أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الاثنين، نوفمبر 17، 2025

بوصلة المعماري بين المنهج والتجريب: من الفطرة إلى التيه الفكري

 


جمال الهمالي اللافي


اعتاد المفكر أن يأتي إلى الحكيم كلما تلاعب به هاجس أو أربكه سؤال لم يجد له جواباً. يجلس أمامه مثقلاً بحيرته.

المفكر:

أفكر أن أترك نفسي للتجريب، أخوض في كل المدارس والتيارات، وبعد سنوات أقرر أي طريق أسلك.

الحكيم:

لكن يا بني، هل التجريب بلا بوصلة يقود إلى النضج؟ أليس مثل من يبحر بلا وجهة، يستهلك عمره في الدوران، ثم يعود إلى الميناء خالي الوفاض؟

المفكر (مترددا) :

ألا يمنحني التجريب معرفة أوسع؟ أن أختبر كل شيء بنفسي، بدل أن أقيّد نفسي منذ البداية؟

الحكيم:

المعرفة لا تأتي من الضياع، بل من المنهج. كما أن الدين رسم لنا طريقاً واضحاً، حلّل لنا أشياء وحرم أخرى، لأن فيها صلاحاً أو فساداً. فهل يصح أن نقول: سنجرب الخمر والربا والقتل، ثم بعد عشر سنوات نقرر ما يصلح لنا؟

المفكر (مرتبكاً):

لكن العمارة ليست ديناً، هي فن وتجريب وإبداع. ألا يحق للمعماري أن يختبر كل اتجاه؟

الحكيم:

الفن والإبداع لا ينفصلان عن العقيدة يا بني. انظر إلى تاريخ المسلمين في عصورهم الذهبية: لقد أوجدت العقيدة الإسلامية عمارة تعبر عن مضمونها الروحي والفكري، وصنعت لنفسها منهجاً سار عليه المسلمون في صياغة حضارتهم.
من الكوفة والبصرة في العراق، إلى القيروان في تونس، إلى جامعة الزيتونة وجامعة القرويين في فاس، ثم الزهراء وغرناطة وقرطبة في الأندلس، ومن قصر الحمراء إلى عمارة البيت الدمشقي والطرابلسي والمغربي… كلها شواهد على أن العمارة كانت امتداداً للفكر والعقيدة، وليست مجرد تجريب عابر.

المفكر (مضطرباً، كأنه يلوم نفسه):

لقد كان لنا منهج رباني، أنتج حضارة عظيمة… فما الذي قلب الأوضاع؟ لماذا نعيش اليوم في حالة بحث وتجريب، نتخبط في دهاليز النظريات الغربية؟ هل وجدنا فيها ما هو أفضل؟ أم أننا استُغفلنا بمنهج يقودنا إلى عدم وضوح وجهتنا، حتى أضطر أن أخوض كل التجارب لعشر سنين، وربما أتوه بعدها ولا أصل إلى شيء؟

الحكيم:

يا بني، ما أصابنا لم يكن لأن المنهج الرباني قاصر، بل لأننا نحن قصّرنا في حمله. حين أقصي المنهج الإسلامي عن صياغة حياة الناس، دخلت الأفكار الوافدة لتملأ الفراغ، فاستبدلنا الأصيل بالمستورَد. الغرب حين أبعد الدين عن حياته، جسّد فكره في عمارة وفنون وآداب، حتى صارت وسائط قوية تؤثر في العقول والمشاعر، وتزلزل القناعات، وتشوش على اليقين. أما نحن، فقد تركنا بوصلة الفطرة، فانجذبنا إلى تيارات لا تعكس هويتنا ولا قيمنا. العمارة ليست حجراً صامتاً، بل رؤية للعالم، خطاب فكري وقيمي يترجم توجهات المجتمع ويعكس رؤيته للحياة. والمنهج الرباني ليس مجرد عقلانية، بل رحمة تحفظ العمر من الضياع، وهداية تقي الإنسان من التيه، وتمنحه الطمأنينة في مساره، فلا يستهلك سنواته في التجريب العشوائي، بل يسلك طريقاً واضحاً يثمر حضارة ومعنى.

المفكر (متأملاً، بصوت خافت):

أراك تربط العمارة بالمنهج الحضاري لا بالزخرفة وحدها… هذا يفتح أمامي أسئلة جديدة لم أجرؤ بعد على صياغتها.

الخاتمة

هكذا ظل المفكر بين ارتباكه وأسئلته، والحكيم بين وضوحه وبصيرته. لم يكن الحوار نهاية، بل بداية لرحلة أخرى، رحلة بحث عن بوصلة تحفظ العمر من الضياع، وتعيد للعمارة معناها الأصيل بين الفطرة والمنهج، بعيداً عن تيه التجريب ودهاليز النظريات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...