أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأحد، ديسمبر 31، 2017

التجربة النقدية المعمارية في ليبيا






جمال اللافي

يظن عموم المعماريين في ليبيا أنه ليس هناك حركة نقدية معمارية في ليبيا بتاتا. والحقيقة غير ذلك. فهي موجودة بدءا بتأسيس أول قسم للعمارة في ليبيا في جامعة طرابلس في العام 1969 م. ومع أول مشروع لمعماري خريج من هذا القسم ينفذ على أرض الواقع. هذا في حالة لم نعتبر مناقشة مشاريع الطلاب داخل قسم العمارة حالة نقدية تستهدف الارتقاء بالعمل المعماري وتحسين جودته.

أول مشروع معماري ينفذ، تعرّض هو وما بعده من مشاريع لحالة إهمال شديدة وتجاهل تام من طرف زملائه، لم يحتفوا به، لم يعلقوا عليه، لم ينشر حوله ولا مقالة صغيرة تبشر بمرحلة جديدة للعمارة في ليبيا، لم يتم تسجيله كسابقة معمارية ليبية. (مشروع المجمع السكني بزاوية الدهماني الذي صممه المعماري الطاهر الزلوزي، رحمه الله- كمثال) وغيره من المشاريع والمعماريين الذين تركوا بصمتهم المعاصرة على العمارة الليبية (أ. م. أحمد انبيص، م. خالد عجاج، م. جلال بن محمود، د. مصطفى المزوغي، أ. م. محمد القبلاوي. د. عبدالجواد بن سويسي. د. محمود دازة. م. عزت خيري، م. نوري عويطي، م. صالح المزوغي، م. ظافر الحميدي، م. حسام بورزيزة، م. أحمد ساسي، م. أشرف فرحات، م. أشرف نصر، م. مؤيد الفازع، م. حاتم الشكشوكي، م. أيمن العالم، م. أكرم العلوص، م. نعمان كرداش، م. هدى الفيتوري، م. هيثم دازه، أ. م. وليد التركي، م. لؤي بورويس... وغيرهم من المعماريين والمعماريات والمصممين ممن لم تحضرن أسماؤهم عند كتابة هذه المقالة). أعمال تستحق أن يقف عندها الناقد المعماري، ليسجل رؤيته النقدية حولها ويعطيها بعضا من وقته الثمين، دون أن يجحفها حقها.

إذاً، يمكننا اعتبار التجاهل والتهميش في حد ذاته حركة نقدية هدامة، تعتمد منهج اللامبالاة بأي منجز يحققه معماري ليبي من طرف زملائه وشركائه في المهنة من جهة. ومن طرف المعماري الناقد من جهة أخرى، فيتحدث أو يكتب عما يجري في العوالم المعمارية الأخرى، ولا يشير بصورة أو أخرى للحالة المعمارية في ليبيا، لا بالغمز ولا باللمز.

النوع الثاني، من الحالة النقدية في ليبيا، تعتمد على الكتابة النقدية التي تتجاهل الإشارة إلى أي محاولة تمت للإرتقاء بالعمارة الليبية المعاصرة، سواء في اتجاه التجديد أو التأصيل. وهي حركة تعتمد منهج الاستهانة بجهود المعماريين الليبيين من طرف زميلهم الناقد، فيتم الحديث أو الكتابة حول غياب هذه المحاولات، وكأني بهذا الناقد يعيش في برجه العاجي، متجاهلا ما يجري على أرض الواقع. مسفها لأي دور يضطلع به زملاؤه في هذا الإطار، والتعاطي مع كتاباته النقدية باعتبارها المحاولة الأولى التي يتبنى فيها ناقد الخوض في معترك النقد المعماري، متجاهلا الإشارة إلى العديد من المحاولات التي سبقته بعقود طويلة في إطار التأسيس لحركة نقدية معمارية ليبية، نراها في كتابات الدكتور رمضان بلقاسم والدكتور مصطفى المزوغي والأستاذ أحمد انبيص والمرحوم الأستاذ علي قانة في مجلة (آثار العرب) في منتصف التسعينيات من القرن الماضي. وأيضا كتاباتهم في (الصفحة الرابعة) بجريدة الشط في بداية هذه الألفية ومن بعدها كتاباتهم في مجلة مربعات. ولا يزال بعضهم يمارس هذه الحالة النقدية إلى يومنا هذا.

أما النوع الثالث، فهو ذلك الذي يتخصص في التعريض بمحاولات التأصيل للعمارة الليبية المعاصرة ووسمها بالتقليد، دون أن يكلف نفسه عبء مطالعة هذه الأعمال وتحليلها وتقييمها النقدي المنصف، بحيث يتم التعرف على مواطن التجديد ومكامن التقليد، عبر قراءة متأنية وموضوعية في أحد هذه الأعمال. ما يحصل ليس أكثر من تسفيه لجهود. وانتقاص لمحاولات جادة لها ما لها وعليها ما عليها من مآخذ.

أنواع أخرى من النقد، الذي امتازت بها الحركة المعمارية في ليبيا عن غيرها- لا تحتمل هذه المقالة سردها- تنبئ عن فراغ فكري أو معوقات نفسية أخلاقية تمنع من التأريخ لحركة نقدية معمارية معاصرة في ليبيا، تسهم بدورها في الارتقاء بالعمارة الليبية لتواكب تطلعات المجتمع الليبي، قبل أن تواكب مثيلاتها في الحراك المعماري العالمي.


الحركة النقدية المعمارية في ليبيا، لابد لها يوما أن ترتقي لتأخذ مسارها الصحيح، لأنها بصورة أو أخرى موجودة، سواء اعتمدت على مبدأ التجاهل والتهميش للمحاولات المعمارية التي تنجز على أرض الواقع. أو اعتمدت على تجاهل الجهود السابقة التي تبذل في إطار التأسيس لحركة نقدية معمارية ليبية. 

عمارتنا بين المادة والروح



  
المعماري/ رشيد كعكول

للعمارة عدة اتجاهات معمارية كل منها تحمل فكرة وتوجه خاص بها ، تيارات ومدارس ونظريات استمدت سيماتها من الثقافة والبيئة والظروف الاقتصادية والسياسية لمكان و مرحلة ما (الكلاسيكية – الوظيفية - العضوية – الحداثة – التفكيككية – الديناميكية – الخضراء ... الخ) هي ما  يمثل الجانب الفلسفي و الروحي لاي عمارة وهي الرابط السحري بين العمارة كفراغ وبين الانسان المستخدم لهذا الفراغ ليعطيه بعداَ يتجاوز فيه الزمان والمكان ، نظريات هي امتداد وتطوير لعمارة سابقة قديمة تشكلت هي الاخري تحت ظروف معينة ، نظريات تتسم بالتطور والتجدد حيناَ وبالاحياء والانتقاء حيناَ اخر عمارة يغديها الفكر والتجربة وهما عاملان مهمان للعملية الابداعية  وهو ماحدت في اوروبا خصوصاَ في الفترة مابين القرن الثامن عشر والعشرين ويستمر هذا الحراك الفكري المعماري الذي يتناول الظروف التي نشأت فيها العمارة في عصر ما والعوامل التي أثرت عليها والاشكال المعمارية والطرز التي انتجتها لديهم الي يومنا هذا ، عالمنا العربي عموما وفي ليبيا خصوصا نفتقد إلى هذا الجانب وهذا الحراك حتي في التقليد أو تبني أحد هذه الاتجاهات في الفكر المعماري فما بالك بالجانب الإبداعي فيه .
عمارتنا القديمة والتي لم تتطور للاسف واصبحت في كثير من الاحيان تتهم بأنها لا تتلائم مع متطلبات العصر الذي بحاجة الي مباني أكبر حجما ومساحة وبحاجة إلى ارتفاعات تتعدد فيها الادوار نتيجة لارتفاع أسعار الأرض والحاجة إلى زيادة عرض الشوارع نتيجة للتطور الصناعي والحاجة إلى دخول الآلة.
قصور اثار الكثير من الجدل ولكن الأهم من ذلك كله حسب وجهة نظري أن القصور الحقيقي يكمن في انحصار العمارة عندنا بمساحة معينة في الفكر المعماري قبل أن تحاصر واقعياَ بنمط آخر من العمارة المجلوبية Exociticism )  ) مما يجعلها جامدة لاتنمو لتثير جدلاَ واسعا بين قطبي العمارة (الوظيفية والشكل) علي مستوي المبني والمدينة علي حد سواء، رغم محاولة بعض المعماريين وخصوصا في المرحلة الإيطالية استنباط الكثير من مفرداتها.

هذا الجمود ليس بسبب فقر في مفرداتها المعمارية والبصرية ولا ملامحها التي اعطتها صبغة خاصة وإنما بسبب عدم دراسة الجانب الفكري الذي يكمن وراء المفردات البصرية. ونتيجة لعدم وجود دراسات حقيقية عميقة لهذه المفرداتها وتحليلها بموضوعية. كذلك نتيجة لانعدام الحركة النقدية المبنية علي أسس علمية صحيحة وعميقة في مفاهيمها للفكر المعماري لعمارتنا، والذي هو سبب لتطوير الحركة المعمارية أسوة بعالم الأدب الذي تطور بسبب تطور الحركة النقدية فيه وكان مفتاحاَ لتقدم بعض الدول عمرانياَ.
إن عدد البحوث والدراسات من الجهات المختصة ولكثير من الطلبة خصوصا طلبة الدراسات العليا بالخارج كبير وكبير جدا لم يتم استغلاله بالصورة المطلوبة ودراستها جيدا وفرزها وتمييز الجيد منها. لأن بعض أصحاب هذه البحوث والدراسات للاسف لجأ الي هذا الجانب  ليس لقناعة به وإنما للحصول علي شهادة لا اكثر ولا اقل. أما العمارة التي ننتمي إليها، فنتغى بها كما نتغنى بالتاريخ في المناسبات واللقاءات الخاصة، بينما الواقع ومانراه من عمارة اليوم شئ آخر.

لذلك نحن بحاجة إلى دراسة نقدية ملحة لفهم الجوهر الحقيقي لعمارة الماضي، دراسة فكرية وليست شكلية تتجاوزالعاطفة والصورة لتسبر اغوارها وتستكشف الافكار وراء المظاهر وتسبقها. فعمارة اليوم التي تحاصرنا ونشاهدها تغزو مدننا وشوارعنا يتم التركيز فيها علي الجانب المادي فقط والمتمثل في الدور الوظيفي للمبني وما يتطلبه من مساحات في تشكيل مشوه لامعني ولا روح فيه. وفي أحسن الأحوال التشكيلات الجمالية ال من أي حياة أو معني هي شطحات أقرب منها الي العمارة. وهي ايضا عمارة لا تستمد سيماتها من البيئة المحيطة والغنية وإن غلفت ببعض مفرداتها.

          نحن نخاف من المحاولة لأننا تقيدنا بقيود وهمية حاصرتنا وحاصرت مفهوم عمارتنا ببعض مفردات بسيطة أصبحت قدسية ومن الكفر المساس بها أو تطويرها. لنحاول ففي المحاولة يوجد النجاح، لنحاول حتي لا تتحول العمارة من حالة فكرية ثقافية إبداعية إلى مجرد أماكن مجردة  لتأدية وظيفة ما، حالة تفقد فيها العمارة الكثير من ماهيتها وأهميتها ودروها الحقيقي والرسالة التي تحملها. نحن بحاجة الي عمارة تعكس احتياجاتنا وأفكارنا ومعتقداتنا، عمارة نبنيها لتبني فينا قيمنا وهويتنا بل تتجاوز ذلك لتحدد أخلاقنا وسلوكياتنا، عمارة تلائمنا وتنظم وتخطط لنا حياتنا كاملة التي تتطور بتطور العصر.

          هذه دعوة إلى تبني دراسة وتحليل نقدي معماري لعمارة نفتحر بالانتماء إليها. يقودنا إلى تطويرها ولتتبلور في الثقافة والممارسة حركة معمارية معاصرة خاصة بنا وبهويتنا وبيئتنا في ظل غزو فكري و ثقافي معماري. 


الخميس، ديسمبر 28، 2017

الهمجية نقيض الحضارة






جمال اللافي

إمتدادا لمقالتي السابقة التي تناولت فيها مفهومي (الحضارة والمدنية) وإلحاقا لها. سأتطرق في هذه المقالة إلى مفهوم الهمجية كنقيض الحضارة والمتصادم معها والمقوض لأركانها ومعول هدمها. ومثلما تقترن المدنية بالحضارة فهي أيضا رديف الهمجية. وقناعها الذي تتستر خلفه بوجهها القبيح ووسيلتها في فرض قوتها الغاشمة، من خلال تطوير المدنية لتقنياتها العسكرية، وشرعنة المفكرين والمنظرين لها لمنطلقاتها وأهدافها وغاياتها ووسائلها القمعية. ولهذا يحصل الخلط عند عامة الناس وبعض مثقفيهم ومتعلميهم حين يرون مظاهر المدنية والتقدم الصناعي والتكنولوجي مزدهرة في بعض البلدان، مقرونة بالتحلل الخلقي والفساد القيمي فيحسبونه من الحضارة في شيء وما هو كذلك. وإنما تزول الحضارات وتندثر عندما تعم الفاحشة وينتشر الفساد القيمي المدعوم بنظم وقوانين ظاهرها خير وباطنها الشر.

والهمجية كعقيدة وفكر وسلوك وممارسة تعتمد في منهجها على مبدأ إقصاء المغاير ورفض فكرة التعايش السلمي أو المساواة معه في الحقوق والواجبات، إلى درجة التصادم والتعدي عليه وإبادته عرقيا ومسخه ثقافيا ونهب مقدراته الطبيعية وإهدار موارده البشرية في معاناة يومية تتعلق بالبحث عن لقمة العيش الكريم وشغلها بسفاسف الأمور. وبذلك تكون الهمجية عاملا رئيسيا وسببا في انتشار مظاهر الفساد والجريمة والتحلل الخلقي والعدوانية والفوضى في أوساط هذه المجتمعات التي تحتلها. لتصل بها إلى مرحلة التدمير الذاتي لمقوماتها الثقافية ومحيطها البيئي، كتعبير عن شعورها بالغبن والتهميش والإهمال والظلم والإقصاء ومصادرة الحريات الذي تتعرض له من طرف المحتل الهمجي أو من طرف من يوظفه هذا المحتل كواجهة صورية.

وقد ينحدر المجتمع المتمتع باستقلاله الذاتي أيضا إلى مزالق ممارسة السلوك الهمجي، تحت سطوة إعلام مضاد وموجه عبر وسائطه المتعددة من طرف مجتمعات أخرى مغايرة أو جهات تمتلك مقومات التأثير والسيطرة على أدواته التقنية، فيحصل الاستلاب الثقافي من خلال تماهي المجتمع مع ما يصدّره إليه هذا الإعلام من ثقافة متحللة من أي قيمة أخلاقية أو نفعية. يروج لها ويعلي من شأنها في مقابل الاستخفاف بقيم الطرف المقابل الأخلاقية والثقافية وإظهارها بمظهر التخلف والعجز عن مجاراة روح العصر ومعطياته. مما يترتب عنها قيام هذا المجتمع بالانسلاخ الطوعي عن قيمه الدينية والثقافية والاجتماعية وتدميره لشواهدها المادية والفكرية والرضا بشيوع التحلل الأخلاقي بين أبنائه، فيصبح المستهجن عنده مطلوبا والمستقبح جميلا، والشاذ مألوفا.

كل ذلك يتم في غياب النظام الحاكم الذي يفترض به أن يتبنى التوجيه والتوعية والتأصيل لقيم المجتمع الثقافية وصون عقيدته وحمايتها من أي مؤثرات خارجية متصادمة معها، عبر توظيف أهم وسيلتين مؤثرتين بشكل فاعل. أولها، التعليم- وخصوصا الحرفي- وثانيها، الإعلام. من خلال وضع رؤية عامة وسن القوانين التي تنظم عمل المؤسسات التخطيطية والتعليمية والإعلامية والثقافية لتحقيق هذه الغاية.



الأربعاء، ديسمبر 27، 2017

الحضارة والمدنية




جمال اللافي


ترتبط الحضارة ارتباطا وثيقا بقيم ومعتقدات الشعوب وعاداتها وتقاليدها المتوارثة. بينما ترتبط المدنية بالتقدم التقني وتطور الأساليب والمعالجات لكل ما يمس حياة الناس ويتعاطى مع احتياجاتهم المادية ويسهل عليهم سبل العيش ويعينهم على تكاليف الحياة.

لهذا نجد أن البون شاسع بين مفهومي الحضارة والمدنية وتطبيقاتهما وانعكاساتهما على الشعوب، فالحضارة ترتبط بالشق القيمي والثقافي من حياة الشعوب، وهو الشق الذي تتراكم فيه التجارب والخبرات والمفاهيم والمعتقدات والقناعات والرؤى التي تشكل أسلوب حياة وطريقة عيش، تتوارثها الأجيال للحفاظ على كينونتها وتمايزها عن الشعوب الأخرى، وبالتالي تشكل لها ملامح لهوية دامغة في مواجهة هوية الآخر. ليس من باب التضارب ولكن من نافذة التعارف، الذي ينتج عنه التلاقح والتزاوج في غالب الأحيان دون أن يفقد كل طرف هويته المستقلة بذاتها عن باقي الهويات.
أما المدنية فترتبط بالشق المادي وهو بدوره جانب متغير يتطور بتقدم التقنيات وزيادة الاكتشافات العلمية. والشق المادي قابل للتصدير والاستيراد دون أن يترتب عنه إخلال بمنظومة قيم أي مجتمع بقدر ما يدعمها ويفتح لها آفاقا جديدة توسع مداركها وتعينها على الارتقاء بأدوات التعبير عن ذواتها بأساليب ومواد وتقنيات جديدة.

الحضارة بمفهومها الشامل تستوعب كافة مظاهر المدنية وتستند عليها في الارتقاء بقيمها وأدوات ووسائل التعبير عنها، وإن كان للمدنية أوجه متعددة تتفاوت تقنياتها من حيث التطور أو البدائية من مجتمع إلى آخر، إلا أن غياب مظاهر التمدن لا يلغي بالضرورة وجود مظاهر الحضارة في المجتمعات، لأن المفهوم الحضارة ووسائل التعبير عنها متفاوت من شعب إلى آخر مثلها مثل مظاهر التمدن. فوجود الإهرامات مثلا أو غيابها لا يعني وجود حضارة أو غيابها. فالإهرامات مجرد أداة تعبير عن مستوى ثقافي معين ونظرة مختلفة إلى الحياة وعلاقة بين الحاكم والمحكوم، يراها آخرون بمنظار مختلف وأدوات تعبير مختلفة تكون رهينة بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم أيضا. كما أن المدنية لا تعني بالضرورة الحضارة. فقد يكون هناك مجتمع متطور تقنيا ومتقدم صناعيا ولكنه يفتقر لمقومات الحضارة. وهذا يظهر جليا في المجتمعات الهجينة متضاربة الثقافات والقيم التي يغلب عليها الصراعات العرقية والطبقية. أو المجتمعات الفقيرة قيميا والتي تستورد منتجات ثقافات الشعوب الأخرى لتتقمصها في شكل لغات أو عادات وتقاليد وسلوكيات أو في ملبس ومأكل ومشرب أو في منجزات معمارية وفنية وحرفية وأدبية.

الحضارة، تصنعها الشعوب. أما المدنية فتصنعها الدولة ورؤوس الأموال. وهي بدورها التي تصون الحضارة من مزالق الاغتراب عبر توظيف مؤسساتها التعليمية والثقافية والإعلامية ومواردها الاقتصادية لهذه الغاية. وعندما يسيطر الساسة الفاسدون على مقومات المدنية وتوظيفها لخدمة مصالحهم تنحدر الحضارة إلى أسفل السافلين ويحدث الاغتراب الثقافي أو تعم الفوضى ويشيع الجهل بين أفراد المجتمع.

وتحت هذا الإطار يمكننا قياس مستوى التحضر لأي مجتمع بمقدار التزامه بقيمه الأخلاقية ومعتقداته الدينية وثقافته الأصيلة، ممثلة في عاداته وتقاليده المتوارثة، وذلك على المستوى التطبيقي من خلال الشواهد التي تعكس هذا الالتزام، في العمارة والفنون الحرفية، كذلك إبداعهم الأدبي بمختلف مجالاته وطبيعة المواضيع التي يتناولونها وفي السلوك والمظهر العام وفي مجالات العمل والتعاملات. 
أما مستوى التمدن فيأتي من خلال تقدير مدى التقدم التقني الذي وصل إليه المجتمع في الصناعة بمجالاتها المختلفة وأدواتها المتعددة، مقارنة بما وصلت إليه المجتمعات الأخرى في هذه المجالات. والأهم من ذلك فهي تقاس بمدى قدرة المجتمع نفسه على استحداث هذه التقنيات وإنتاجها من خلال حسن استثماره لموارده الطبيعية والعقول البشرية من ابنائه وليس على العقول التي يستوردها. وتوظيف مؤسساته العلمية والتعليمية لتحقيق هذه الغاية.

  

الأحد، ديسمبر 10، 2017

جدلية التأثر والتأثير


 ردا على من ينسبون عمارة الحوش الطرابلسي إلى تأثيرات عثمانية:

1.    من خلال اطلاعي على كتاب(جولة تاريخية في عمارة البيت العربي والبيت التركي) لمؤلفه المهندس المعماري محمود زين العابدين، الذي استعان فيه من خلال تواجده للدراسة بتركيا بعدة أمثلة تاريخية من فترة الحكم العثماني المنتشرة في العديد من المدن التركية ومقارنتها بنماذج مختلفة من البيوت الحلبية بسوريا. حيث يستعرض في هذا الكتاب أنماط البيوت التركية وهي كما تظهر في الصور المرفقة، لا وجود لأنماط غيرها في أي مدينة من مدن تركيا. إلاّ أن بعضها يبنى بأكمله بالخشب والبعض الآخر يبنى نصفه السفلي بالحجر وباقي الأدوار بالخشب والنمط الثالث يبنى بأكمله بالحجر وجميعها تتفق في الطراز المعماري. وفي توزيع فراغي يطل على أروقة، لا توجد فيها لأفنية.

حيث تأكد بما لا يدع مجالا للشك أنه ليست هناك أي ملامح معمارية ولو بصورة غير مباشرة تربط بين الحوش الطرابلسي والبيت التركي، سواء تعلق الأمر بالتوزيع الفراغي أو بمفرداته المعمارية وتفاصيله الفنية والزخرفية أوبعناصر تأثيثه ومفروشاته أو بمواد بنائه وطرق إنشائه.

2.    هذا من جهة ومن جهة أخرى، مما يغيب عن الكثيرين ممن يحاولون نسبة الحوش الطرابلسي لتأثيرات تركية، أن الدولة التركية لم تنشأ إلاّ في فترة متأخرة جدا، حيث كانوا مجرد قبائل رحل يتنقلون من مكان إلى آخر ويسكنون الخيام إلى فترة غير بعيدة- فترة الدولة العباسية- (وقصة استقرار هذه القبائل وبداية نشأة الدولة العثمانية معروفة ويمكن الاطلاع عليها من خلال محرك البحث قوقل).

3.    ومن خلال فهمنا للمرحلة التي استقر فيها الاتراك وانتقلوا من مرحلة البداوة إلى مرحلة الاستقرار وبناء الدولة العثمانية، كانت طرابلس في تلك الفترة والقرون التي سبقتها تعتبر دولة مدنية عريقة في التاريخ الحضاري، حيث تتابعت على حكمها دول كثيرة أسهمت في عمران هذه المدينة وتشكيل صورتها العمرانية والمعمارية، تمازجت فيها العمارة الرومانية والبيزنطية مع العمارة العربية الإسلامية، وأسهمت في صناعة حرف البناء التي أدت إلى إيجاد ملامح متميزة لهذه المدينة عن أخواتها من مدن البحر الأبيض المتوسط، وغيرها من الدول الإسلامية قبل أن يصل إليها الأتراك ويعيدوا إعمارها بالاستعانة بالخبرات المحلية من العمالة الحرفية الفنية ومن منظور معماري محلي صرف، تأكد من خلال اطلاعنا على أنماط البيوت المتعددة التي انتشرت في المدن التركية في الفترة العثمانية أن لا صلة بينهما. 

4.    نقطة أخرى تضاف إلى ما سبق، تشير إلى قيام الدولة العثمانية باستجلاب جميع الخبرات من الحرفيين المنتشرين في الدول التي بسطت عليها الدولة العثمانية نفوذها، حيث تم نقلهم إلى مقر حكم السلطان العثماني باسطنبول، للإستعانة بهم في إعمار عاصمة الدولة العثمانية. وهو ما يعني انتقال الخبرات المحلية بتأثيراتها المتنوعة إلى تلك العاصمة وليس العكس (أي أن تأثير الحرفيين الليبيين على العمارة التركية أكثر تأكيدا من تأثير الولاة الأتراك على العمارة الطرابلسية، وخصوصا عندما نعلم أن جميع المصادر التاريخية لم تشير إلى استعانة الولاة العثمانيين الذين تعاقبوا على مدينة طرابلس بأي خبرات هندسية أو حرفية تركية في إعادة إعمار طرابلس بعد تحريرها من حكم فرسان القديس يوحنا ولا من بعدهم).  

5.    النقطة الأكثر أهمية في الموضوع، أن الحكم العثماني للدول الإسلامية لم يأتِ برؤية تستهدف طمس ثقافة الدول الواقعة تحت نفوذه انطلاقا من وحدة العقيدة التي تربطه بالعالم الإسلامي. وهو ما انعكس على العمارة المحلية لهذه الدول بحيث احتفظت بخصوصيتها المعمارية، حتى من خلال المشاريع العمرانية التي استحدثها الولاة العثمانيون. وهذا ما لم يتأتَّ من طرف المستعمر الفرنسي بصفة خاصة والغربي بصفة عامة الذي يضع ضمن أولوياته طمس عقيدة وهوية الشعوب التي يستعمرها وإحلال ثقافته ولو بقوة السلاح والقتل والترهيب.


تنويه:
يحمل هذا الكتاب تزكية وتقديم للكتاب من أ. د/ أكمل الدين إحسان أوغلي مدير عام مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية ورئيس قسم تاريخ العلوم بجامعة اسطنبول. كذلك اقديم آخر من الأستاذ/ حقي أونال عميد كلية العمارة ورئيس القسم العلمي لإنتاج الأبنية بجامعة يلديز التقنية بكلية العمارة باسطنبول. وتقديمات أخرى من أساتذة آخرين من نفس الجامعة.


كما جاء في هذا الكتاب مقدمة لمؤلفه عن أصول الأتراك وكيف نشأت دولتهم. وهي كما أشرت إليها. أما نقل الحرفيين لعاصمة الدولة العثمانية فهي موثقة بالعديد من المصادر. وهذا الأمر من المآخذ على حكم العثمانيين، دون أن نتغافل عن إسهاماتهم في حماية رقعة الدولة الإسلامية وتوسيع دائرة انتشار الإسلام في ربوع أوروبا.

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية