أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

‏إظهار الرسائل ذات التسميات حوارات في المعمار. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات حوارات في المعمار. إظهار كافة الرسائل

السبت، نوفمبر 01، 2025

حين تلتقي العمارة بأبنائها

 جدار بلا يد، وضوء بلا عين


في ليبيا، كما في كثير من السياقات التي أنهكتها العزلة المهنية والتشظي الثقافي، باتت العمارة تُمارس كفن منفصل، لا يلتفت إلى أبنائه الطبيعيين: الفنون، التصميم، الحرف. وكأنها فقدت قدرتها على احتضانهم، أو كأنهم لم يعودوا يرون فيها أمًّا، بل سلطة تُقصيهم أو تتعالى عليهم.

لكن العمارة، حين تكون صادقة، لا تُبنى بالحجر فقط، بل بالمعنى. لا تُصمَّم في فراغ، بل تتخلق من تفاعل جماعي بين من يرسم، ومن ينحت، ومن يلون، ومن يروي. وحين يغيب هذا التلاقي، لا تغيب فقط الجماليات، بل تغيب الروح.

في هذا الحوار، يتواجه المفكر والحكيم، لا ليحسما الجدل، بل ليطرحا أسئلته من قلب الواقع الليبي، حيث العمارة تتعثر، والفنون تُهمّش، والحرف تُنسى، والشراكة تتحول إلى صراع صامت.

المفكر:

لماذا تبدو العمارة في بلادنا يتيمة؟ لا تصحب معها أبناءها، لا تستدعي الفنون، ولا تستأنس بالحرف، ولا تفتح بابها إلا لمن يشبهها في العزلة.

الحكيم:

لأنها نُزعت من سياقها. العمارة حين تُفصل عن الحرفة، تفقد يدها. وحين تُقصي الفن، تفقد بصرها. وحين تحتكرها فئة دون غيرها، تفقد صوتها.

المفكر:

حتى من يمتهنون هذه المهن، لا يتواصلون. كلٌّ في جزيرته. المعماري لا يرى في الفنان إلا مزيّناً، والفنان لا يرى في الحرفي إلا منفّذاً، والحرفي لا يرى في المعماري إلا متعالياً.

الحكيم:

لأننا لم نعد نؤمن بالعمل الجماعي. نُفضّل أن نُنجز وحدنا، حتى لو كان الناتج ناقصًا. نخشَى أن يسرق الآخر الضوء، فنُطفئ المصابيح جميعًا.

المفكر:

لكن النتيجة واضحة: مدن بلا ملامح، بيوت بلا دفء، فراغات بلا معنى. العمارة صارت صدىً باهتًا، لا صدى لذاكرة، بل صدى لكتالوج مستورد.

الحكيم:

حين يغيب التلاقي، يغيب الانتماء. لا يمكن أن نبني عمارة تنتمي لبيئتنا، ونحن نرفض أن ننتمي لبعضنا.

المفكر:

أليس من حق من يملك تجربة أن يُصغي له الآخرون؟ أليس من واجب من يملك سلطة القرار أن يفتح الباب لا أن يُغلقه؟

الحكيم:

في بيئة مريضة، يُنظر إلى التجربة كتهديد، لا كإضافة. يُقصى من يملك الرؤية، ويُحتفى بمن لا يُقلق أحدًا.

المفكر:

لكن العمارة لا تُبنى بالصمت. تحتاج إلى حوار، إلى اختلاف، إلى احتكاك. تحتاج إلى من يخطط، ومن ينحت، ومن يلون، ومن يروي.

الحكيم:

وتحتاج إلى من يتواضع. من يعرف أن الجدار لا يكتمل دون يد الحرفي، وأن الضوء لا يُفهم دون عين الفنان، وأن المعنى لا يُولد إلا من تلاقيهم جميعًا.

المفكر:

ربما آن الأوان أن نعيد للعمارة أبناءها. لا كضيوف، بل كشركاء. لا كزينة، بل كأصل.

الحكيم:

حين نكفّ عن الخوف من الضوء، ونبدأ في بناء الجسور بدل الجدران، ستعود العمارة إلى أبنائها. لا كمنّة، بل كحق. وعندها فقط، يمكن أن نبدأ في بناء ما يستحق أن يبقى.

المفكر:

وإن أردنا لهذا التلاقي أن يتحقق، فلا يكفي أن نكتب عنه. لا بد من فعلٍ يُجسّده، من فضاءٍ يُحتضنه، من مشروعٍ يُعيد للعمارة أبناءها في صورة ملموسة.

الحكيم:

ربما يكون معرضًا. لا استعراضًا، بل لقاءً. يُصمَّم ويُنفَّذ جماعيًا، لا ليُبهر، بل ليُعبّر. يجمع من يرسم ومن ينحت ومن يروي، في جناح معماري مؤقت، يُبنى لا بالحجر فقط، بل بالثقة.

المفكر:

معرضٌ لا يُعلّق فيه الفن على الجدران، بل يُدمج في الجدار ذاته. لا تُعرض فيه الحرفة كتراث، بل تُمارَس كحياة. لا يُقصى فيه أحد، بل يُدعى الجميع للمساهمة.

الحكيم:

وحين يُبنى هذا الجناح، لا يكون مجرد هيكل، بل بيانًا جماعيًا يقول:

هنا، حين تلتقي العمارة بأبنائها، يولد المعنى من جديد.

الأربعاء، أكتوبر 01، 2025

المدينة كوعي معماري

  حوار تأملي بين المفكر والحكيم



جمال الهمالي اللافي

في زمنٍ تتكاثر فيه المباني وتقلّ فيه المعاني، يصبح الحديث عن المدينة حديثًا عن الذات، وعن العمارة حديثًا عن الوعي. هذا الحوار لا يُقدّم إجابات جاهزة، بل يُعيد فتح الأسئلة التي تُهمّش عادةً خلف زخرفة الواجهات. بين المفكر الذي يرى بعينٍ تحليلية، والحكيم الذي ينفذ ببصيرته إلى جوهر الأشياء، تتكشّف المدينة ككائن حيّ، لا كخريطة، وكخطابٍ بصريّ، لا كزينة.

المفكر:

أنظر إلى المدينة، فأراها تتبدل كل يوم. الخرائط تتغير، المباني تتكاثر، لكن شيئًا ما يظل غائبًا. كأنها تبصر، لكنها لا ترى نفسها.

الحكيم:

لأنها لم تُصغِ بعد لصوتها الداخلي. المدينة لا تُعرّف بجدرانها، بل بما تحتضنه من معنى. وحين تُبنى بلا وعي، تُعيد إنتاج الغربة.

المفكر:

هل العمارة تُعبّر عنّا؟ أم أننا نُسقط عليها ما نريد أن نقوله؟

هل يمكن للمدينة أن تحمل هوية، لا مجرد وظيفة؟

الحكيم:

العمارة ليست حيادية. هي موقف، وهي ذاكرة، وهي أحيانًا صرخة مكتومة. حين نبني بلا معنى، نُكرّس الغفلة. وحين نُرمّم بلا وعي، نُعيد إنتاج التشويه.

المفكر:  

طرابلس القديمة، مثلاً، هل ما زالت تتكلم؟

أم أن صمتها هو صمت من لم يُصغِ لها؟

الحكيم:

هي لا تصمت، لكنها تُهمّش. كل قوسٍ مهمل، كل نافذة مطموسة، تحمل سردية لم تُكتب بعد. المدينة تُقاوم النسيان، لكنها تحتاج من يُنصت، لا من يُراقب فقط.

المفكر:  

أرى فراغات بلا وظيفة، زخرفة بلا معنى، تصميمًا بلا كرامة. هل هذا هو التقدم؟ أم تكرارٌ بلا وعي؟

الحكيم:

التقدم لا يُقاس بالارتفاع، بل بالاتساق. العمارة التي تنسى الإنسان، تُنتج ما لا يُسكن. والمعماري حين يُصمّم للعرض، يُقصي الوظيفة، ويُهين الكرامة.

المفكر:  

هل يمكن للمعماري أن يُعيد تشكيل المدينة؟

أم أنه مجرد منفّذ لما يُطلب منه؟

الحكيم:  

المعماري الحقيقي لا يُصمّم مبنى، بل يُصمّم معنى. هو من يربط الإنسان بالمكان، ويعيد للفراغ روحه. وإن غاب وعيه، تحوّل إلى أداة في يد الغفلة، لا في يد الوعي.

المفكر:

إذاً، نحن لا نُصمّم المدينة فقط، بل نُصمّم علاقتنا بها. هل يمكن للمدينة أن تُشفى؟ أن تستعيد خطابها، صدقها، هويتها؟

الحكيم:

نعم، حين نكفّ عن التعامل معها كسلعة، ونبدأ في رؤيتها ككائن حيّ. حين نُعيد الاعتبار للبساطة، للصدق، للوظيفة التي تحترم الإنسان. وحين نُدرك أن كل حجرٍ فيها إما أن يكون شاهدًا على وعي، أو أثرًا لغفلة.

بالطبع يا جمال، إليك خاتمة متزنة تُلخّص جوهر الحوار، وتُعبّر عن رؤيتك دون استعراض، بل بلغة تأملية واضحة، تُغلق النص دون أن تُغلق التفكير:

المدينة ليست ما نُشيّده، بل ما نُصغي إليه

هذا الحوار لا يُنهي الأسئلة، بل يُعيد ترتيبها. فالمدينة ليست مجرد عمران، بل كائن حيّ يحمل ذاكرة، ويختبر وعينا، ويُطالبنا بالصدق في علاقتنا بها. العمارة ليست زينة، بل خطابٌ بصريٌّ يحمل موقفًا، والفراغ ليس حيادًا، بل إمّا أن يحتضن الإنسان أو يُقصيه.

حين يرى المفكر التناقض، ويُسائل المعنى، وحين ينفذ الحكيم إلى جوهر الوظيفة والكرامة، تتكشّف المدينة كمرآة للوعي، لا كخلفية للعيش. والمعماري، إن أدرك مسؤوليته، لا يُصمّم مبنى، بل يُعيد بناء العلاقة بين الإنسان والمكان، بين الزمن والذاكرة، بين البصر والبصيرة.

فالمدينة لا تُشفى بالخرائط، بل بالوعي. ولا تُبنى لتُعرض، بل لتُسكن بكرامة.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...