أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الخميس، ديسمبر 28، 2017

الهمجية نقيض الحضارة






جمال اللافي

إمتدادا لمقالتي السابقة التي تناولت فيها مفهومي (الحضارة والمدنية) وإلحاقا لها. سأتطرق في هذه المقالة إلى مفهوم الهمجية كنقيض الحضارة والمتصادم معها والمقوض لأركانها ومعول هدمها. ومثلما تقترن المدنية بالحضارة فهي أيضا رديف الهمجية. وقناعها الذي تتستر خلفه بوجهها القبيح ووسيلتها في فرض قوتها الغاشمة، من خلال تطوير المدنية لتقنياتها العسكرية، وشرعنة المفكرين والمنظرين لها لمنطلقاتها وأهدافها وغاياتها ووسائلها القمعية. ولهذا يحصل الخلط عند عامة الناس وبعض مثقفيهم ومتعلميهم حين يرون مظاهر المدنية والتقدم الصناعي والتكنولوجي مزدهرة في بعض البلدان، مقرونة بالتحلل الخلقي والفساد القيمي فيحسبونه من الحضارة في شيء وما هو كذلك. وإنما تزول الحضارات وتندثر عندما تعم الفاحشة وينتشر الفساد القيمي المدعوم بنظم وقوانين ظاهرها خير وباطنها الشر.

والهمجية كعقيدة وفكر وسلوك وممارسة تعتمد في منهجها على مبدأ إقصاء المغاير ورفض فكرة التعايش السلمي أو المساواة معه في الحقوق والواجبات، إلى درجة التصادم والتعدي عليه وإبادته عرقيا ومسخه ثقافيا ونهب مقدراته الطبيعية وإهدار موارده البشرية في معاناة يومية تتعلق بالبحث عن لقمة العيش الكريم وشغلها بسفاسف الأمور. وبذلك تكون الهمجية عاملا رئيسيا وسببا في انتشار مظاهر الفساد والجريمة والتحلل الخلقي والعدوانية والفوضى في أوساط هذه المجتمعات التي تحتلها. لتصل بها إلى مرحلة التدمير الذاتي لمقوماتها الثقافية ومحيطها البيئي، كتعبير عن شعورها بالغبن والتهميش والإهمال والظلم والإقصاء ومصادرة الحريات الذي تتعرض له من طرف المحتل الهمجي أو من طرف من يوظفه هذا المحتل كواجهة صورية.

وقد ينحدر المجتمع المتمتع باستقلاله الذاتي أيضا إلى مزالق ممارسة السلوك الهمجي، تحت سطوة إعلام مضاد وموجه عبر وسائطه المتعددة من طرف مجتمعات أخرى مغايرة أو جهات تمتلك مقومات التأثير والسيطرة على أدواته التقنية، فيحصل الاستلاب الثقافي من خلال تماهي المجتمع مع ما يصدّره إليه هذا الإعلام من ثقافة متحللة من أي قيمة أخلاقية أو نفعية. يروج لها ويعلي من شأنها في مقابل الاستخفاف بقيم الطرف المقابل الأخلاقية والثقافية وإظهارها بمظهر التخلف والعجز عن مجاراة روح العصر ومعطياته. مما يترتب عنها قيام هذا المجتمع بالانسلاخ الطوعي عن قيمه الدينية والثقافية والاجتماعية وتدميره لشواهدها المادية والفكرية والرضا بشيوع التحلل الأخلاقي بين أبنائه، فيصبح المستهجن عنده مطلوبا والمستقبح جميلا، والشاذ مألوفا.

كل ذلك يتم في غياب النظام الحاكم الذي يفترض به أن يتبنى التوجيه والتوعية والتأصيل لقيم المجتمع الثقافية وصون عقيدته وحمايتها من أي مؤثرات خارجية متصادمة معها، عبر توظيف أهم وسيلتين مؤثرتين بشكل فاعل. أولها، التعليم- وخصوصا الحرفي- وثانيها، الإعلام. من خلال وضع رؤية عامة وسن القوانين التي تنظم عمل المؤسسات التخطيطية والتعليمية والإعلامية والثقافية لتحقيق هذه الغاية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية