التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تأملات في مرآة غدامس



جمال الهمالي اللافي


روح المدينة في حركة سكانها بعاداتهم وتقاليدهم الأصيلة،
فإذا غابت هذه العادات والتقاليد،أضحت المدينة جسداً بلا روح .


كان لقاءي بصاحبي اليوم يختلف كثيراً عن لقاءاتي السابقة به، فهو على غير عادته يبدو شارد الذهن، مستغرقاً في تفكير عميق وكأنه يغوص في أغوار نفسه باحثاً عن حقيقة أمرٍ بات يحيره.


جلستُ على الأريكة أمامه في صمتٍ أضفي على الحجرة جواً من الخشوع والترقب، وتساءلت في نفسي عن سبب هذا الشرود الظاهر. وعن حقيقة الأمر الذي شغله عن كل ما يحيط به، حتى أنه لم يرد على تحيتي، التي رددت صداها الجدران، ولم يكن لها أي صدىً في نفسه.

رفع رأسه ونظر إلى نظرة اعتذار وقطع الصمت مجيباً على تساؤلاتي وكأنه قرأ أفكاري وعلم بما يجول في خاطري قائلاً :
- عذراً صاحبي على سوء استقبالي لك ، ولكني أجدني اليوم منشغلاً عما حولي بأمرين، اقلب الفكر بينهما علني أصل إلى بواطن العلاقة التي تربطها معا، فترتاح نفسي إلى ذلك .

نظرت إليه باستغراب متسائلاً عنهما!
فقال سأروي لك قصتي معها منذ البداية، فقصتي هذه نسجت أحداثها من التاريخ، وأعطت الدور فيها لمدينة ضربت بجذورها في أعماقه حتى صارت جزءاً لا يتجزأ منه، تحكي كل زاوية وحجر فيها عن حدث من أحداثه، فكان لابد لمن أراد أن يستشف أحداث التاريخ من منبعه، أن يشد الرحال إليها.


وهذا ما فعلته حينما حزمت حقيبتي متوجهاً صوبها يدفعني حنين إلى سبر أغوار التاريخ وجرأة إلى استشفاف غوامض هذه المدينة التي جسدت انتصار الإنسان على قسوة الصحراء، كما جسدت نقاء عمارتها وفنونها المحلية من كل شائبة تشوبها. فهي لم تخضع لتأثيرات الفاتحين أو الغزاة، وظلت شاهداً حياً على إبداع أبنائها الذين جعلوا من جحيم الصحراء جنةً وارفة الظلال، دانية القطوف لتبدو في بحر الرمال الذهبية، المترامي الأطراف وكأنها علم يستدل به الضــال أو العابر طريقه إلى النجاة والأمان.

وفي تلك المدينة رأيتها، كانت تبدو وكأنها خرجت من أعماق التاريخ. كانت امرأة عربية بكل ما تحمله الكلمة من معاني ، رأيت فيها تلك المرأة التي تغزل الشعراء بمحاسنها، وعدد الحكماء مآثرها.
كنت اعتقد أن مثلها صارت مجرد تاريخ غابر يروى، فإذا بها حقيقة ماثلة أمامي، تُرى بأم العين بعد أن حجبتها عن الناظرين ستائر الحضارة الغربية بكل زيفها وهشاشتها.


نظرت إليها فرأيت ليلى العامرية بكل حسنها وظرفها الذي أوحى لقيس بن الملوّح بأروع أشعاره، كما رأيت فيها هند بنت عتبة بحضورها المؤثر واعتدادها بنفسها، ودفاعها عن قناعتها بكل ما فيها من قوة الحضور وسرعة البديهة وحسن البيان، ورأيت فيها الخنساء، وهي تغرس في نفوس أبنائها معاني التضحية والفداء وتدفع بهم إلى معارك الجهاد دون أن تذرف لها دمعة، فهي تعي جيداً أن استشهادهم دفاعاً عن الحرمات هو الخلود بعينه.
وأكثر من ذلك أني رأيت فيها كبرياء هذه المدينة وأصالتها التي لم تستطع دعاوى التحضر والانقياد وراء الثقافات الغربية أن تمحو صورته، لأنها نبتت من طينة هذه الأرض، ومدت جذورها في أعماق تربتها حتى صارت جزءاً منها.


كذلك هي، ولدت على هذه الأرض، وفي هذه المدينة كانت تكبر وتستمد قوتها من ثمراتها، فاكتسبت شموخها من شموخ نخيلها، ولفحتها الصحراء بسمرة تعادل سمرة رمالها، وزينتها بساتين المدينة، فاكتست حسنها من حسن أزهارها… رأيت فيها عظمة هذه المدينة. و جمال مبانيها. توحدتا معاً فصارت هي الروح والمدينة جسدها إلى أيهما نظرت تجسدت الأصالة في أبها معانيها والشموخ في أرقى مراتبه.
كانت امرأة عربية بكل ما فيها من عفة وطهارة وعطاء وسحر … سحر استمد قوته وتأثيره من سحر مدينة غدامس، وامتزجت فيه حرارة عينيها بحرارة صحرائها، فبعثا في جسدي دفئاً غامضاً شعرت خلاله أن التاريخ يقف أمامي وجهاً لوجه، أشم رائحته، واسمع أنفاسه العميقة وكأنه كائن حي متجسد يتسرب إلى روحي وأنفذ إلى أغواره.

وبعد صمتٍ قصير قطعه قائلاً: لم أعرها أي اهتمام في بادئ الأمر فقد كان عقلي وكل جوارحي تغوص في قلب أسرار هذه المدينة. متلهفةً على اكتشاف غوامضها وسبر أغوارها، كنت مشدوداً بما رأيت، وأنا أتجول بين شوارعها المغطاة بالكامل، محولةً المدينة إلى أشبه بوعاء يحفظ الهواء البارد بداخله لتحمـي سكانها من هجير الصحراء اللافح. وبساتينها التي تداخلت مع مبانيها في تناسقٍ عجيب، وقد زرعت فيها أشجار النخيل والعنب والتين … والرمان الذي صنعوا من أزهاره الحمراء ألوانا زينوا بها جدران بيوتهم وحجراتها برسوماتٍ على أشكال المثلثات. ونسجوا حولها الأساطير حتى أمتزج في بيوتهم غموض الشرق العظيم بسحر قارتنا السمراء.


كما اجروا المياه من عيونها لتصل بساتينهم ومساجدهم عبر دروبٍ ضيقة وجعلوا بينهم القادوس ميقاتاً يسقي كل واحدٍ فيه زرعه في نظامٍ وتناسقٍ بديع .. فلم يتركوا بقعة جذبة إلا هزوا تربتها واحيوا مواتها فاستحالت غدامس تحت سواعد أبنائها إلى روضةٍ من رياض الجنة تفيض أزهارا وثماراً وتسيل عيوناً وغدراناً… كنت مشدوداً إلى غدامس بجمالها، الذي حجب عني كل جمال وسحرها الذي أبطل عني مفعول كل سحر.

مرت الأيام سريعةً. وعدت من رحلتي لأكتشف بأني قد نسيت قلبي، حيث تركته معلقاً على مشجب عينيها فلم ادر هل ألوم نفسي على تجاهلي لوجودها وحضورها في هذه المدينة أم التمس لها العذر ؟

أطرق في صمت للحظات ثم نظر إلي قائلاً : استحلفك بالله يا صاحبي أن تصدقني القول ـ فأنت وحدك من رآها وسمع صوتها وهي تناديني عبر دروب المدينة... هل أخطأت حينما فتنت بجمال غدامس عن جمالها وانشغل قلبي عنها ... أم أن سحر عينيها كان أقوى من أن يحتمله قلبي، الذي ما انشغل يوماً بغير سحر المدن القديمة. وهل كنت مخدوعاً بحبي لهذه المدن. أم أنها لم تجد لها منافساً على قلبي قبل هذا اليوم ، فظلت مرتعاً خصباً لروعتها وسحرها، حتى جاءت من نفضت عنه غبار هذه المدن وركامها لتتربع على عرشه دون استئذان.

نعم، دون استئذان، فقد عزمت الرحيل إلى غدامس ليكون لي موعداً مع هذه المدينة لا غير.. فإذا بي أعود والشوق يحملني إلى عينيها وصرت أرى غدامس من خلال هذه الحسناء .. اسمع صوت الطرقات تترنم على إيقاع مشيتها، وأرى رحابة الدار على بسمتها، واطل على بساتين غدامس من نافذة عينيها واشم فيها عبق الحاضر المعطر بعبير تاريخها الأصيل.

أشحت بوجهي عن المرآة بعد هذا الحوار الصامت ـ لقد كان فعلاً شخصاً آخر هذا الذي رأيته يحاورني خلف المرآة- ولم يخطر ببالي يوماً أنه سيكون لي مع نفسي مثل هذا الموقف.

شعرت برجفةٍ غامضة تهز كياني، وتساءلت في حيرةٍ عن كنه هذا الإحساس المبهم الذي ينتابني، هل هو شعور الحب الذي يفعل بصاحبه كل هذا الفعل؟
لم أستطع الإجابة عن كل ما يعتمل في صدري من تساؤلات فقمت إلى باب الدار والحيرة تتملكني… نظرت إلى الساعة فوجدت أن الوقت قد حان للذهاب إلى عملي بالمدينة القديمة. خرجت مسرعاً ولكن إلى أين؟.

قادتني قدمي إليها وأنساني سحر عينيها طريقي إلى المدن القديمة. لأبدأ رحلتي من جديـد. ولكن هذه المرة ليس إلى غدامس. بل إلى حسناء غدامس .. وكان اللقاء على مشارف المدينة. وانطلقنا إليها لنغوص في أعماقها بحثاً عن التاريخ.






الأحد 91.7.28 م- مدينة إطرابلس القديمة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التهوية الطبيعية في المباني

م/ آمنه العجيلى تنتوش المقدمة تتوقف الراحة الفسيولوجية للإنسان على الثأتير الشامل لعدة عوامل ومنها العوامل المناخية مثل درجة الحرارة والرطوبة وحركة الهواء والإشعاع الشمسي . وللتهوية داخل المبنى أهمية كبيرة وتعتبر إحدى العناصر الرئيسية في المناخ ونق الانطلاق في تصميم المباني وارتباطها المباشر معها فالتهوية والتبريد الطبيعيين مهمان ودورهما كبير في تخفيف وطأة الحر ودرجات الحرارة الشديدة ، بل هما المخرج الرئيسي لأزمة الاستهلاك في الطاقة إلى حد كبير لأن أزمة الاستهلاك في الطاقة مردها التكييف الميكانيكي والاعتماد عليه كبير والذي نريده فراغات تتفاعل مع هذه المتغيرات المناخية أي نريد أن نلمس نسمة هواء الصيف العليلة تنساب في دورنا ومبانينا ونريد الاستفادة من الهواء وتحريكه داخل بيئتنا المشيدة لإزاحة التراكم الحراري وتعويضه بزخات من التيارات الهوائية المتحركة المنعشة . فكل شي طبيعي عادة جميل وتتقبله النفس وترتاح له فضلا عن مزاياه الوظيفية . وعلى المعماري كمبدأ منطقي عام البدء بتوفير الراحة طبيعياً ومعمارياً كلما أمكن ذلك ومن تم استكملها بالوسائل الصناعية لتحقيق أكبر قدر ممكن ...

بيوت الحضر: رؤ ية معاصرة للمسكن الطرابلسي التقليدي

تصميم وعرض/ جمال الهمالي اللافي في هذا العرض نقدم محاولة لا زالت قيد الدراسة، لثلاثة نماذج سكنية تستلهم من البيت الطرابلسي التقليدي قيمه الفكرية والاجتماعية والمعمارية والجمالية، والتي اعتمدت على مراعاة عدة اعتبارات اهتم بها البيت التقليدي وتميزت بها مدينة طرابلس القديمة شأنها في ذلك شأن كل المدن العربية والإسلامية التقليدية وهي: · الاعتبار المناخي. · الاعتبار الاجتماعي ( الخصوصية السمعية والبصرية/ الفصل بين الرجال والنساء). · اعتبارات الهوية الإسلامية والثقافة المحلية. أولا/ الاعتبار المناخي: تم مراعاة هذا الاعتبار من خلال إعادة صياغة لعلاقة الكتلة بمساحة الأرض المخصصة للبناء، بحيث تمتد هذه الكتلة على كامل المساحة بما فيها الشارع، والاعتماد على فكرة اتجاه المبنى إلى الداخل، وانفتاحه على الأفنية الداخلية، دون اعتبار لفكرة الردود التي تفرضها قوانين المباني المعتمدة كشرط من شروط البناء( التي تتنافى شروطها مع عوامل المناخ السائد في منطقتنا ). وتعتبر فكرة الكتل المتلاصقة معالجة مناخية تقليدية، أصبح الساكن أحوج إليها من ذي قبل بعد الاستغناء عن البنا...

المعلم/ علي سعيد قانة

موسوعة الفن التشكيلي في ليبيا 1936- 2006 جمال الهمالي اللافي الفنان التشكيلي" علي سعيد قانة " هو أبرز الفنانين التشكيليين الذين عرفتهم الساحة التشكيلية في ليبيا... انخرط في هذا المجال منذ نحو أربعة عقود. ولد بمدينة طرابلس الموافق 6/6/1936 ف ترعرع في منطقة سيدي سالم (باب البحر) بمدينة طرابلس القديمة.والتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما- إيطاليا سنة 1957 وتخصص في مجال النحت بمدرسة سان جاكومو للفنون الزخرفية، كما حرص خلال وجوده في روما على دعم قدراته الفنية من خلال دورات تخصصية في مجال الرسم الحر والطباعة والسباكة وبرز في هذه المجالات جميعا.• التحق عند عودته إلى ارض الوطن بمعهد للمعلمين ( ابن منظور ) للتدريس سنة 1964ف• انتقل للتدريس بكلية التربية جامعة الفاتح سنة1973 ف• انضم إلى كلية الهندسة/ جامعة الفاتح بقسم العمارة والتخطيط العمراني سنة 1974- وتولى تدريس أسس التصميم و الرسم الحر لغاية تقاعده سنة 2001 ف• عمل مستشارا للشئون الفنية بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة. مساهماته الفنية/ اقتنى متحف مدينة باري للفنون بإيطاليا لوحتين من أعماله الفني...