‏إظهار الرسائل ذات التسميات أدبيات. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات أدبيات. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، مارس 05، 2012

جدتي






   انزوت في ركنها القصي وحيدة .. رغم صخب الأحفاد .. وصياح الآباء طلبا للهدوء .. تداعب حبات المسبحة .. تتلو أذكارها التي لا تنتهي .

      فجأة عم الهدوء .. حلت السكينة .. توقف الصخب واللعب واللهو .. حتى صياح الآباء صار وشوشة وهمسا .. الجميع ينشد السكون .. تحلقوا حوله تسابقوا لحجز اقرب الأماكن إليه .. جلسوا كأن على رؤوسهم الطير .. حتى عندما سعلت هناك من تجرأ ونهرها .

    نظرت إليه شزرا .. لم يعجبها .. لم تتقبله .. ذلك البغيض .. منذ أن حل بالبيت منذ سنوات ليست قليلة .. أصبحت شيئا زائدا .. كان الجميع يتحلقون حولي .. ينتظرون حلول المساء .. يتنافسون من يكون الأقرب مكانا مني .. يستمعون بشغف لقصصي وحكاياتي .. ربما سحرهم بصوره .. شخوصه .. صحيح أنه ينقلهم إلى كل مكان .. لكن هذا غير مبرر .

في سرها وجهت له  دعواتها .. سألت الله أن يقيهم شره .. وكذلك خيره ...

     فجأة انقطع التيار الكهربائي .. عمت العتمة .. تأفف الجميع إلا هي .. توالت الشتائم من كل حدب وصوب .. بكل لسان .. من كل الأعمار .

   في ركنها القصي المعتم ابتسمت .. فقد استجاب الله دعائها .. اقترب منها اصغر الأحفاد .. طالبا منها إتحافهم بقصة .. فرحت  .. فقد استرجعت بعض مكانتها ولو لحين .. تنحنحت تسابقوا رغم الظلام إلى أخذ أماكنهم قربها .. عم الصمت أرجاء الغرفة المعتمة :
-         كان يا ما كان .. في قديم الزمان .. فتى يقال له .......

فجأة عادت الكهرباء .. تصايحوا .. صفقوا طربا .. هللوا لعودته .. علت وجوههم ابتسامات .. تسابقوا من جديد لأخذ أماكنهم حول ذلك الغريب المقيت .. تركوها كما مهملا من جديد ..  انزوت من جديد في ركنها القصي وحيدة .. تداعب حبات مسبحتها .. تتلوا أذكارها التي لا تنتهي .. زفرت زفرة .. بثت فيها كل حسرتها وقلة حيلتها إزاء هذا العدو ..

كالت له من جديد نصيبا كبير من مقتها ودعواتها.


أبو إسحاق الغدامسي
رأس لانوف شتاء 2012م

السبت، سبتمبر 13، 2008

تأملات في مرآة غدامس



جمال الهمالي اللافي


روح المدينة في حركة سكانها بعاداتهم وتقاليدهم الأصيلة،
فإذا غابت هذه العادات والتقاليد،أضحت المدينة جسداً بلا روح .


كان لقاءي بصاحبي اليوم يختلف كثيراً عن لقاءاتي السابقة به، فهو على غير عادته يبدو شارد الذهن، مستغرقاً في تفكير عميق وكأنه يغوص في أغوار نفسه باحثاً عن حقيقة أمرٍ بات يحيره.


جلستُ على الأريكة أمامه في صمتٍ أضفي على الحجرة جواً من الخشوع والترقب، وتساءلت في نفسي عن سبب هذا الشرود الظاهر. وعن حقيقة الأمر الذي شغله عن كل ما يحيط به، حتى أنه لم يرد على تحيتي، التي رددت صداها الجدران، ولم يكن لها أي صدىً في نفسه.

رفع رأسه ونظر إلى نظرة اعتذار وقطع الصمت مجيباً على تساؤلاتي وكأنه قرأ أفكاري وعلم بما يجول في خاطري قائلاً :
- عذراً صاحبي على سوء استقبالي لك ، ولكني أجدني اليوم منشغلاً عما حولي بأمرين، اقلب الفكر بينهما علني أصل إلى بواطن العلاقة التي تربطها معا، فترتاح نفسي إلى ذلك .

نظرت إليه باستغراب متسائلاً عنهما!
فقال سأروي لك قصتي معها منذ البداية، فقصتي هذه نسجت أحداثها من التاريخ، وأعطت الدور فيها لمدينة ضربت بجذورها في أعماقه حتى صارت جزءاً لا يتجزأ منه، تحكي كل زاوية وحجر فيها عن حدث من أحداثه، فكان لابد لمن أراد أن يستشف أحداث التاريخ من منبعه، أن يشد الرحال إليها.


وهذا ما فعلته حينما حزمت حقيبتي متوجهاً صوبها يدفعني حنين إلى سبر أغوار التاريخ وجرأة إلى استشفاف غوامض هذه المدينة التي جسدت انتصار الإنسان على قسوة الصحراء، كما جسدت نقاء عمارتها وفنونها المحلية من كل شائبة تشوبها. فهي لم تخضع لتأثيرات الفاتحين أو الغزاة، وظلت شاهداً حياً على إبداع أبنائها الذين جعلوا من جحيم الصحراء جنةً وارفة الظلال، دانية القطوف لتبدو في بحر الرمال الذهبية، المترامي الأطراف وكأنها علم يستدل به الضــال أو العابر طريقه إلى النجاة والأمان.

وفي تلك المدينة رأيتها، كانت تبدو وكأنها خرجت من أعماق التاريخ. كانت امرأة عربية بكل ما تحمله الكلمة من معاني ، رأيت فيها تلك المرأة التي تغزل الشعراء بمحاسنها، وعدد الحكماء مآثرها.
كنت اعتقد أن مثلها صارت مجرد تاريخ غابر يروى، فإذا بها حقيقة ماثلة أمامي، تُرى بأم العين بعد أن حجبتها عن الناظرين ستائر الحضارة الغربية بكل زيفها وهشاشتها.


نظرت إليها فرأيت ليلى العامرية بكل حسنها وظرفها الذي أوحى لقيس بن الملوّح بأروع أشعاره، كما رأيت فيها هند بنت عتبة بحضورها المؤثر واعتدادها بنفسها، ودفاعها عن قناعتها بكل ما فيها من قوة الحضور وسرعة البديهة وحسن البيان، ورأيت فيها الخنساء، وهي تغرس في نفوس أبنائها معاني التضحية والفداء وتدفع بهم إلى معارك الجهاد دون أن تذرف لها دمعة، فهي تعي جيداً أن استشهادهم دفاعاً عن الحرمات هو الخلود بعينه.
وأكثر من ذلك أني رأيت فيها كبرياء هذه المدينة وأصالتها التي لم تستطع دعاوى التحضر والانقياد وراء الثقافات الغربية أن تمحو صورته، لأنها نبتت من طينة هذه الأرض، ومدت جذورها في أعماق تربتها حتى صارت جزءاً منها.


كذلك هي، ولدت على هذه الأرض، وفي هذه المدينة كانت تكبر وتستمد قوتها من ثمراتها، فاكتسبت شموخها من شموخ نخيلها، ولفحتها الصحراء بسمرة تعادل سمرة رمالها، وزينتها بساتين المدينة، فاكتست حسنها من حسن أزهارها… رأيت فيها عظمة هذه المدينة. و جمال مبانيها. توحدتا معاً فصارت هي الروح والمدينة جسدها إلى أيهما نظرت تجسدت الأصالة في أبها معانيها والشموخ في أرقى مراتبه.
كانت امرأة عربية بكل ما فيها من عفة وطهارة وعطاء وسحر … سحر استمد قوته وتأثيره من سحر مدينة غدامس، وامتزجت فيه حرارة عينيها بحرارة صحرائها، فبعثا في جسدي دفئاً غامضاً شعرت خلاله أن التاريخ يقف أمامي وجهاً لوجه، أشم رائحته، واسمع أنفاسه العميقة وكأنه كائن حي متجسد يتسرب إلى روحي وأنفذ إلى أغواره.

وبعد صمتٍ قصير قطعه قائلاً: لم أعرها أي اهتمام في بادئ الأمر فقد كان عقلي وكل جوارحي تغوص في قلب أسرار هذه المدينة. متلهفةً على اكتشاف غوامضها وسبر أغوارها، كنت مشدوداً بما رأيت، وأنا أتجول بين شوارعها المغطاة بالكامل، محولةً المدينة إلى أشبه بوعاء يحفظ الهواء البارد بداخله لتحمـي سكانها من هجير الصحراء اللافح. وبساتينها التي تداخلت مع مبانيها في تناسقٍ عجيب، وقد زرعت فيها أشجار النخيل والعنب والتين … والرمان الذي صنعوا من أزهاره الحمراء ألوانا زينوا بها جدران بيوتهم وحجراتها برسوماتٍ على أشكال المثلثات. ونسجوا حولها الأساطير حتى أمتزج في بيوتهم غموض الشرق العظيم بسحر قارتنا السمراء.


كما اجروا المياه من عيونها لتصل بساتينهم ومساجدهم عبر دروبٍ ضيقة وجعلوا بينهم القادوس ميقاتاً يسقي كل واحدٍ فيه زرعه في نظامٍ وتناسقٍ بديع .. فلم يتركوا بقعة جذبة إلا هزوا تربتها واحيوا مواتها فاستحالت غدامس تحت سواعد أبنائها إلى روضةٍ من رياض الجنة تفيض أزهارا وثماراً وتسيل عيوناً وغدراناً… كنت مشدوداً إلى غدامس بجمالها، الذي حجب عني كل جمال وسحرها الذي أبطل عني مفعول كل سحر.

مرت الأيام سريعةً. وعدت من رحلتي لأكتشف بأني قد نسيت قلبي، حيث تركته معلقاً على مشجب عينيها فلم ادر هل ألوم نفسي على تجاهلي لوجودها وحضورها في هذه المدينة أم التمس لها العذر ؟

أطرق في صمت للحظات ثم نظر إلي قائلاً : استحلفك بالله يا صاحبي أن تصدقني القول ـ فأنت وحدك من رآها وسمع صوتها وهي تناديني عبر دروب المدينة... هل أخطأت حينما فتنت بجمال غدامس عن جمالها وانشغل قلبي عنها ... أم أن سحر عينيها كان أقوى من أن يحتمله قلبي، الذي ما انشغل يوماً بغير سحر المدن القديمة. وهل كنت مخدوعاً بحبي لهذه المدن. أم أنها لم تجد لها منافساً على قلبي قبل هذا اليوم ، فظلت مرتعاً خصباً لروعتها وسحرها، حتى جاءت من نفضت عنه غبار هذه المدن وركامها لتتربع على عرشه دون استئذان.

نعم، دون استئذان، فقد عزمت الرحيل إلى غدامس ليكون لي موعداً مع هذه المدينة لا غير.. فإذا بي أعود والشوق يحملني إلى عينيها وصرت أرى غدامس من خلال هذه الحسناء .. اسمع صوت الطرقات تترنم على إيقاع مشيتها، وأرى رحابة الدار على بسمتها، واطل على بساتين غدامس من نافذة عينيها واشم فيها عبق الحاضر المعطر بعبير تاريخها الأصيل.

أشحت بوجهي عن المرآة بعد هذا الحوار الصامت ـ لقد كان فعلاً شخصاً آخر هذا الذي رأيته يحاورني خلف المرآة- ولم يخطر ببالي يوماً أنه سيكون لي مع نفسي مثل هذا الموقف.

شعرت برجفةٍ غامضة تهز كياني، وتساءلت في حيرةٍ عن كنه هذا الإحساس المبهم الذي ينتابني، هل هو شعور الحب الذي يفعل بصاحبه كل هذا الفعل؟
لم أستطع الإجابة عن كل ما يعتمل في صدري من تساؤلات فقمت إلى باب الدار والحيرة تتملكني… نظرت إلى الساعة فوجدت أن الوقت قد حان للذهاب إلى عملي بالمدينة القديمة. خرجت مسرعاً ولكن إلى أين؟.

قادتني قدمي إليها وأنساني سحر عينيها طريقي إلى المدن القديمة. لأبدأ رحلتي من جديـد. ولكن هذه المرة ليس إلى غدامس. بل إلى حسناء غدامس .. وكان اللقاء على مشارف المدينة. وانطلقنا إليها لنغوص في أعماقها بحثاً عن التاريخ.






الأحد 91.7.28 م- مدينة إطرابلس القديمة

الثلاثاء، يوليو 15، 2008

روح المدينة


جمال الهمالي اللافي


" روح المدينة في ارتباط سكانها بعاداتهم وتقاليدهم الأصيلة، فإذا غابت هذه العادات والتقاليد، أضحت المدينة جسدا بلا روح".




تناهى إلى سمعي وأنا ببيت الشيخ محسن، صوتا بدا وكأنه صدر عن إحدى زواياه المهجورة، لم أستطع أن أحدد ماهيته، ولكنه جعلني أتوقف عن عملي، لأجول ببصري في أرجاء المكان بحثا عن مصدره، وعهدي بخلو المكان يعزز يقيني بتوهمي بوجود أحد سواي في هذا البيت.

كان السكون يخيم على المكان مما جعلني أعاود انشغالي ببحثي وأعزو مصدره إلى وهم ناتج عن إرهاقي في العمل تحت وطأة حر الصيف، أو إلى بعض القطط التي تتخذ من مثل هذه الأماكن المهجورة ملاذا لها ومركزا لتجمعها.

مرت لحظات ليعاود الصوت بعدها طرق أسماعي، وكان هذه المرة أكثر وضوحا فهناك شخص ما يدعوني إليه؟!… سرت في جسدي قشعريرة وانتابت أوصالي رعشة… توقفت عن العمل وبدأت دوامة من الهواجس تلف رأسي، وتذكرت القصص التي يتداولها الناس حول البيوت المهجورة في مدينة إطرابلس القديمة التي تسكنها الجن.

طردت سحابة الهواجس السوداء التي خيمت فوق رأسي… وتوجهت ناحية السلالم المستحدث التي تتوسط الفناء، وبدأت أصعد الدرجات ملبيا دعوة فضول الاستكشاف الذي قادني إلى هذا البيت، ودفعني إلى سبر أغوار المجهول في تاريخه. وأحسست بأن ثمة شيء يشدني إلى استشفاف مكنون هذه الدعوة الغامضة. كان مصدرها يأتيني من " دار القبول" التي وصلت إليها لأجد بابها مغلقا… دفعته بيدي فأصدر صريرا حادا، وانبعثت من الداخل رائحة البخور، مما جعل إحساس التردد الذي ينتابني يتضاعف ليصبح حالة من التوتر تشل أوصالي وتربك كياني، وتضطرب لها أفكاري وتضاعف من مخاوفي… فلم يكن من السهل علي قبول فكرة مواجهة الجن في عقر دارها.

أنزاح عن الحجرة بعض دخانها فتكشّفت- وكان عهدي بها خاوية- عن السدة التي اقتلعت منذ زمن بعيد وقد عادت إلى مكانها، وتحتها صندوق الملابس الخشبي"السحرية" وهذه الدكة الطويلة تتصدر الغرفة وخلفها علّقت الحيطية الحريرية المطرزة بخيوط الفضة وفوقها علّقت صور صاحب البيت وعائلته.

التفتت في أجواء المكان وعقلي ينكر ما تراه عيناي، لتستقرا على طيف يجلس متصدرا السدة… صعقت لوقع المفاجأة، فتراجعت إلى الوراء بخطوات سريعة وأنا أحبس صرخة تريد أن تنطلق من مكمنها ارتعشت لها فرائصي وألجمتني بحالة من الذهول للحظات، تمالكت بعدها نفسي... وتفرست في وجهه محاولا اختراق حجوبات العتمة التي تغلف المكان علني أميز ملامحه أو أتعرف إليه… فبدا لي من خلال ضوء خافت يتسلل عبر نافذة صغيرة تحتضنها إحدى زوايا الغرفة، وجها ملائكيا لفتاة تكلله ابتسامة عذبة، وقد بدت في زينتها وكأنها عروس في ليلة زفافها، "بردائها المخملي، وحرائر قميصها وسروالها والدبوس الفضي المعلق في ضفائر شعرها الأسود، وصدرتها الموشاة وحذائها الذهبي وحلقها المشبك من ستة ثقوب في كل أذن، وعقودها المصنوعة من الليرات الذهبية وسلاسلها المنسوجة على هيئة أزهار حول خديها القرمزيين" .

نظرت إلى هذا الكائن الماثل أمامي، وقد تمازج على صفحة وجهي الخوف مع اندهاشي، فلم تتمالك هي نفسها من موقفي هذا، وأطلَقَت ضحكة مرحة، انسابت على نفسي المضطربة كالماء البارد، لتهدئ من روعها وتجعلني أستمد منها بعض الجرأة لأسألها وأنا أصارع ارتباكي، عن ذاتها من تكون؟! لمعت عيناها السوداوان ببريق أخّاذ، وظل ابتسامة رقيقة يترنم على شفتيها، وقالت في نبرة هادئة أضفت على ملامحها سحر غامض:
- أنا من جئتَ تنبش جدران هذا البيت، وتحفر أرضيته بحثا عنها.
قاطعتها مستدركا:
- بل الرغبة في إدراك المعاني التي تختفي وراءها رموز هذا التداخل بين الثابت والمتغير في تشكيل بيوت المدينة، هي التي قادتني إلى هذا البيت.

أطرقَت في صمت للحظات وقد بدت علامات انفعال هادي تظهر على ملامح وجهها، ثم استطردت قائلة:
- آلا تذكر رحلاتك إلى مدينة درنة القديمة في أقصى شرق البلاد، والى مدينة سوكنه قلب الصحراء. ورحلاتك إلى مدن الجبل الغربي"جادو ويفرن وكاباو"، إنك لم تترك مدينة بساحل أو جبل أو صحراء إلا وشددت رحالك إليها بحثا عني. وآخرها كانت رحلتك إلى مدينة غدامس، وهناك التقينا، ولكنك تجاهلتني، حين انزويت بمشاعرك في ظلمة مبانيها الصماء، وجعلت جوارحك لا تنفعل مع سواها، رغم أني كنت أتبعك كظلك أينما حللت… كنت معك كلما عبرت شارعا إلى آخر، أو دخلت بيتا أو عرجت إلى مسجد… فلم تسمع نبض قلبي وهو يهتف لك. أنا هنا، أنا من جئت باحثا عنها، لا هذه الكتل الصماء… لا هذه الكتل الخرساء… لا هذه الكتل التي لا نبض فيها ولا حياة. فهل عرفتني الآن؟

انتابني شعور خفي أحسست خلاله بأني قد رأيت هذا الطيف الساحر، ولكني لم أستطع أن أحدد كنهه أو ماهية المكان أو الزمان الذي رأيته فيه… وبدأت خطوط اليأس ترتسم بشحوبها على تعابير وجهي.

وكأنها قرأت أفكاري وعلمت بما يجول في خاطري، تابعت متسائلة تريد تبديد حيرتي :
- وهل وصلت إلى ما تصبو إليه؟

بنبرات خالطتها مرارة الخيبة
أجبتها:
- ليس بعد… فكلما اعتقدت أنها بدأت تتضح أمامي، غشيني ضباب التاريخ فحجبها عني. حتى أعجزني البحث عن الوصول إلى شيء يشبع دوافعي… فعمر هذه المدينة تجاوز الألف الثالثة من السنين، وكل حضارة مرت بها تركت لها بصمة، وكل عهد أستوطنها جعل له رسمة. فصارت وكأنها بيوت نحتت في مدينة محفوفة بالألغاز.

نهضت واقفة تريد النزول من فوق السدة وهي تضع قدمها على الصندوق النحاسي الموشح برقائق النحاس، فبدأ عرقوب قدمها أشبه بقطعة من الرخام الأبيض، وقد أحاطته بخلخال ذهبي مرصع بالياقوت الأحمر… اقتربت مني وتدانت حتى لفحني منها عطر قوي هو مزيج من رائحة العنبر المحروق والقرنفل والمسك وجوز الطيب. وأشارت بيدها المخضبة بالحناء تدعوني للخروج إلى الرواق، لأفاجأ بأن الحياة قد دبت في جميع أركان البيت.

فهاهي شجرة تين وارفة تنشر ظلها في أرجاء الفناء حيث كانت تجلس عائلة كبيرة… تجولت ببصري في أرجاء المكان وأنا مشدود إلى ما حولي… أتطلع تارة إلى أروقته المزدانة بالأعمدة والتيجان الحفصية والقره مانللية التي ترتفع على أكتافها العقود الدائرية، وبلاطات القيشاني تغطي جدرانه التي تحمل فوقها أسقف خشبية تزينها الرسومات النباتية ذات الألوان الزاهية… وأراقب تارة أخرى هذا التناغم البديع بين الأجيال المتعاقبة… فهذا الشيخ الهرم منشغل في حجرته بتلاوة القرآن وكأني به قد اطمأن إلى أحوال أهل بيته في اجتماعهم حول امرأة مسنة تطهو على موقد الكانون الشاي الأخضر الذي فاحت رائحته حتى اختلطت برائحة شجرة الياسمين التي تقبع في إحدى زواياه… تحيط بها نسوة تداعب إحداهن طفلها الرضيع والأخرى كانت صبية تنسج أثواب عرسها، والأخريات منشغلات بأمور البيت… بينما أخذ بعض الرجال مجلسهم في إحدى غرفه يتجاذبون أطراف الحديث… والأطفال من حولهم قد جعلوا من زواياه مسرحا لألعابهم الطفولية. فاكتسى هذا البيت من اجتماعهم فيه ألفته الحميمة وجوهر كينونته.

مرت لحظات وأنا لا أدري بنفسي الهائمة في ترنيمة هذا السحر، هل طالت بي مدتها أم قصرت حينما انتشلني صوتها من انشغالي وهي تسألني:
- هل نخرج إلى الشارع؟
لم أجبها فقد لفت نظري اختفاء السلالم التي كانت تتوسط الفناء... اعترتني حيرة! ولاحظت هي ذلك فأشارت إلى زاوية الرواق وقالت: من هنا.

احتوتنا أزقة المدينة تحت ظلال عرائشها وصاباطها… فتحرك شغفي وفضولي لاستشفاف ما وراء جدران بيوتها المتلاحمة من قصص، وما تفضي إليه شوارعها من أسرار… شوارع تستنفر كل الحواس و تستميلك في وداعة بجمالها وبساطتها. لننساب بين حناياها الملتوية النحيلة… نتأمل بيوتها بلونها الترابي الدافئ. وهي تنعم بسرمدية السكينة وستائر الحرمة تنسدل عليها… ومن نوافذ مطابخها الصغيرة المتناثرة في عفوية على واجهاتها تنبعث رائحة الطعام المطهو على أفران الطين. لتختلط برائحة أفران الخبز المنتشرة في أرجاء المدينة… التي اعتادت أن تغسل عنها إغفاءة كل ليلة على ترنيمة آذان الفجر وأصوات الباعة وهم ينادون على بضاعتهم، مشكلين بذلك موشحا تختلف ألحانه من بائع لآخر، يزيده عمقا هدير أمواج البحر الذي يحيط بالمدينة من جانبيها الشمالي والغربي.

فوق رابية تشرف على البحر حيث يربض مقهى صغير يضج بأحاديث الصيادين حول قصص البحر وما يلاقونه فيه من أهوال، وهم يضيفون إلى أساطيره القديمة، أسطورة جديدة يعيدون نسج أحداثها مثلما ينسجون شباكهم المعطوبة… رنت وهي في وضع التأمل وكأنها تبحر ببصرها عبر هذه القرون التي خلفتها المدينة ورائها. ثم قالت تحدثني بنبرة دافئة عميقة:
- أنظر إلى هذا التواصل بين البحر والسماء في ذاك الأفق البعيد… والى تزاوج الأسطورة بالواقع في حكايات الصيادين… بمثل ذلك تتواصل الأمم، وتتزاوج الحضارات، دون أن يفقدها ذلك شخصيتها المتفردة أو أصالتها المتجددة... فالذات المتقوقعة على نفسها، تنفصم عروتها لحظة اصطدامها بالآخر… بينما تستثمر الذات المنفتحة ميراث الحضارات الوافدة، وتوظفه بما يخدم مجتمعاتها ويسمو بقيمها ومعتقداتها.

انبثقت هذه الحقيقة من فجاج دامس لتوقظ عقلي الكابي من غفوته… فأيقنت أن الخالد في الحضارات، هي القيم الأصيلة التي يتوارثها البشر…وهي الروح التي تستمد منها هذه المدينة، وكل مدينة حية تواصلها مع التاريخ.

انتبه شعوري فجأة لغيابها، في زحمة انشغالي بما توارد في ذهني من أفكار. بحثت عنها في كل أرجاء المكان، فلم أجدها… صرخت مناديا عليها، فرددت كل أطراف المدينة صدى أسمها، ولكنها لم ترد.

أسرعت إلى حوش الشيخ محسن… وصعدت درجات السلالم إلى الدور العلوي حيث رأيتها أول مرة بدار القبول… فتحت بابها لأجد أن الحجرة قد عادت إلى سابق عهدها خاوية مهجورة، تنبعث منها رائحة الرطوبة، ويلفها برد قارص… وعلى أرضيتها وقعت عيناي على لفافة الخرائط، التي سقطت مني. عندما التقيت بها أول مرة… تصفحتها الواحدة تلو الأخرى، ومع كل خريطة كانت ملامح الحوش الطرابلسي بمحتواه الإنساني تتضح أمامي:
" بيت فناءه مفتوح على السماء، تحيط به حجرات متباينة في الحجم، يسكن كل واحدة منها عم… وتكلل جدرانه ونوافذه أغصان الياسمين… حوائطه من طين هذه الأرض وسقفه من نخيلها، وجذوره تضرب في عمق التاريخ… بيت يحمي كل ملتجئ إليه من حر الصيف وبرد الشتاء… زواياه مخبوءة يحيط بها غموض محبب، يبعث على التساؤل و التأمل في ملكوت الله. ويثير في النفس فضول البحث والاستكشاف، وقراءة التاريخ… بيت يجمع الأحباء ولا يفرق".

وعلى "قطاع"، لم تتضح تفاصيله، أشرق وجهها بابتسامته الساحرة… فناديتها بإلحاح أن تعود. ولكنها خاطبتني قائلة:
- وداعا أيها الباحث بين حطام التاريخ، عن مدينة استأصلت روحها… وبيوت هجرت ألفتها... ثم غابت عن ناظري وسط زحام المدينة الحديثة.


1991.11.5 ف- إطرابلس القديمة.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...