أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

‏إظهار الرسائل ذات التسميات حوارات في المعمار. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات حوارات في المعمار. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، نوفمبر 19، 2025

رحلة عبر التاريخ: فهم تشابه العمارة التقليدية

تأملات في جدل الهوية المعمارية بين التشابه والتمايز

صحن زاوية عمورة بحنزور

جمال الهمالي اللافي

حوار المفكر والحكيم

المفكر:  

كثيرًا ما تتردد في مجالس الناس روايات متناقضة حول أصول العمارة المحلية؛ بين من ينسبها إلى تأثيرات خارجية، ومن يراها امتدادًا لعمائر أخرى. بعضهم يزعم أن البيت الدمشقي هو أصل عمارة الأندلس والمغرب العربي، وكأن التاريخ يبدأ من دمشق وينتهي هناك. لكن حين نتأمل بوعي، نجد أن الإيوان الدمشقي مستلهم من العمارة الفارسية، وأن الفناء الداخلي يعود بجذوره إلى العمارة الرومانية.

هذا الجدل الشعبي، وإن بدا بسيطًا، يكشف عن حاجة إلى تفكيك علمي وتأملي يوضح أن العمارة ليست مجرد نقل أو نسخ، بل هي استجابة خلاقة لظروف اجتماعية ومناخية واقتصادية متشابهة. العمارة إذن هي تفاعل مع مؤثرات متعددة عبر الزمن، وليست سلسلة من النقل الأعمى.

الحكيم:  

ما تقوله يفتح باب الفهم الحقيقي: التشابه بين العمائر ليس بالضرورة نتيجة نسخ أو اقتباس مباشر، بل هو انعكاس لتشابه الظروف. كما في امتحانات التصميم المعماري، حين يُعطى الطلبة قطعة أرض ومحددات اجتماعية ومناخية واقتصادية، فإن الحلول التي يقدمونها تتقارب رغم اختلاف الأزمنة والأمكنة، لأنهم يواجهون نفس المعطيات. العمارة التقليدية وُلدت من هذا المنطق، من مواجهة الظروف بوعي وإبداع.

المفكر:  

وهذا ما يفسر ثراء العمارة المحلية في العالم العربي والإسلامي. فهي متشابهة في الجوهر لأنها استجابت لظروف متقاربة، لكنها متمايزة في التفاصيل لأن كل أسطى بناء أضاف من حصيلته المعرفية والثقافية، ومن إمكانيات بيئته وموادها، ومن حسه الفني في الزخرفة والمعالجة. العمارة هنا ليست مجرد حلول وظيفية، بل هي أيضًا إبداع فردي وجماعي.

الحكيم:  

ومن هذا التمايز وُلدت التحف المعمارية التي نراها اليوم. كل بيت أو مسجد أو سوق هو شهادة على جهد جماعي، على ابتكار في طرق الإنشاء، وعلى قدرة على تحويل المحددات إلى جماليات. لذلك، فإن مسؤوليتنا اليوم لا تقف عند الإعجاب بما تركه الأسلاف، بل تتجاوز ذلك إلى الحفاظ عليه وصيانته، وإلى إعادة توظيفه بما يضمن استمراره حيًا في وجداننا.

المفكر:  

صحيح، نحن أمام واجب مزدوج: أن نحافظ على المعالم التاريخية القائمة بالترميم والصيانة، وأن نستلهِم منها في صياغة عمارة ليبية معاصرة تراعي متطلبات المجتمع وظروفه البيئية والمناخية والاقتصادية. بهذا نضمن أن تكون عمارتنا امتدادًا لهويتنا، لا قطيعة معها ولا استلابًا لغيرها.

الحكيم:

العمارة التي ورثناها ليست جدرانًا صامتة، بل ذاكرة حيّة وابتكار متجدد. فإذا حفظناها وأحسنا استلهامها، صارت جسرًا بين الماضي والحاضر، وأساسًا لمستقبل يليق بنا. هكذا تبقى الهوية المعمارية نابضة، لا تُطمس ولا تُزوَّر، بل تُصان وتُجدَّد، لتظل شاهدة على حياة الشعوب وإبداعها.

الثلاثاء، نوفمبر 18، 2025

العمارة بوتقة الجمال والعلم

العمارة بين الزخرفة والحسابات الدقيقة


جمال الهمالي اللافي

حوار بين المفكر والحكيم

المفكر:

يا حكيم، ما زلت في حيرة. في كثير من الجامعات تُدرَّس العمارة ضمن كليات الفنون الجميلة، وكأنها مجرد فرع من الفنون التشكيلية. ألا يدل ذلك على حقيقتها؟

الحكيم:

ذلك يا بني من المفاهيم المغلوطة. العمارة ليست فرعاً من الفنون، بل هي علم وفن قائم بذاته. مكانها الطبيعي بين مدرجات الهندسة والعلوم التطبيقية، حيث الحسابات الدقيقة والمواد والإنشاء. أي خطأ في هذه الحسابات قد يهدد حياة المستعملين أو يُقصّر في كفاءة المبنى.

المفكر:

لكنهم يرونها فناً، لأنها تُبهِر العين وتستعين بالزخرفة والتشكيل. ألا يكفي هذا لتصنيفها ضمن الفنون الجميلة؟

الحكيم:

الجمال جزء من العمارة، لكنه ليس كل شيء. العمارة تُبنى على العلم قبل أن تُزيَّن بالفن. هي فضاء وظيفي يضمن الراحة والأمان والسكينة، والفنون الأخرى تأتي لتخدمها لا لتطغى عليها.

المفكر:

وماذا عن بعدها التاريخي؟ أليست العمارة مجرد أشكال تتغير عبر العصور؟

الحكيم:

العمارة يا بني هي ذاكرة الحضارات. كل جدار فيها يحكي قصة، وكل فضاء يروي سيرة مجتمع عاش فيه. من المعابد القديمة إلى المساجد والقصور، العمارة هي سجل الإنسان على الأرض، وليست مجرد زخرفة عابرة.

المفكر:

لكن البيئة أيضاً تؤثر فيها. ألا يجعلها ذلك فناً مرتبطاً بالطبيعة؟

الحكيم:

البيئة هي أحد أعمدتها. موادها من الأرض، أشكالها من المناخ، توزيعها من حاجات الناس. العمارة استجابة للطبيعة قبل أن تكون لوحة فنية، فهي توازن بين حرارة الشمس وبرودة الرياح، بين الضوء والظل، بين الداخل والخارج.

المفكر:

وماذا عن الثقافة؟ ألا يمكن أن نعتبرها مجرد انعكاس لذوق الناس؟

الحكيم:

الثقافة هي روح العمارة. كل حضارة صاغت عمارتها بما يعكس قيمها ورؤيتها للعالم. من البيوت الشعبية إلى المباني الكبرى، العمارة هي التعبير الأصدق عن هوية المجتمع وذاكرته الجمعية.

المفكر:

لكن في بعض المدارس الحديثة، مثل العمارة التفكيكية، انحازت إلى الشكل الفني على حساب الوظيفة. أليس هذا دليلاً على أنها فن قبل كل شيء؟

الحكيم:

العمارة التفكيكية مثال على الانحراف حين يُغفل بُعدها العلمي والوظيفي. ركزت على الأشكال الغريبة واستخدمت مواد مصنّعة خفيفة الوزن من اللدائن والمعادن الرقيقة القابلة للتشكيل، لكنها كثيراً ما أهملت كفاءة التوزيع الفراغي وراحة المستعملين. هذا يؤكد أن العمارة لا يمكن أن تُختزل في الفن وحده.

المفكر:

أفهم الآن… العمارة ليست فرعاً من الفنون الجميلة، بل هي علم دقيق، وذاكرة تاريخية، واستجابة بيئية، وتجسيد ثقافي.

الحكيم:

أحسنت. العمارة بوتقة الجمال والعلم، وفضاء التاريخ والبيئة والثقافة. هي الأصل الذي يسبق الفنون ويحتويها، وهي التي تمنح الإنسان معنى المكان والهوية.

الاثنين، نوفمبر 17، 2025

بوصلة المعماري بين المنهج والتجريب: من الفطرة إلى التيه الفكري

 


جمال الهمالي اللافي


اعتاد المفكر أن يأتي إلى الحكيم كلما تلاعب به هاجس أو أربكه سؤال لم يجد له جواباً. يجلس أمامه مثقلاً بحيرته.

المفكر:

أفكر أن أترك نفسي للتجريب، أخوض في كل المدارس والتيارات، وبعد سنوات أقرر أي طريق أسلك.

الحكيم:

لكن يا بني، هل التجريب بلا بوصلة يقود إلى النضج؟ أليس مثل من يبحر بلا وجهة، يستهلك عمره في الدوران، ثم يعود إلى الميناء خالي الوفاض؟

المفكر (مترددا) :

ألا يمنحني التجريب معرفة أوسع؟ أن أختبر كل شيء بنفسي، بدل أن أقيّد نفسي منذ البداية؟

الحكيم:

المعرفة لا تأتي من الضياع، بل من المنهج. كما أن الدين رسم لنا طريقاً واضحاً، حلّل لنا أشياء وحرم أخرى، لأن فيها صلاحاً أو فساداً. فهل يصح أن نقول: سنجرب الخمر والربا والقتل، ثم بعد عشر سنوات نقرر ما يصلح لنا؟

المفكر (مرتبكاً):

لكن العمارة ليست ديناً، هي فن وتجريب وإبداع. ألا يحق للمعماري أن يختبر كل اتجاه؟

الحكيم:

الفن والإبداع لا ينفصلان عن العقيدة يا بني. انظر إلى تاريخ المسلمين في عصورهم الذهبية: لقد أوجدت العقيدة الإسلامية عمارة تعبر عن مضمونها الروحي والفكري، وصنعت لنفسها منهجاً سار عليه المسلمون في صياغة حضارتهم.
من الكوفة والبصرة في العراق، إلى القيروان في تونس، إلى جامعة الزيتونة وجامعة القرويين في فاس، ثم الزهراء وغرناطة وقرطبة في الأندلس، ومن قصر الحمراء إلى عمارة البيت الدمشقي والطرابلسي والمغربي… كلها شواهد على أن العمارة كانت امتداداً للفكر والعقيدة، وليست مجرد تجريب عابر.

المفكر (مضطرباً، كأنه يلوم نفسه):

لقد كان لنا منهج رباني، أنتج حضارة عظيمة… فما الذي قلب الأوضاع؟ لماذا نعيش اليوم في حالة بحث وتجريب، نتخبط في دهاليز النظريات الغربية؟ هل وجدنا فيها ما هو أفضل؟ أم أننا استُغفلنا بمنهج يقودنا إلى عدم وضوح وجهتنا، حتى أضطر أن أخوض كل التجارب لعشر سنين، وربما أتوه بعدها ولا أصل إلى شيء؟

الحكيم:

يا بني، ما أصابنا لم يكن لأن المنهج الرباني قاصر، بل لأننا نحن قصّرنا في حمله. حين أقصي المنهج الإسلامي عن صياغة حياة الناس، دخلت الأفكار الوافدة لتملأ الفراغ، فاستبدلنا الأصيل بالمستورَد. الغرب حين أبعد الدين عن حياته، جسّد فكره في عمارة وفنون وآداب، حتى صارت وسائط قوية تؤثر في العقول والمشاعر، وتزلزل القناعات، وتشوش على اليقين. أما نحن، فقد تركنا بوصلة الفطرة، فانجذبنا إلى تيارات لا تعكس هويتنا ولا قيمنا. العمارة ليست حجراً صامتاً، بل رؤية للعالم، خطاب فكري وقيمي يترجم توجهات المجتمع ويعكس رؤيته للحياة. والمنهج الرباني ليس مجرد عقلانية، بل رحمة تحفظ العمر من الضياع، وهداية تقي الإنسان من التيه، وتمنحه الطمأنينة في مساره، فلا يستهلك سنواته في التجريب العشوائي، بل يسلك طريقاً واضحاً يثمر حضارة ومعنى.

المفكر (متأملاً، بصوت خافت):

أراك تربط العمارة بالمنهج الحضاري لا بالزخرفة وحدها… هذا يفتح أمامي أسئلة جديدة لم أجرؤ بعد على صياغتها.

الخاتمة

هكذا ظل المفكر بين ارتباكه وأسئلته، والحكيم بين وضوحه وبصيرته. لم يكن الحوار نهاية، بل بداية لرحلة أخرى، رحلة بحث عن بوصلة تحفظ العمر من الضياع، وتعيد للعمارة معناها الأصيل بين الفطرة والمنهج، بعيداً عن تيه التجريب ودهاليز النظريات.

السبت، نوفمبر 01، 2025

حين تلتقي العمارة بأبنائها

 جدار بلا يد، وضوء بلا عين


في ليبيا، كما في كثير من السياقات التي أنهكتها العزلة المهنية والتشظي الثقافي، باتت العمارة تُمارس كفن منفصل، لا يلتفت إلى أبنائه الطبيعيين: الفنون، التصميم، الحرف. وكأنها فقدت قدرتها على احتضانهم، أو كأنهم لم يعودوا يرون فيها أمًّا، بل سلطة تُقصيهم أو تتعالى عليهم.

لكن العمارة، حين تكون صادقة، لا تُبنى بالحجر فقط، بل بالمعنى. لا تُصمَّم في فراغ، بل تتخلق من تفاعل جماعي بين من يرسم، ومن ينحت، ومن يلون، ومن يروي. وحين يغيب هذا التلاقي، لا تغيب فقط الجماليات، بل تغيب الروح.

في هذا الحوار، يتواجه المفكر والحكيم، لا ليحسما الجدل، بل ليطرحا أسئلته من قلب الواقع الليبي، حيث العمارة تتعثر، والفنون تُهمّش، والحرف تُنسى، والشراكة تتحول إلى صراع صامت.

المفكر:

لماذا تبدو العمارة في بلادنا يتيمة؟ لا تصحب معها أبناءها، لا تستدعي الفنون، ولا تستأنس بالحرف، ولا تفتح بابها إلا لمن يشبهها في العزلة.

الحكيم:

لأنها نُزعت من سياقها. العمارة حين تُفصل عن الحرفة، تفقد يدها. وحين تُقصي الفن، تفقد بصرها. وحين تحتكرها فئة دون غيرها، تفقد صوتها.

المفكر:

حتى من يمتهنون هذه المهن، لا يتواصلون. كلٌّ في جزيرته. المعماري لا يرى في الفنان إلا مزيّناً، والفنان لا يرى في الحرفي إلا منفّذاً، والحرفي لا يرى في المعماري إلا متعالياً.

الحكيم:

لأننا لم نعد نؤمن بالعمل الجماعي. نُفضّل أن نُنجز وحدنا، حتى لو كان الناتج ناقصًا. نخشَى أن يسرق الآخر الضوء، فنُطفئ المصابيح جميعًا.

المفكر:

لكن النتيجة واضحة: مدن بلا ملامح، بيوت بلا دفء، فراغات بلا معنى. العمارة صارت صدىً باهتًا، لا صدى لذاكرة، بل صدى لكتالوج مستورد.

الحكيم:

حين يغيب التلاقي، يغيب الانتماء. لا يمكن أن نبني عمارة تنتمي لبيئتنا، ونحن نرفض أن ننتمي لبعضنا.

المفكر:

أليس من حق من يملك تجربة أن يُصغي له الآخرون؟ أليس من واجب من يملك سلطة القرار أن يفتح الباب لا أن يُغلقه؟

الحكيم:

في بيئة مريضة، يُنظر إلى التجربة كتهديد، لا كإضافة. يُقصى من يملك الرؤية، ويُحتفى بمن لا يُقلق أحدًا.

المفكر:

لكن العمارة لا تُبنى بالصمت. تحتاج إلى حوار، إلى اختلاف، إلى احتكاك. تحتاج إلى من يخطط، ومن ينحت، ومن يلون، ومن يروي.

الحكيم:

وتحتاج إلى من يتواضع. من يعرف أن الجدار لا يكتمل دون يد الحرفي، وأن الضوء لا يُفهم دون عين الفنان، وأن المعنى لا يُولد إلا من تلاقيهم جميعًا.

المفكر:

ربما آن الأوان أن نعيد للعمارة أبناءها. لا كضيوف، بل كشركاء. لا كزينة، بل كأصل.

الحكيم:

حين نكفّ عن الخوف من الضوء، ونبدأ في بناء الجسور بدل الجدران، ستعود العمارة إلى أبنائها. لا كمنّة، بل كحق. وعندها فقط، يمكن أن نبدأ في بناء ما يستحق أن يبقى.

المفكر:

وإن أردنا لهذا التلاقي أن يتحقق، فلا يكفي أن نكتب عنه. لا بد من فعلٍ يُجسّده، من فضاءٍ يُحتضنه، من مشروعٍ يُعيد للعمارة أبناءها في صورة ملموسة.

الحكيم:

ربما يكون معرضًا. لا استعراضًا، بل لقاءً. يُصمَّم ويُنفَّذ جماعيًا، لا ليُبهر، بل ليُعبّر. يجمع من يرسم ومن ينحت ومن يروي، في جناح معماري مؤقت، يُبنى لا بالحجر فقط، بل بالثقة.

المفكر:

معرضٌ لا يُعلّق فيه الفن على الجدران، بل يُدمج في الجدار ذاته. لا تُعرض فيه الحرفة كتراث، بل تُمارَس كحياة. لا يُقصى فيه أحد، بل يُدعى الجميع للمساهمة.

الحكيم:

وحين يُبنى هذا الجناح، لا يكون مجرد هيكل، بل بيانًا جماعيًا يقول:

هنا، حين تلتقي العمارة بأبنائها، يولد المعنى من جديد.

الأربعاء، أكتوبر 01، 2025

المدينة كوعي معماري

  حوار تأملي بين المفكر والحكيم



جمال الهمالي اللافي

في زمنٍ تتكاثر فيه المباني وتقلّ فيه المعاني، يصبح الحديث عن المدينة حديثًا عن الذات، وعن العمارة حديثًا عن الوعي. هذا الحوار لا يُقدّم إجابات جاهزة، بل يُعيد فتح الأسئلة التي تُهمّش عادةً خلف زخرفة الواجهات. بين المفكر الذي يرى بعينٍ تحليلية، والحكيم الذي ينفذ ببصيرته إلى جوهر الأشياء، تتكشّف المدينة ككائن حيّ، لا كخريطة، وكخطابٍ بصريّ، لا كزينة.

المفكر:

أنظر إلى المدينة، فأراها تتبدل كل يوم. الخرائط تتغير، المباني تتكاثر، لكن شيئًا ما يظل غائبًا. كأنها تبصر، لكنها لا ترى نفسها.

الحكيم:

لأنها لم تُصغِ بعد لصوتها الداخلي. المدينة لا تُعرّف بجدرانها، بل بما تحتضنه من معنى. وحين تُبنى بلا وعي، تُعيد إنتاج الغربة.

المفكر:

هل العمارة تُعبّر عنّا؟ أم أننا نُسقط عليها ما نريد أن نقوله؟

هل يمكن للمدينة أن تحمل هوية، لا مجرد وظيفة؟

الحكيم:

العمارة ليست حيادية. هي موقف، وهي ذاكرة، وهي أحيانًا صرخة مكتومة. حين نبني بلا معنى، نُكرّس الغفلة. وحين نُرمّم بلا وعي، نُعيد إنتاج التشويه.

المفكر:  

طرابلس القديمة، مثلاً، هل ما زالت تتكلم؟

أم أن صمتها هو صمت من لم يُصغِ لها؟

الحكيم:

هي لا تصمت، لكنها تُهمّش. كل قوسٍ مهمل، كل نافذة مطموسة، تحمل سردية لم تُكتب بعد. المدينة تُقاوم النسيان، لكنها تحتاج من يُنصت، لا من يُراقب فقط.

المفكر:  

أرى فراغات بلا وظيفة، زخرفة بلا معنى، تصميمًا بلا كرامة. هل هذا هو التقدم؟ أم تكرارٌ بلا وعي؟

الحكيم:

التقدم لا يُقاس بالارتفاع، بل بالاتساق. العمارة التي تنسى الإنسان، تُنتج ما لا يُسكن. والمعماري حين يُصمّم للعرض، يُقصي الوظيفة، ويُهين الكرامة.

المفكر:  

هل يمكن للمعماري أن يُعيد تشكيل المدينة؟

أم أنه مجرد منفّذ لما يُطلب منه؟

الحكيم:  

المعماري الحقيقي لا يُصمّم مبنى، بل يُصمّم معنى. هو من يربط الإنسان بالمكان، ويعيد للفراغ روحه. وإن غاب وعيه، تحوّل إلى أداة في يد الغفلة، لا في يد الوعي.

المفكر:

إذاً، نحن لا نُصمّم المدينة فقط، بل نُصمّم علاقتنا بها. هل يمكن للمدينة أن تُشفى؟ أن تستعيد خطابها، صدقها، هويتها؟

الحكيم:

نعم، حين نكفّ عن التعامل معها كسلعة، ونبدأ في رؤيتها ككائن حيّ. حين نُعيد الاعتبار للبساطة، للصدق، للوظيفة التي تحترم الإنسان. وحين نُدرك أن كل حجرٍ فيها إما أن يكون شاهدًا على وعي، أو أثرًا لغفلة.

بالطبع يا جمال، إليك خاتمة متزنة تُلخّص جوهر الحوار، وتُعبّر عن رؤيتك دون استعراض، بل بلغة تأملية واضحة، تُغلق النص دون أن تُغلق التفكير:

المدينة ليست ما نُشيّده، بل ما نُصغي إليه

هذا الحوار لا يُنهي الأسئلة، بل يُعيد ترتيبها. فالمدينة ليست مجرد عمران، بل كائن حيّ يحمل ذاكرة، ويختبر وعينا، ويُطالبنا بالصدق في علاقتنا بها. العمارة ليست زينة، بل خطابٌ بصريٌّ يحمل موقفًا، والفراغ ليس حيادًا، بل إمّا أن يحتضن الإنسان أو يُقصيه.

حين يرى المفكر التناقض، ويُسائل المعنى، وحين ينفذ الحكيم إلى جوهر الوظيفة والكرامة، تتكشّف المدينة كمرآة للوعي، لا كخلفية للعيش. والمعماري، إن أدرك مسؤوليته، لا يُصمّم مبنى، بل يُعيد بناء العلاقة بين الإنسان والمكان، بين الزمن والذاكرة، بين البصر والبصيرة.

فالمدينة لا تُشفى بالخرائط، بل بالوعي. ولا تُبنى لتُعرض، بل لتُسكن بكرامة.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...