العمارة بين الزخرفة والحسابات الدقيقة
جمال الهمالي اللافي
حوار بين
المفكر والحكيم
المفكر:
يا حكيم،
ما زلت في حيرة. في كثير من الجامعات تُدرَّس العمارة ضمن كليات الفنون الجميلة،
وكأنها مجرد فرع من الفنون التشكيلية. ألا يدل ذلك على حقيقتها؟
الحكيم:
ذلك يا
بني من المفاهيم المغلوطة. العمارة ليست فرعاً من الفنون، بل هي علم وفن قائم
بذاته. مكانها الطبيعي بين مدرجات الهندسة والعلوم التطبيقية، حيث الحسابات
الدقيقة والمواد والإنشاء. أي خطأ في هذه الحسابات قد يهدد حياة المستعملين أو
يُقصّر في كفاءة المبنى.
المفكر:
لكنهم
يرونها فناً، لأنها تُبهِر العين وتستعين بالزخرفة والتشكيل. ألا يكفي هذا
لتصنيفها ضمن الفنون الجميلة؟
الحكيم:
الجمال
جزء من العمارة، لكنه ليس كل شيء. العمارة تُبنى على العلم قبل أن تُزيَّن بالفن.
هي فضاء وظيفي يضمن الراحة والأمان والسكينة، والفنون الأخرى تأتي لتخدمها لا
لتطغى عليها.
المفكر:
وماذا عن
بعدها التاريخي؟ أليست العمارة مجرد أشكال تتغير عبر العصور؟
الحكيم:
العمارة
يا بني هي ذاكرة الحضارات. كل جدار فيها يحكي قصة، وكل فضاء يروي سيرة مجتمع عاش
فيه. من المعابد القديمة إلى المساجد والقصور، العمارة هي سجل الإنسان على الأرض،
وليست مجرد زخرفة عابرة.
المفكر:
لكن
البيئة أيضاً تؤثر فيها. ألا يجعلها ذلك فناً مرتبطاً بالطبيعة؟
الحكيم:
البيئة
هي أحد أعمدتها. موادها من الأرض، أشكالها من المناخ، توزيعها من حاجات الناس.
العمارة استجابة للطبيعة قبل أن تكون لوحة فنية، فهي توازن بين حرارة الشمس وبرودة
الرياح، بين الضوء والظل، بين الداخل والخارج.
المفكر:
وماذا عن
الثقافة؟ ألا يمكن أن نعتبرها مجرد انعكاس لذوق الناس؟
الحكيم:
الثقافة
هي روح العمارة. كل حضارة صاغت عمارتها بما يعكس قيمها ورؤيتها للعالم. من البيوت
الشعبية إلى المباني الكبرى، العمارة هي التعبير الأصدق عن هوية المجتمع وذاكرته
الجمعية.
المفكر:
لكن في
بعض المدارس الحديثة، مثل العمارة التفكيكية، انحازت إلى الشكل الفني على حساب
الوظيفة. أليس هذا دليلاً على أنها فن قبل كل شيء؟
الحكيم:
العمارة
التفكيكية مثال على الانحراف حين يُغفل بُعدها العلمي والوظيفي. ركزت على الأشكال
الغريبة واستخدمت مواد مصنّعة خفيفة الوزن من اللدائن والمعادن الرقيقة القابلة
للتشكيل، لكنها كثيراً ما أهملت كفاءة التوزيع الفراغي وراحة المستعملين. هذا يؤكد
أن العمارة لا يمكن أن تُختزل في الفن وحده.
المفكر:
أفهم
الآن… العمارة ليست فرعاً من الفنون الجميلة، بل هي علم دقيق، وذاكرة تاريخية،
واستجابة بيئية، وتجسيد ثقافي.
الحكيم:
أحسنت.
العمارة بوتقة الجمال والعلم، وفضاء التاريخ والبيئة والثقافة. هي الأصل الذي يسبق
الفنون ويحتويها، وهي التي تمنح الإنسان معنى المكان والهوية.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق