تصميم وتنفيذ نموذج العمارات السكنية ونموذج الفلل السكنية التي تفتح على حديقة خارجية من أربع جهات. وانحسر في عهدهم نموذج الحوش( البيت الذي يتوسطه الفناء). وما تمّ طرحه كان بداية تغييب القيم التخطيطية والتصميمية الأصيلة التي تأخذ في اعتبارها الجوانب الاجتماعية والثقافية والبيئية للمجتمع، إلى فرض نماذج مخالفة لهذه الاعتبارات ومناقضة لها.

السؤال الثالث/
وخلال فترة الاستقلال: استمر مفهوم التصميم الإيطالي. ما كان رد السكان نحو الهيكل المكاني للوحدة السكنية؟

الإجابة/
في فترة الاستقلال وعلى المستوى الشعبي انتشر نموذج البيوت المتلاصقة التي تعتمد على فناء متطرف في إحدى زواياه لتوفير الإضاءة للفراغات التي لا تطل على الشارع. وهو محاولة يائسة لتحسين ظروف البيئة المعيشية التي تجاهلها المستعمر في مخططاته أو لنقل في أحسن الأحوال أنه لم يوليها ذلك الاهتمام الكبير.

أما على مستوى الدولة، فقد ظهر نظام العمارات ذات الأربعة أدوار. وفي فترة انقلاب 69 ولمدة 42 سنة استمر التعاطي مع النموذج المتكرر للعمارات السكنية متعددة الأدوار والتي تباينت فيها الارتفاعات من 9 أدوار إلى 14 دور. وفي الحالتين كان المستهدف اسكان أكبر عدد ممكن في أقل مساحة ممكنة، وبمنظور اقتصادي بحث، لا يضع في حساباته أي اعتبارات إنسانية أو اجتماعية أو بيئية أو ثقافية.

السؤال الرابع/
الفترة الحالية: السكن الفناء (البيت العربي) اختفى تماما من التخطيط الحضري لطرابلس . ما هو مستقبل البيت ذو الفناء في طرابلس؟ النوايا المستقبلية المحتملة لتطوير هذا النوع؟

الإجابة/
في خلال الخمسة عشر سنة الماضية وعلى المستوى الشعبي بدأ يظهر دور المعماري الليبي بوضوح أكبر على الساحة وظهر معه نظام الفلل، التي اتخذت أشكالا تعبيرية متنوعة اختلفت باختلاف توجهاتهم وتنوعت بتنوع أفكارهم، التي كان من ضمنها تلك التي أعادت الاعتبار لنموذج البيت ذو الفناء. إلاّ أن المعالجات لموقع هذا الفناء وإطلالة الفراغات عليه أخذت منحى آخر مختلفا عن النماذج التي طرحت في بدايات استقلال ليبيا في فترة الخمسينيات من القرن الماضي، أو التي عرفت بمصطلح البيوت الطرابلسية التقليدية، حيث كان الفناء يتوسط البيت، مثلما تنوعت هذه المعالجات عن سابقتها من معماري لآخر، بحيث لم نعد نرى نموذجا متكرراً يأخذ نمطا موحداً في التعاطي مع الفناء من حيث موقعه من فراغات البيت أو حجمه وتفاصيله.

وقد أكون أحد المحظوظين بمعايشة أكثر من نموذج لبيوت الأفنية خلال فترات زمنية متباعدة أولها كان أثناء فترة طفولتي ببيت جدي (الشيخ علي الشيباني- مؤسس وشيخ الزاوية الساعدية- بزنقة الساعدية المتفرعة من شارع ميزران)، ثم من خلال زياراتي لبيوت الأعمام والخالات الذين سكنوا نماذج من بيوت الخمسينيات والستينيات التي تم نقل الفناء فيها ليكون في طرف إحدى زوايا البيت. وبعدها عندما أتيحت لي أثناء فترة الدراسة بقسم العمارة المكوث ببيت جد زميل الدراسة المعماري عبد المنعم السوكني لمدة سنة دراسية كاملة بصحبته وصحبة الزميل المعماري رشيد كعكول. ناهيك عن فترة العمل بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة وما تبعه من معايشة شبه يومية لبيوتها الطرابلسية. في معايشة لأحد بيوت مدينة طرابلس القديمة والعيش في أجوائها المتباينة مع تباين فصول السنة. حيث يسمح الفناء المفتوح على السماء بتتبع تعاقب فصول السنة على هذه البيوت يوماً بيوم. الأمر الذي لا يمكن معايشته داخل البيوت المعاصرة المنغلقة على ذاتها والمنعزلة عن محيطها والمحرومة من ثمرات هذا التنوع في فصول السنة.

وهي تجربة بحثية وعملية أخرجتني من غلبة العاطفة إلى ملامسة الواقع. ولا أظنني بعدها سأتخلى عن قناعتي بجدوى تلك البيوت وأهليتها للسكنى قروناً طويلة أخرى دون أن يفقد هذا البيت قدرته على المواءمة بين متطلبات الإنسان في كل عصر والتعاطي مع احتياجاته المادية والروحية على السواء، ناهيك عن قدرته الفائقة على التوافق مع متغيرات الظروف البيئية بكل متغيراتها.



وللحوار بقية،

الاثنين، يناير 29، 2018

الجمعة، يناير 26، 2018

القيم الجمالية في العمارة المحلية




جمال اللافي

قَيِّم، في معجم المعاني الجامع هي، صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من قامَ / قامَ إلى / قامَ بـ / قامَ على / قامَ لـ . وهي تعني السيِّدُ وسائس الأمر وقيِّمُ القوم، الذي يقوم بشأنهم ويَسُوس أَمرَهم. وهي جمع لكلمة قيمة وقائم وقائمة.

والقيمة، في أحد تعريفاتها، "هي المدة اللازمة لانتاج عمل ما (مادي أو فكري)". ولكنها في مفهومها الحضاري، هي قيمة مضافة إلى منظومة من القيم الحضارية الأخرى التي تشكل في مجموعها ثقافة مجتمع ما. ولكل منظومة قيم مرجعية تنطلق منها، مردها إما إلى عقيدة سماوية أو أعراف اجتماعية أو قوانين وضعية، تستند عليها نظم وقوانين وضوابط تحكم العلاقات والمعاملات والتعاملات بين أفراد المجتمع الواحد.

وتشكل القيم الجمالية إحدى مرتكزات منظومة القيم الثقافية لحضارة أي مجتمع. وترتبط على وجه الخصوص بالفنون الجميلة والتطبيقية. وهي تؤثر في المجتمع تبعا لمدى الاستقرار الذي يعيشه ومدى شعوره بالأمن والحماية من الظروف البيئية والتعديات الخارجية. كما تتأثر هي بحجم التطور المدني والازدهار الاقتصادي- الذي يتدخل في تحديد حجم العمل المعماري وشكله وتقنياته الإنشائية ومواده الخام- فالقيم الجمالية مثلما تتفاوت بين طبقة اجتماعية وأخرى في المجتمع الواحد، فهي تتفاوت في أشكالها بين المجتمعات الحضرية والريفية. وبين الصناعية والزراعية. وبين الساحلية والصحراوية والجبلية، بين المجتمعات المنفتحة على غيرها من الحضارات والأخرى المنغلقة على نفسها. بين المجتمعات العريقة والمجتمعات الوليدة في مستوطنات جديدة.

ولهذه القيم الجمالية انعكاسات شتى تظهر على سلوكيات وتعاملات الناس، مثلما تظهر في فنونهم وأدابهم وعاداتهم وتقاليدهم. والعمارة كمنجز حضاري، هي واحدة من انعكاسات أو تطبيقات هذه القيم على المستويين الفكري والمادي. فالعمارة تتشكل بداية وفق منظمومة من القيم المجتمعية الأصيلة أو الدخيلة، التي تستقل أو تتبع أو تخضع لمجموعة من المؤثرات البيئية والاقتصادية والسياسية. وهي ترتقي أو تنحدر على قدر وعي المجتمع وإداركه لأهمية دور العمارة في تشكيل أو إعادة صياغة وعي المجتمع ومفاهيميه العامة حول ذاته ومحيطه الجغرافي. ثم تتحول إلى مؤثر قوي في تغيير سلوكيات المجتمع ومنظومة قيمه التي كان يعتنقها إيجابا أو سلبا، تبعا لكفاءة المنجز والقيم التي يراد له أن يعكسها أو يعيد صياغتها. أو تم إهمالها وتجاهلها. فهي المرآة العاكسة لحالة المجتمع كيفما هو عليه وإلى ما سيؤول إليه.

وتتمحور القيم المعمارية حول العلاقة بين الشكل والمضمون. وتستهدف المواءمة بينهما مستمدة منهما قيمتين متلازمتين هما:
                   قيم وظيفية، وهي ترتبط بطبيعة المبنى (مبنى للسكن أو مبنى لممارسة العبادة أو المعاملات التجارية أو التعليمية أو الترفيهية... أو غيرها من الأنشطة الأخرى). كذلك ترتبط بعلاقة فراغات المبنى الواحد ببعضها البعض من حيث الأهمية والتكامل.
                   قيم جمالية، وهي التي تتعلق بالنسب الجمالية للمبنى وطرزه المعمارية التي تميزه عن الثقافات الأخرى المختلفة والمتباينة والمتفقة معها في المنطلقات والأهداف والغايات. فالعمارة الإسلامية مثلا، تشكل إطارا عاما لمجموعة من العمائر المحلية المتباينة بين بيئة إسلامية وأخرى، تخضع في تشكيلها لعدة معطيات بيئية واجتماعية وثقافية واقتصادية. وفي بعض الأحيان تخضع لمتغيرات سياسية يكون لها دور كبير في تشكيلها، لتصنع في النهاية هذا التمايز والتنوع داخل ذلك الإطار العام.

وتكتسب العمارة قيمتها الجمالية من خلال توفيقها بين:
                   القيم الجمالية المادية. وهي التي ترتبط بالجوانب التالية:
§                    الكفاءة الوظيفية للمنجز المعماري في تلبية احتياجات المجتمع المادية والعاطفية، كذلك بقدرته على مواجهة التحديات التي تفرضها عليه البيئة المحيطة بإشكالياتها المتعددة،
§                    القدرة على تحريك طاقات المجتمع الإبداعية ودفعه إلى تطوير قدراته واستثمار مقوماته البشرية وموارده الطبيعية في تحسين ظروف بيئته المحيطة لتواكب تطلعاته وتوفر له الاكتفاء الذاتي من احتياجاته الأساسية والكمالية.

                   القيم الجمالية المعنوية. وهي ترتبط بالجوانب التالية:
§        القدرة على خلق بيئة عمرانية تحقق حالة من التوافق والتواصل المباشر بين طبقاته وأطيافه المختلفة وتكون صالحة للتعايش والانسجام وتبادل المنافع والشعور المشترك بالانتماء للمكان
§        شعور المستعمل بالراحة والرضا النفسي وتكامل فراغات المبنى. والخصوصية التي يمنحه إياها المبنى. والحماية من العوامل المناخية. أو تعدي الآخرين على حرماته وممتلكاته. وحقه في التمتع بضوء الشمس والهواء دون عوائق تحول بينه وبين ذلك.

وقد اعتمدت العمارة المحلية التقليدية في تحقيق قيمها الجمالية- بشقيها المادي والمعنوي التي تعبر عنها- على مجموعة من التعابير الثقافية التي تستند في مرجعيتها ومحدداتها إلى العقيدة الإسلامية إضافة لاكتسابها العمق التاريخي الذي يمتد إلى مرحلة الإنسان ما قبل التأريخ. وهي تظهر بجلاء في الآتي:
1.                   التوفيق بين المتطلبات المادية والاحتياجات العاطفية والروحية. وهذا يظهر جليا من خلال الكفاءة الوظيفية للمباني على المستويين المعماري والتخطيطي في التعاطي مع الظروف البيئبة وتلبية قيم المجتمع الحضارية.
2.                استخدام عناصر ومفردات معمارية متنوعة متجانسة من حيث الشكل ومواد البناء (المحلية المصدر والتصنيع). وذلك من خلال تطعيم سطوح (واجهات) المباني وفراغاتها الداخلية الحوائط بالأعمال الخشبية والمشغولات المعدنية المحلية بأشكلها المتنوعة ولونها الأخضر إضافة للعناصر الزخرفية الجصية وفي بعض المساجد والبيوت الكبيرة يدخل القيشاني في تلبيس الحوائط، التي تثري مجتمعة جماليات أفنية البيوت وواجهات المباني وشوارع وأزقة المدينة.
3.                 استثمار النباتات المثمرة والأزهار العطرية في تزيين أفنية البيوت والساحات العامة وإحاطة المدن بالبساتين والجنائن التي تضفي بجمال أشجارها قيمة جمالية مضافة إلى الكفاءة الوظيفية لمخططات وعمارة المدن.
4.                استثمار المؤثرات البيئة المناخية على المنطقة التي تتميز بدرجة سطوع عالية للشمس كتعبير جمالي بين الظل والضوء وانعكاساتهما المتبادلة على سطوح المباني بطلائها الأبيض.

ملامح عامة عن العمارة والفن المعماري في مدينة سوكنة


مدينة سوكنة


د. عادل الغرياني


مقدمة/
لقد ضنت علينا الدراسات التي تناولت مدينة سوكنة بالمعلومات الدقيقة حول البناء المعماري، والتركيبة العمرانية لهذه المدينة، والذي بين أيدينا حتى الآن سوى بعض الإشارات التي وردت في كتب الرحالة الذين زاروا المدينة في فترات زمنية متباينة.

ومن خلال وصف الرحالة العرب والأجانب الذين تحدثوا عن بعض أحوال مدينة سوكنة خلال القرن الثامن والتاسع عشر الميلادي يتضح لنا أن مدينة سوكنة كانت تعتبر نموذجا للقرى السكنية المجمعة حول القصور، وكان هذا النموذج منتشرا في بلاد فزان بصفة عامة، فقد نشأت عدة قرى حول قصر أو مسكن محصن يعد النواة الأولى للقرية أو المركز الذي نما حوله.

ويذكر محمد بشير نجومه في هذا الشأن في تقريره حول بلدان الجفرة سنة 1914م أن مدينة سوكنة كانت عبارة عن مجموعة من القصور المتناثرة في غابات النخيل وأنه بترغيب من قبيلة الجهمة(1) انتقل سكان تلك القصور وشرعوا في البناء حول أكبر القصور. فيقول: "سوكنة كانت في قديم الزمان غير منتظمة بل هي كانت قصيرات صغار متفرقة كل قصر في حطية، كما هي آثارها موجودة الآن…. وبترغيب من قبيلة الجهمة التي أغارت على القصر الكبير انتقل سكان القصور الأخرى بالقرب عن القصر الكبير وشرعوا في بناء منازلهم حوله …. فصارت قرية صغيرة …. ولا زالت أهل القصور تتحول وتبني في المساكن ولم يبق في القصور إلا القليل …. ثم أجبر سكان بقية القصور إلى السكن في القرية …. ولما تكامل السكان فيها اتفقوا على أن يجعلوا سور حائط عليهم ليحفظهم من العدو وبيبان يقفلوهن بالليل وكل من له باب مسمى عليه يؤول أمره يسكره بالليل ويفتحه بالنهار".

من خلال هذه الرواية التاريخية التي انفرد بذكرها محمد بشير نجومه في مخطوطه حول التأسيس العمراني لمدينة سوكنة، ومن هذا العرض التاريخي لمراحل التأسيس، ومن خلال الدراسة الميدانية التي قمنا بها أيضا لعدد من قصور سوكنة التي لا يزال عدد منها في غابات النخيل المحيطة بالمدينة، يتضح أن مدينة سوكنة من الناحية العمرانية قد بدأت من تجمع سكان القصور الصغيرة التي أنشأت حول آبار المياه أو قريبا منها، ومن توزيعها أي القصور تدل على أنها أقيمت حيث تتوافر مواقع دفاعية فوق بعض التلال مثل قصر شجار، أو في وسط غابات النخيل كقصر تينداروا وقصر تيمز يلين.



وأهم ما يلاحظ على البناء المعماري لهذه القصور هو ارتفاع بناؤها عن سطح الأرض، إضافة إلى أنها كانت ذات أشكال مربعة أو مستطيلة أو دائرية، وذلك تمشيا مع الظروف الجيولوجية أو وفق طبيعة الأرض والمكان الذي يبنى عليه والمواد المتوفرة، لأن الطابع المعماري أو ما يسمى بالطراز أو النسق المعماري ما هو إلا نتيجة طبيعية لعدة عوامل مشتركة ومتفاعلة مع بعضها، مصهورة في بودقة الانتقاع الكامل للمبنى، وأساليب البناء ومواد الإنشاء، وطبيعة الإقليم أو المنطقة.


إن الجو الصحراوي القاسي ساعد في خلق القاعدة المعمارية لمدينة سوكنة التي اتصفت بصفة التضاد العضوي والبيئي Environmental Contrast، التضاد بين الجبال والرمال المحرقة والخضرة النضرة الدائمة في بساتينها وغابات النخيل التي تحفها.



ومهما يكن من أمر فبعد تحول سكان القصور وقيامهم بالبناء نحو القصر الكبير ووفق الروايات المحلية بدأ التكوين المعماري لمدينة سوكنة التي أصبحت بمرور الزمن تأخذ في تكوينها المعماري طابع المدينة المتكاملة. حيث تم بناء المسجد العتيق والسور وأصبحت تتكون من حيين سكنيين هما حي تيشرت وحي شلاكه ويتوسط الحيين القصر الكبير والجامع العتيق، وأصبحت مساحتها تتسع حتى بلغت في حدود سنة 1824م ميل مربع، تضم داخل سورها مجموعة من البيوت المتلاصقة الجدران، ذات شوارع وأزقة عشوائية المظهر، نالت نظافتها وأناقتها دهشة وإعجاب الرحالة كلابرتون Clapperton ودنهام Denham وأودني Oudney وكانت أغلب أفراد الوحدة القرابية -العيلة اللحمة- يسكنون جنبا إلى جنب أو في جهة معينة من المدينة.

إذن فالتركيب الجسماني لمدينة سوكنة كان يأخذ طابعا نوويا تجميعيا، ويمكن تلخيص أهم العوامل التي أدت إلى نمو هذا النوع من الاستيطان الصحراوي في سوكنة إلى عدة عوامل منها:

1.       عوامل استراتيجية، وخاصة فيما يتعلق بصد غارات وهجمات بعض القبائل البدوية التي كانت تغير على المدينة بين الفينة والأخرى، ومن ثم بنيت المساكن حول القلعة ثم بنيت الأسوار والأبراج التي تلف المدينة لتدرأ عنها الأعداء.

2.    عوامل جغرافية اقتصادية، وخصوصا فيما يتعلق بصعوبة الحصول على المياه، فالقصر الكبير الذي أقيمت حوله المساكن به بئر ماء على عكس القصور الأخرى الصغيرة.

3.     عوامل تتعلق بالنظام القرابي، حيث يمنع هذا التلاصق القرابي والقبلي من تفتيت العلاقات القرابية والقبلية التي يحرص عليها سكان المدينة.

يعد سور مدينة سوكنة من أبرز المعالم المعمارية في بلاد فزان، وقد نال بناءه إعجاب جميع الرحالة الأجانب الذي زاروا سوكنة، حيث قال عنه صاحب كتاب Children of Allah أن السور مبني بشكل هندسي رائع، وخطة مدروسة.

وكان لسور المدينة سبعة أبواب ضخمة مصنوعة من خشب النخيل. ثم أصبحت ثمانية أبواب في سنة 1824م. ويبدو أن هذا الباب الثامن الذي أضيف للأبواب السبعة قد ألغي بعد فترة من الزمن، حيث ذكر الرحالة التركي عبد القادر جامي الذي زار سوكنة سنة 1907م إن للمدينة سبعة أبواب. ويؤيد ذلك أيضا ما ذكره محمد بشير نجومه سنة 1914م في تقريره، وهذه الأبواب السبعة هي باب العمشة - باب جرانه - باب النجومات - باب الغنم - باب ثانيه - خوخة القاضي - خوخة الراشدي.

وإذا ما أمعنا النظر في أسماء الأبواب نلاحظ أن أغلبها منسوب للأسر أو العائلات التي كانت تقيم قرب الباب والمسئوولة عن أمر فتحه وقفله أمام القادمين والمغادرين، وحسب رواية نجومه فإن الأبواب كانت تفتح أثناء ساعات النهار وتقفل أثناء الليل.

ونلاحظ أيضا أن هناك باب منسوب إلى الأغنام لأن هذا الباب وفقا للروايات المحلية كان مخصصاً فقط لدخول أغنام الأهالي التي كانت ترعى في البادية. أما عن خوخة القاضي والراشدي، فهما أصغر الأبواب جميعا لأن كلمة خوخة بلهجة سوكنة معناها الباب الصغير جدا. وقد ذكر الرحالة جون فرانسيس ليون G.F. Lyon في رحلته أن هناك باب مخصص لدخول القوافل المحملة بالبضائع.
وعلى أي حال فقد كان سور سوكنة مبني على شكل هندسي ذي سبعة أضلاع جعلت به فتحات صغيرة لإطلاق النار ولأغراض عسكرية أخرى كالمراقبة وغيرها.

ما من شك أن سور المدينة قد بني بهذه الطريقة الهندسية الدفاعية كان الهدف منه أولاً هو حماية المدينة من غارات القبائل المجاورة، ثم لحماية قوافل وأموال التجار القادمين للمدينة من غارات أقوام الصحراء، وقد حرص الأهالي دائما على ترميم السور والعناية به، حيث يشير محمد بشير نجومه إلى أن الأهالي قاموا سنة 1840م ببناء دعامات قوية لسور المدينة أثناء تكرر هجمات عبد الجليل سيف النصر على المدينة، ومع مرور الزمن فإن ارتفاع السور وحجمه بدون شك قد تأثر بالعوامل المناخية والظروف السياسية التي مرت بها المدينة، ومن ثم فإن ارتفاع السور ووفقا للروايات الشفوية المحلية كان أعلى بكثير مما هو عليه الآن، وبالتالي فإن إعطاء أرقام وقياسات لارتفاع السور وعرضه أمر صعب - ولكن يمكن أن نذكر هنا أن ارتفاع السور كان يتراوح ما بين مترين ونصف إلى ثلاثة أمتار، وعرضه من نصف متر إلى متر في بعض النواحي، مبني من حجر الكلس أو حجر الطين.

مما لا شك فيه إن مدينة سوكنة كانت مسورة تسويرًا جيدًا، ولم تكن تتجرد المدينة من أسوارها إلا في فترات قليلة من تاريخها، ومع ذلك فإن حرص الأهالي وإدراكهم لأهمية أسوار مدينتهم جعل من عملية الترميم والبناء تستمر إلى أواخر العهد الإيطالي في ليبيا.

إن أهم ما يميز سور مدينة سوكنة عن بقية أسوار المدن في الولاية هو وجود ثلاثة وثلاثين برجًا بنيت على طول سور المدينة. وهي أبراج مبنية على أشكال ما بين المربعة ونصف دائرية. حيث تبرز ثلاثة من أضلاعها خارج ا لسور، والضلع الرابع أو الجزء الرابع من البرج يكون على امتداد اتجاه السور، ويتراوح ارتفاع الأبراج ما بين مترين ونصف إلى ثلاثة أمتار ونصف، وأما مساحتها فإنها تتراوح ما بين 4 × 4 إلى 6 × 5 مترًا.




وتشير إحدى الوثائق التركية أن الحكومة التركية في الولاية قامت بوضع مدفعين فوق أبراج سوكنة سنة 1907م. لزيادة تحصين المدينة التي كانت تتعرض بين الفينة والأخرى لهجمات القبائل البدوية التي تمتهن قطع الطرق والإغارة على القوافل.

وتعرف أيضا بقصر الحكومة، ومما يلفت الانتباه أنه على الرغم من ضخامة المبنى في وسط المدينة التي يعتبر أحد علاماتها المميزة، إلا أن كتب الرحالة لا تحتوي على ما يمكن أن نعتبره معلومات هامة حول هذا المبنى !! فلم يذكرها بعضهم في رحلته كبارث وكلابرتون وأودني والحشائشي وغيرهم، وإن كنا نتوقع من الأخير معلومات كثيرة حولها لأنه زار الزاوية السنوسية الملاصقة لمبنى القلعة، إضافة إلى طول إقامته في سوكنة.

وعلى أي حال فإن أهم ما ورد من معلومات حول هذه القلعة ما جاء في رحلة جيمس ريتشاردسن حيث يقول "…. تصف قلعة سوكنة حسب النظرة الأوربية كأي مبنى متهدم لا يصلح لإيواء أحد، ومع ذلك يظل هو القصر بالنسبة لهم رغم عدم وجودة حجرة واحدة ملائمة به، فقد تساقطت العديد من جدرانه، وملأت الحفر أرضيته …. في الوقت الذي لا يوجد فوق سطحه سوى مدفع صغير كئيب المنظر، ومدفعين آخرين علاهما الصدأ تكت السلم ".

ويقول إسماعيل رأفت "…. قلعة كبيرة بعض جهاتها تخرب يمكن للإنسان الإشراف منها على كل جهات الواحة" . ويبدو أن حالة الخراب هذه قد حلت بالقلعة في سنة 1260هـ/1844م. فقد أرسل الأهالي العديد من الرسائل إلى الوالي في طرابلس طالبين مد يد العون لترميم القلعة والاهتمام بها، وقد صرفت مبالغ من الولاية وأمر الوالي بالعناية بالقلعة وترميمها. ولكن ذلك لم يحدث إلا في أواخر العهد العثماني الثاني.

ومهما يكن من أمر فإن قلعة سوكنة التي تتوسط تماما المدينة تعتبر أعلى وأكبر مبنى بها، كان بها مقر الحاكم أو القائمقام ومدير القضاء، وبها يجتمع المجلس البلدي، وتقام المحاكم، وتجمع الضرائب.


وتبلغ مساحتها تقريبا 35×45 مترا وارتفاعها يتراوح ما بين 40 - 45 مترا، بها خمس حجرات ومخازن وبئر ماء، وحجرة كبيرة بعض الشيء قرب مدخل القلعة ربما كانت المكان الذي تعقد به الاجتماعات، لأنها أكبر الحجرات جميعا وأخيرا فإن للقلعة ساحة أو فناء تفتح فيه جميع الحجرات.

نظرا لكون منازل المدينة مبنية بشكل متلاصق الجدران فإن شوارع المدينة وأزقتها كانت عشوائية المظهر، تختلف من حيث الطول والاتساع من شارع لآخر، ومن حي لآخر، إلا أنها في عمومها ضيقة بعض الشيء، وليس كما وصفها جون فرانسيس ليون G.F. Lyon بأنها ضيقة جدا. إذ يتراوح عرض بعض الشوارع ما بين مترين إلى ثلاثة أمتار وقد تصل إلى خمسة أمتار، كما أنها لم تكن على استقامة واحدة بل تكثر فيها الانعطافات، وكان بعضها مسقوفا وليس بها سوى كوة لإدخال الضوء.

وعلى أي حال فإن شارع باشاله (2) يعتبر أطول شوارع سوكنة حيث يبدأ من زنقة (3) الفراحيت (4) إلى ساحة القصر، ويعتبر هذا الشارع أيضا أعرض شوارع سوكنة، وأما أضيق شوارع سوكنة فهو شارع عِرّقِيق الذي لا يتعدى اتساعه مرور رجل واحد فقط من خلاله. ومن أهم شوارع سوكنة التي يمكن أن نعتبرها رئيسية هي شارع باشاله، الطوالبية - عرقوب - الفوارسية - الدلاوحه - ونزريك - الرغويات - بنشكي - بن عيسى - الهميلية (5).

ويزين تلك الشوارع الأقواس التي يبلغ ارتفاعها من ثلاثة إلى أربعة أمتار، ولا يكاد يخلو شارع في سوكنة منها، وهي على شكل نصف دائرة، كما يزين الشوارع أيضا تلك الممرات العلوية التي تعرف عند الأهالي باسم الخطامات. وهي عبارة عن ممر مسقوف يربط بين بيتين من أعلى الشارع وعادة ما يكون أصحاب البيوت التي تربط بينها تلك الممرات من ذوي الأسرة الواحدة أو أقارب، وكانت هذه الممرات تستخدم في العادة من قبل النساء، وهي طراز معماري تنفرد به سوكنة عن بقية الواحات والمدن الليبية بصفة عامة، ويتراوح طول هذه الممرات من مترين إلى ثلاثة أمتار حسب عرض الشارع.



وتنتهي شوارع سوكنة في العادة بساحات واسعة تعرف عند الأهالي باسم -الوسعاية - أو السماح- والتي غالبا ما يكون بها آبار للمياه، ومن أشهر تلك الساحات -الهميلية - الصديقية - الجباره - حلاله - وسعاية الجامع العتيق - السنوسية – سماح القصبة. ويعتبر أكبر تلك الساحات ميدان أو سماح القصبة ثم ميدان السنوسية، ويعد ميدان بئر الصديقية أصغر الساحات جميعا.
وتنتشر البيوت حول تلك الساحات وتكون ملتقى لأبناء وبنات البلدة لتبادل الأخبار، وإن كان بعض من تلك الساحات ما كان يستخدم لبيع المواشي واستقبال القوافل.

كانت البيوت السوكنية بطابقيها الأرضي والعلوي محط انتباه الرحالة الأجانب الذين زاروا سوكنة، حيث تحدث عند هذه البيوت كل الرحالة الأجانب دون استثناء ودونوا عدة ملاحظات هامة تعكس مدى إعجابهم بطراز المدينة المعماري الفريد في ذلك الوقت.

ويقول محمد سليمان أيوب "ولا زالت سوكنة للآن محتفظة بطابعها القديم، فلا زالت منازلها ذات الطابقين تشيد على الطراز العربي وما زالت هذه المنازل قائمة..".

إن أهم ما يلاحظ على منازل سوكنة أن طرازها المعماري قد جمع بين الطراز المعماري للمدن الساحلية والطراز المعماري للقرى الفزانية وفي ذلك يقول الرحالة التركي عبد القادر جامي ".. أبنيتها على طراز متوسط بين نمط المدن الساحلية والقرى الفزانية..".


ولعل أهم معلومات نجدها حول منازل سوكنة وطرازها المعماري في رحلة الرحالة الإنجليزي جون فرانسيس ليون G.F. Lyon الذي دون العديد من الملاحظات الهامة حول منازل سوكنة، وهي معلومات نادرة وهامة لا نجدها في غيره من المصادر الأخرى، إذ يقول في جملة ملاحظاته "..المنازل مشيدة من الطين المخلوط بالحصى..". ويقول أيضا "..معظم المنازل لها طابق ثان يرتفع فوق الطابق الأرضي، وفي كل منزل فناء صغير يتوسط الدار وتصطف حوله الحجرات التي لا يدخلها الضوء إلا من الأبواب..". ويقول أيضا "..أما الحجرات الأخرى فهي في مستوى الأرض، ومن بين الحجرات توجد اثنتان أو ثلاثة خالية من النوافذ، وتؤدي إلى الحجرة الكبيرة سالفة الذكر، وتتلقى هذه الحجرات الضوء من الأبواب فقط .. والأبواب مدهونة بطلاء أسود يصنعونه من رماد الخشب مضافا إليه بعض الصمغ ..". مصنوعة من خشب النخيل الذي تسقف به البيوت أيضا.

ويقول لايون Lyon: "وتشييد جميع المنازل على نمط واحد تقريبا، فمن فناء مربع صغير عند المدخل توصلك بعض الدرجات إلى غرفة مفتوحة تشكل الحجرة الأساسية في حيث تقع باقي الحجرات في مستوى سطح المدخل وتتصل حجرة أو اثنين بالحجرة الرئيسية المطلية بلون أسود..". إذ يقوم الأهالي بطلاء جدران الغرفة على شكل شريط أسود على ارتفاع مستوى الصدر لطرد إبليس والشياطين من دخول البيت عند ولادة الطفل خوفا من إلحاق الأذى أو نظرة سوء تصيب المولود الذكر في أيام الولادة الأولى. ولا بد أن اعتقادهم أي السكان والذين في غالبيتهم من البربر في أرواح الشر ساكنة البيوت المظلمة والكهوف والمياه وغيرها كانت واسعة الانتشار بينهم، وقد لاحظ ألفرد بل هذه الظاهرة عند أغلب القبائل البربرية في شمال أفريقيا.


ومهما يكن من أمر فإنه لدراسة مركز عمراني مثل سوكنة من حيث أنه تعبير عن رغبات الإنسان وحاجياته في بيئة معينة وفي عصر معين تنعكس عليها عوامل بيئية وتتجسم فيها مظاهر نشاط الإنسان والطور الذي بلغه من الحضارة - أهمية جغرافية - فالمسكن من حيث مادته وتنسيقه ونظامه الداخلي له دلالته التي لا تخفى من حيث توافر مواد خام معينة تستخدم للبناء، كما أن مادة البناء وطبيعة السكن ترتبط ارتباطا وثيقا بمهنة الإنسان والغرض من بنائه وأسلوب معيشة سكانه من حيث مدى استقرارهم.

فالبيت أو السكن السوكني بشكله المستطيل أو المربع، وبغرفه التي يتوسطها صحن مسقوف أو مظلل أو مكشوف وما ينتشر حوله من الشرفات المكشوفة يختلف عن الزريبة التي تبنى من جذوع النخيل وفروعه وكلاهما يدخل في بنائه النخيل بأجزائه المختلفة، كما يختلف هذان النوعان من المساكن عن خيام البدو المصنوعة من شعر الماعز.

وليس المسكن وحده له أهميته الجغرافية، بل إن نظام توزيع المساكن ليتألف منها مركز عمراني متفرق ومتجمع ثابت دائم أو متنقل مؤقت له دلالته على الظروف الجغرافية الطبيعية منها أو الظروف الاقتصادية والنظم الاجتماعية السائدة.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن نمط بناء البيوت في سوكنة يختلف عن نمط بيوت فزان بصفة عامة، فبيوت فزان منخفضة جدا وأغلبها كالأكواخ يتم بناؤها من الطين أو الطوب المجفف في الشمس. وأحيانا بالتراب والطين مما يؤدي إلى انهيارها بسرعة عند سقوط الأمطار بغزارة، وقد ذكر الرحالة التونسي محمد بن عثمان الحشائشي ذلك وهو يتحدث عن مباني مدينة مرزق بالقول " …. وإذا نزل المطر فإن كل الدور تتهدم ولهذا السبب فقد أعيد بناء المدينة ثلاث أو أربع مرات في ظرف قرن".

كما أن بيوت فزان كانت في غالبها تتكون من طابق واحد، مستثنين من ذلك عدد من البيوت في غدامس، أما مرزق فإن أغلب بيوتها كانت تتكون من طابق واحد إلا عدد من البيوت التي كانت تتكون من طابقين وهي بيوت تعود ملكيتها لعدد من تجار سوكنة الأغنياء المقيمين في مرزق، وقد أشار إلى ذلك الرحالة التونسي في رحلته إلى مرزق.

وحتى تكون الصورة أوضح لدراسة الفارق المعماري بين مدينة سوكنة وعدد من الواحات الصحراوية في بلاد فزان وغيرها من الواحات الليبية الأخرى والتي تعتبر سوكنة الحد الشمالي لها، نورد هنا بعض النصوص من كتب الرحالة الأجانب الذين زاروا عددا من تلك الواحات الصحراوية، حيث يقول الرحالة الألماني فريدريك هورنمان وهو يصف مدينة زويلة " بيوتها من طابق واحد وتضاء الحجرات من فتحات الأبواب.".

ويقول أيضا ‘‘منازل فزان صغيرة مبنية من قطع الحجارة أو الطوب المصنوع من تراب الكلس أو الصلصال، ويجفف في الشمس …. والسقف وهو عجينة من الحجر الجيري وتتم هذه الخطوة بطريقة يدوية.’’.

ويقول وهو يصف واحة أوجله ‘‘البلدة مشيدة بطريقة بدائية، شوارعها ضيقة وقذرة وبنيت المنازل من الحجارة وتتكون من طابق أرضي واحد، وهي مظلمة لا يدخلها الضوء إلا من الأبواب وتنتظم الحجرات حول ردهة حيث يتقابل أبوابها بغية توفير الإضاءة’’.


مما سبق يتضح أن المساكن في فزان بصفة عامة بما في ذلك سوكنة تتفق فيما بينها من ناحية كون جميع الحجرات تفتح أبوابها في ردهة البيت وذلك لغرض الإضاءة نظرا لعدم وجود نوافذ تطل على الشارع العام يمكن أن يدخل منها الضوء. كما أنها تتشابه من حيث مادة البناء وهي الطين والصلصال وخشب النخيل، والاختلاف يكمن في كون أن بيوت سوكنة تتكون من طابقين، وأكبر مساحة من بقية البيوت المنتشرة في فزان والتي تتكون في الغالب من طابق واحد. إضافة إلى الاختلاف في توزيع الحجرات وما يحتويه البيت من مرافق ومخازن، حيث يحتوي الطابق الأرضي في سوكنة على مكان خاص للحيوانات، ووجود عدد من المخازن، وبئر للماء، وهو ما لا نجده في بقية المساكن في الجنوب الليبي بينما نجده في طرابلس وعدد من المدن الساحلية الأخرى.

وإذا رأينا المباني في شمال ليبيا وفزان نلاحظ أن مدينة سوكنة فعلا وكما قال عبد القادر جامي في رحلته أنها تجمع بين طراز المدن الساحلية والقرى الفزانية. وهو أمر ليس بغريب لأن مدينة سوكنة تحتل موقع الوسط بين المنطقتين، وأمر الاقتباس من الحضارات المجاورة رغم صعوبة تتبعه يفسر لنا أيضا بعض الأنماط الشائعة من المساكن، ومما يزيد هذا الأمر صعوبة موقع سوكنة بالتوسط كملتقى لتيارات حضارية متباينة، فمن الجنوب يبدو أنها لم تتلق إلا أثرا محدودا، لأنه رغم قدوم عدد كبير من الزنوج الأفارقة للاستقرار بها، إلا أن تعدد المواطن التي جلبوا منها كأرقاء قد أضعف من تأثيرهم.

ورغم انتشار المساكن ذات الغرف المربعة أو المستطيلة التي تحيط بفناء يتوسطها، وذلك في أطراف السودان الشمالية فإن مصدر هذه الطراز من المساكن ما زال موضع جدال! هل هو قادم من الشمال أو وفد من الجنوب؟. أو أنه نشأ نشأة مستقلة في كل منهما؟. أما من الغرب فالقصور المنتشرة في الصحراء في جنوب الجزائر وحتى غات، هناك احتمال كبير في انتشارها حتى سوكنة.
وعلى أي حال فإن البيوت في سوكنة تتشابه من حيث طريقة البناء، ومن حيث التقسيم الداخلي للبيت، ولكنها تختلف من حيث كبر المسافة وصغرها وذلك وفقا لحالة صاحب البيت المادية.


وتبدأ عملية البناء في سوكنة بعد تحديد الأرض بوضع الأساسات الأولى للبيت وهي عبارة عن قاعدة من الحجر والطين بارتفاع نصف متر إلى متر أحيانا، ثم يشرع بعد ذلك في وضع قوالب الطين المجففة بأشعة الشمس والتي تتكون من الطين المخلوط بالحصى والماء. توضع بعد خلطها بالماء في قوالب من الخشب يتراوح حجمها من 20 إلى 30 سم وطولها من 25 إلى 30 سم. وارتفاعها من 10 إلى 15 سم تقريبا. ثم يترك في الشمس لعدة أيام حتى يجف ثم يحمل بعد ذلك في عربات تجرها الحمير تعرف عند الأهالي باسم الكرطون إلى مكان البيت، وعادة ما كانت تتم هذه العملية في الساحات العامة في فصل الصيف.

وتستمر عملية البناء بوضع كمية من الطين المبلول بين القوالب الطينية المجففة حتى تصل عملية البناء إلى مرحلة السقف، وهنا توضع جذوع النخيل لتصل بين الحائط والآخر، ويوضع فوقها جريد النخيل ثم يوضع فوق الكل عجينة من الحجر الجيري وروث الحيوانات الذي يحل محل الاسمنت، فتزيد هذه الخلطة صلابة وتماسك الطين، وتستمر عملية البناء لبناء الطابق الثاني بالخطوات السابقة نفسها باستثناء وضع أو بناء القواعد الحجرية كما في الطابق الأول. ويسقف الطابق الثاني بالطريقة نفسها التي سقف بها الطابق الأول مع إضافة وضع ممرات من جذوع النخيل المجوفة والمفتوحة من أعلى لتسهل انسياب مياه الأمطار منها أثناء سقوطها وتعرف عند الأهالي باسم ميزاب وجمعها موازيب.

ومن الجدير بالذكر هنا أن عملية البناء تلك كانت في الغالب تتم بتعاون أبناء البلدة فيما بينهم، ولكن في بعض الأحيان فإن عدداً من الأهالي الأغنياء يقومون بتأجير عدد من العمال المهرة المشهود لهم بفن العمارة ويدفعون لهم مقابل عملهم أجراً يومي أو شهرياً، حيث تذكر إحدى الوثائق المؤرخة بتاريخ 1260هـ/1844م إلى أن أجرة فني البناء الشهرية تساوي ثلاث ريالات، وفي وثيقة أخرى بتاريخ 1282هـ/1865م تذكر أن أجرة أسطى البناء في سوكنة 240 ليرة.

وينقسم البيت السوكني إلى ثلاثة أقسام، قسم للمعيشة والنوم وقسم خاص للحيوانات مع المنافع الأخرى وهي المطابخ – الساحة – المخازن – الشيعة. والقسم الثالث وهو الطابق الثاني من البيت ويكون للمعيشة فقط وبه دورة مياه – وتعرف بلهجة سوكنة بالسَّقاط وحمام وعدد من الغرف، وساحة مفتوحة تعرف بالمجلس تستخدم للجلوس والراحة في ليالي الصيف.



ويبدأ البيت بباب كبير مصنوع من خشب النخيل، يتراوح ارتفاعه من متر وعشرين سنتيمتر إلى ثلاثة أمتار، وعرضه ما بين مترين إلى ثلاثة أمتار. ثم الدراقة (6)، فالمربوعة (7) ثم حجرة الجلوس الشتوية فالمتعدية (8) ثم الدار المقابلة (9) التي غالبا ما يبنى بها حجرة صغيرة تستعمل كمخزن للذهب والمجوهرات الثمينة يبلغ عرضها نصف متر، ثم السقيفة (10)، فالظل لاله (11)، ثم الدار الشرقية فوسط الحوش أو الردهة ويختلف اتساعها من بيت لآخر. فقد ذكر الرحالة كلابرتون في رحلته أن البيت الذي أقام به في سوكنة كانت له ردهة أو فناء مساحتها 18 قدم مربع، ويحتوي وسط الحوش كما يعرف بلهجة سوكنة على السلم، الذي يكون في أسفله على غالب الأحيان مخزن صغير إلى جانب مربع مبني من الطين يرتفع عن الأرض بمقدار نصف متر تقريبا يستخدم للجلوس، ويعرف عند الأهالي باسم الركابة.

أما القسم الثاني من البيت والذي يعرف عند الأهالي باسم تفالي (12) ويفصل هذا الجزء عن بقية البيت الأرضي باب يعرف بباب الدشع (13) ويتكون تفالي من المطبخ والمخازن وردهة مستطيلة على الغالب تفصلهما عن الشيعة والمولي (14) والكنيف (15) . أما القسم الثاني من البيت فيعرف عند الأهالي بالسطح ويحتوي على عدد من الغرف والمجلس (16)، والساباط (17) والسَّقاط (18) والكنيف.

إن الشيء الملاحظ على مساكن سوكنة بصفة عامة هو اختفاء النوافذ التي تطل على الشارع العام وخاصة في الطابق الأرضي من البيت، في حين أنها تكون موجودة وذات شكل هندسي فني رائع في الطابق الثاني من البيت.
وتفسير ذلك في رأينا يعود إلى العوامل البيئية والمناخية، فشوارع سوكنة رملية مما يسهل دخول الأتربة والغبار للبيوت خاصة الحجرات التي تطل على الشارع العام، إضافة إلى أن ارتفاع سقف البيوت ليس عال جدا ومن ثم فإن وجدت النوافذ سوف تكون في مستوى رؤية المار من الشارع وهو أمر يخالف العادات والتقاليد التي يحرص عليها السكان، ومن ثم اهتم السكان بتصميم الأفقية الداخلية للبيت والعناية بها، وجعلوا الفتحات الهامة الرئيسية تتصل بفناء البيت من الداخل والذي يكون مفتوح من أعلى أي غير مسقوف.

ونلاحظ أيضا أن الأهالي كانوا يركزون بشكل هام على المدخل الرئيسي للبيت، حيث نرى أنه كان يصمم بطريقة خاصة تتلاءم مع التقاليد العربية الأصيلة، فنجد أن المدخل لا يؤدي مباشرة إلى الفناء -وسط الحوش- بل يوصل إلى رحبة مربعة تعرف بالدراقة والرحبة توصل إلى ردهة أخرى هي المتعدية ثم إلى وسط البيت. وذلك حتى لا يتمكن أي عابر أو مار من الشارع أن يرى ما بداخل البيت.

لقد كان الفناء الداخلي في بيوت سوكنة معالجة معمارية تحجب عن الساكن كل عوامل الطبيعية الخارجية، وتترك له التمتع المطلق بالسماء وحدها. وبذلك فالفناء الداخلي معالجة معمارية ناجحة في رأي الباحث نابعة من بذور الفكر الصحراوي واستجابة صريحة لمقتضيات المناخ. لقد ركزت هذه المعالجة المعمارية للمنازل على الأفنية الداخلية وعولجت على أنها فراغات محدودة ثابتة وذات طابع خاص، حيث كانت الأفنية الداخلية إضافة إلى ما سبق غرفة للمعيشة الرئيسية تجري فيها أنشطة الحياة اليومية وخاصة في فصل الصيف لبرودتها.

والمساكن في سوكنة من الخارج بصفة عامة بسيطة المظهر متواضعة الشكل، ولم ينل الشكل الخارجي قسطا كبيرا من العناية، إذ تعطي الخوارج -وفق ما يرى الباحث- إحساسا عميقا بأن صاحب المسكن كان يبني لكي يعيش ويستمتع بحياته في هدوء، ولا يهتم بالحصول على إعجاب الناس من الخارج، في حين يدل عدد الحجرات واتساعها وكثرة المخازن في البيت على مكانة صاحب البيت الاجتماعية ومقدار ثرائه.

وبناء على ما سبق فإن أهم ما يلاحظ على البناء المعماري للبيوت في سوكنة ما يلي:

1-      تخصيص حجرة رئيسية هامة تواجه الشمال -البحري- وتطل على الفناء الداخلي الذي كان يعتبر عنصرا أساسيا في تصميم البيت.

2-   أن يكون المدخل متعرجا على نفسه مرة واحدة على الأقل ليمنع المارة من رؤية ما بداخل المنزل.

3-     احتواء الدور الأول على حجرة استقبال للرجال متسعة ومزدانه بالسجاد(19)، وهي ما تعرف عن الأهالي باسم المربوعة.

4-   احتواء الطابق الأرضي على قسمين -قسم للمعيشة وقسم للحيوانات والمنافع، واحتواء الطابق الثاني على غرف وشرفات ومنافع.

5-    اقتصار وجود النوافذ على الغرف الموجودة في الطابق الثاني.

6-   كثرة المخازن في البيوت ووجود آبار المياه داخل المنازل.

7-    كان يتم بناء البيوت من مواد خام موجودة في المدينة.

8-    كانت الحوائط تبنى على مداميك منظومة من الحجر والطين لتقوية دعائم البيت.

9-   كانت أبواب الحجرات كلها تفتح في فناء البيت المفتوح من أعلى لتلقى الضوء.

10-           كانت الأبواب تصنع من خشب النخيل، وتعد الأبواب الرئيسية أكبر حجما من الأبواب الداخلية، حيث يبلغ في العادة عرض الأبواب الرئيسية ما بين متر وعشرين سنتيمتر ومتر ونصف وارتفاعها مترين، أما الأبواب الداخلية فلا يتعدى عرضها التسعين سنتيمتر وارتفاعها متر واحد أو متر وعشرين سنتيمترا.

11-   وأما من حيث الشكل Form فإن الأشكال المختلفة التي اتسمت بها العمارة في مدينة سوكنة كانت ولا شك نتيجة طبيعية لعضوية مبسطة، وأن الطابع المميز لها هو الاستمرار الكتلي والتداخل الفعلي، هذا إذا ما أضفنا إلى ذلك حساسية خاصة لتفهم الشمس وانعكاساتها على الأسطح الملساء المختلفة، نستطيع أن ندرك لماذا تعتبر مدينة سوكنة آية في التشكيل الفني بأسطحتها البيضاء وفتحاتها الصغيرة. ومن ثم فقد وصفها إسماعيل رأفت بقوله أنها مدينة جيدة البناء.

هذه اللوحات الزيتية الفنية المعبرة تظهر ملامح ومعالم مدينة سوكنه في حقبة من الزمن كما عبر عنها الفنان محمد حجي في مجلده الفني (رسومات من ليبيا ) وهذا دليل يجسد التراث الليبي المترابط في شتى المدن الليبية , ما تناوله الفنان في جولته والتي شملت جميع إنحاء ليبيا الغالية ومن يريد المزيد من رسومات هذا الفنان يمكنكم الاطلاع على مجلده والمسمى (رسومات من ليبيا ) الدار العربية للكتاب..... أ علي أحمد يامي



المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية