جدار بلا يد، وضوء بلا عين
في
ليبيا، كما في كثير من السياقات التي أنهكتها العزلة المهنية والتشظي الثقافي،
باتت العمارة تُمارس كفن منفصل، لا يلتفت إلى أبنائه الطبيعيين: الفنون، التصميم،
الحرف. وكأنها فقدت قدرتها على احتضانهم، أو كأنهم لم يعودوا يرون فيها أمًّا، بل
سلطة تُقصيهم أو تتعالى عليهم.
لكن
العمارة، حين تكون صادقة، لا تُبنى بالحجر فقط، بل بالمعنى. لا تُصمَّم في فراغ،
بل تتخلق من تفاعل جماعي بين من يرسم، ومن ينحت، ومن يلون، ومن يروي. وحين يغيب
هذا التلاقي، لا تغيب فقط الجماليات، بل تغيب الروح.
في هذا
الحوار، يتواجه المفكر والحكيم، لا ليحسما الجدل، بل ليطرحا أسئلته من قلب الواقع
الليبي، حيث العمارة تتعثر، والفنون تُهمّش، والحرف تُنسى، والشراكة تتحول إلى
صراع صامت.
المفكر:
لماذا تبدو العمارة في بلادنا يتيمة؟ لا تصحب
معها أبناءها، لا تستدعي الفنون، ولا تستأنس بالحرف، ولا تفتح بابها إلا لمن
يشبهها في العزلة.
الحكيم:
لأنها نُزعت من سياقها. العمارة حين تُفصل عن
الحرفة، تفقد يدها. وحين تُقصي الفن، تفقد بصرها. وحين تحتكرها فئة دون غيرها،
تفقد صوتها.
المفكر:
حتى من يمتهنون هذه المهن، لا يتواصلون. كلٌّ في
جزيرته. المعماري لا يرى في الفنان إلا مزيّناً، والفنان لا يرى في الحرفي إلا
منفّذاً، والحرفي لا يرى في المعماري إلا متعالياً.
الحكيم:
لأننا لم نعد نؤمن بالعمل الجماعي. نُفضّل أن
نُنجز وحدنا، حتى لو كان الناتج ناقصًا. نخشَى أن يسرق الآخر الضوء، فنُطفئ
المصابيح جميعًا.
المفكر:
لكن النتيجة واضحة: مدن بلا ملامح، بيوت بلا دفء،
فراغات بلا معنى. العمارة صارت صدىً باهتًا، لا صدى لذاكرة، بل صدى لكتالوج مستورد.
الحكيم:
حين يغيب التلاقي، يغيب الانتماء. لا يمكن أن
نبني عمارة تنتمي لبيئتنا، ونحن نرفض أن ننتمي لبعضنا.
المفكر:
أليس من حق من يملك تجربة أن يُصغي له الآخرون؟
أليس من واجب من يملك سلطة القرار أن يفتح الباب لا أن يُغلقه؟
الحكيم:
في بيئة مريضة، يُنظر إلى التجربة كتهديد، لا
كإضافة. يُقصى من يملك الرؤية، ويُحتفى بمن لا يُقلق أحدًا.
المفكر:
لكن العمارة لا تُبنى بالصمت. تحتاج إلى حوار،
إلى اختلاف، إلى احتكاك. تحتاج إلى من يخطط، ومن ينحت، ومن يلون، ومن يروي.
الحكيم:
وتحتاج إلى من يتواضع. من يعرف أن الجدار لا
يكتمل دون يد الحرفي، وأن الضوء لا يُفهم دون عين الفنان، وأن المعنى لا يُولد إلا
من تلاقيهم جميعًا.
المفكر:
ربما آن الأوان أن نعيد للعمارة أبناءها. لا
كضيوف، بل كشركاء. لا كزينة، بل كأصل.
الحكيم:
حين نكفّ عن الخوف من الضوء، ونبدأ في بناء
الجسور بدل الجدران، ستعود العمارة إلى أبنائها. لا كمنّة، بل كحق. وعندها فقط،
يمكن أن نبدأ في بناء ما يستحق أن يبقى.
المفكر:
وإن أردنا لهذا التلاقي أن يتحقق، فلا يكفي أن نكتب عنه. لا بد
من فعلٍ يُجسّده، من فضاءٍ يُحتضنه، من مشروعٍ يُعيد للعمارة أبناءها في صورة
ملموسة.
الحكيم:
ربما يكون معرضًا. لا استعراضًا، بل لقاءً. يُصمَّم ويُنفَّذ
جماعيًا، لا ليُبهر، بل ليُعبّر. يجمع من يرسم ومن ينحت ومن يروي، في جناح معماري
مؤقت، يُبنى لا بالحجر فقط، بل بالثقة.
المفكر:
معرضٌ لا يُعلّق فيه الفن على الجدران، بل يُدمج في الجدار
ذاته. لا تُعرض فيه الحرفة كتراث، بل تُمارَس كحياة. لا يُقصى فيه أحد، بل يُدعى
الجميع للمساهمة.
الحكيم:
وحين يُبنى هذا الجناح، لا يكون مجرد هيكل، بل بيانًا جماعيًا
يقول:
هنا، حين تلتقي العمارة بأبنائها، يولد المعنى من جديد.
