أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الخميس، نوفمبر 20، 2025

إشكالية البيت الليبي المعاصر

بين الحاجة والغفلة: تأملات في فراغ البيت الليبي كمرآة للوعي الاجتماعي



جمال الهمالي اللافي

لا تكمن أزمة البيت الليبي المعاصر في غياب الهوية المعمارية أو ضعف المعالجات البيئية أو حتى رداءة مواد البناء، بل في غياب الفهم الحقيقي لماهية هذا البيت، كفراغ وظيفي واجتماعي، لا كمجرد كتلة معمارية أو واجهة زخرفية. إننا نعيش في بيوت لا نعرف لماذا صُممت على هذا النحو، ولا كيف يمكن أن تخدم حاجاتنا المتغيرة، فنكرر نماذج موروثة أو مستوردة دون مساءلة، ونُسكن أجسادنا في فراغات لا تسكن أرواحنا.

السكن كفكرة لا كمأوى

البيت ليس مجرد مأوى يحمينا من العراء، بل هو امتداد لوجودنا، مرآة لهويتنا، ومسرح لعلاقاتنا اليومية. في غمرة الانشغال بالمخططات والواجهات، ننسى أن السكن فعل وجودي، وأن تصميم البيت يجب أن ينطلق من سؤال: "كيف نعيش؟" لا "كيف يبدو؟". إن اختزال السكن إلى عدد غرف أو مواد تشطيب هو اختزال لإنسانيتنا ذاتها.

التحولات الاجتماعية والأنثروبولوجية

البيت الليبي لم يعد يحتضن الأسرة الممتدة كما كان، بل بات يؤوي أسرة نووية صغيرة، أحيانًا مفككة. ومع ذلك، لا تزال تصاميمنا تكرّر نماذج قديمة: غرفة ضيافة ضخمة، ممرات معزولة، فراغات لا تُستخدم. الخصوصية التي كانت تُصان بالعمارة، باتت تُخترق بالتصميم الرديء. والضيافة التي كانت طقسًا اجتماعيًا، تحوّلت إلى عبء فراغي لا يُستخدم إلا نادرًا.

الاقتصاد السياسي للسكن

في غياب سياسات إسكانية عادلة، تحوّل السكن من حق اجتماعي إلى سلعة استثمارية. السوق العقاري لا يُنتج بيوتًا للعيش، بل وحدات للبيع. والمواطن، في ظل هذا المنطق، يُجبر على شراء ما هو متاح، لا ما هو ملائم. وهكذا، تتشكل بيوتنا وفق منطق الربح لا منطق الحاجة، وتُبنى المدن كأرقام لا كحياة.

مقارنات عالمية وتجارب بديلة

في دول مثل الإكوادور وجنوب أفريقيا، أعادت المجتمعات تعريف السكن كحق جماعي، وظهرت نماذج للعمارة التشاركية والتمكين المحلي. ورش مجتمعية صممت بيوتًا تنبع من حاجات الناس لا من كتالوجات الشركات. فهل يمكننا، نحن أيضًا، أن نعيد التفكير في بيتنا الليبي من الداخل، لا من الخارج فقط؟

نقد النموذج السائد

النموذج الحالي للبيت الليبي يعاني من تناقضات صارخة: فراغات زائدة لا تُستخدم، وأخرى ضرورية غائبة. غرف ضيافة فخمة تقابلها مطابخ ضيقة، مداخل رسمية لا تُستخدم، ومساحات معيشة لا تحتمل العيش. الشكل يطغى على الوظيفة، والواجهة تُزيّن ما لا يُطاق من الداخل.

نحو إعادة تعريف المعايير

نحن بحاجة إلى إطار معياري جديد لتصميم البيت الليبي، لا يقوم على المساحة أو عدد الغرف، بل على:

  • الوظيفة الاجتماعية: هل يخدم البيت علاقات الأسرة أم يعزل أفرادها؟
  • المرونة في الاستخدام: هل يمكن للفراغ أن يتغير مع تغير الحاجة؟
  • الاستدامة البيئية: هل يحترم البيت مناخنا ومواردنا؟
  • القدرة على التكيف: هل يمكن للبيت أن يصمد أمام التحولات الاقتصادية والاجتماعية؟

خاتمة: البيت كمرآة للوعي

البيت ليس مجرد بناء، بل مرآة لوعينا الاجتماعي. وكلما كان وعينا مشوشًا، كانت بيوتنا كذلك. لهذا، لا بد أن نبدأ بالسؤال قبل المخطط، وبالوظيفة قبل الشكل، وبالصدق قبل الاستعراض. فربما، حين نعيد تعريف البيت، نعيد أيضًا تعريف أنفسنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...