![]() |
| الحوش الطرابلسي التقليدي |
جمال الهمالي اللافي
منذ عقود
ظل النقاش محتدماً حول توصيف الدولة العثمانية: هل كانت دولة استعمارية بالمعنى
الأوروبي الحديث، أم مجرد خلافة توسعت بحدودها لتشمل شعوباً وأقاليم متعددة؟ هذا
الجدل كثيراً ما بقي أسير ثنائية النفي والإثبات، دون أن يصل إلى قناعة حقيقية
بطبيعة الممارسات التي انتهجتها تلك الدولة في المناطق التي ضمتها إلى نفوذها.
هنا يبرز
مصطلح "الاستحواذ
الإمبراطوري" كبديل أكثر دقة وملاءمة من مصطلح الاستعمار. فالاستعمار الأوروبي ارتبط
بالاستيطان والإحلال الثقافي، وبفرض هوية جديدة على الشعوب المغلوبة، بينما
الاستحواذ الإمبراطوري يعني السيطرة على الموارد والطاقات البشرية والاقتصادية، ونقلها
إلى المركز، دون أن يُعاد تشكيل الهوية أو يُمحى الوجود الثقافي المحلي.
الدولة
العثمانية تمثل النموذج الأوضح لهذا النمط. فهي لم تُنشئ مستوطنات تركية واسعة في
البلاد العربية أو البلقان، لكنها استحوذت على مقدرات تلك الشعوب، نقلت الحرفيين
والمهندسين المهرة إلى إسطنبول لبناء نهضتها العمرانية، جمعت الضرائب والموارد
الزراعية لصالح المركز، واعتمدت على نظام "الدفشرمة" الذي استحوذ على
أطفال من البلقان ليصبحوا جنوداً وإداريين في خدمة السلطان. تركت للشعوب قدراً من
الخصوصية الثقافية والدينية، لكنها أبقتهم في موقع التابع، حيث تُستنزف مواردهم
لصالح المركز الإمبراطوري.
إن طرح
مصطلح "الاستحواذ" يحرر النقاش من أسر الجدل العقيم حول إثبات أو نفي
كون الدولة العثمانية استعمارية، ويقربنا أكثر إلى فهم طبيعة هيمنتها الفعلية على
الشعوب. فهو يصف بدقة آلية السيطرة التي مورست، دون أن يخلطها بممارسات الاستعمار
الأوروبي الذي كان أكثر عنفاً في محو الهويات وإحلال ثقافات جديدة.
وإذا
انتقلنا إلى العصر الحديث، نجد أن الولايات المتحدة تمثل حالة معاصرة للاستحواذ
الإمبراطوري، وإن بأدوات مختلفة. فهي لا تستعمر الأراضي ولا تنشئ مستوطنات، لكنها
تستحوذ على مقدرات الشعوب عبر الاقتصاد والتكنولوجيا والإعلام. الدولار يهيمن على
النظام المالي العالمي، الجامعات الأمريكية تجذب العقول والكفاءات من كل أنحاء
العالم، والقواعد العسكرية تنتشر لتفرض السيطرة الأمنية والسياسية. الإعلام والقوة
الناعمة يعيدان تشكيل الوعي الجمعي، دون الحاجة إلى جيوش استيطانية.
بهذا
المعنى، يمكن القول إن الولايات المتحدة تمارس الاستحواذ الإمبراطوري
الحديث، الذي يختلف في أدواته عن النموذج العثماني، لكنه يشترك معه في
جوهر الفكرة: السيطرة على الموارد والطاقات البشرية والاقتصادية لصالح المركز، مع
ترك الشعوب في موقع التابع، وإن بدا لها أنها تحتفظ بهويتها الخاصة.
خاتمة
ولعل هذا
المصطلح الجديد، "الاستحواذ"، لا يقتصر على توصيف السياسة العثمانية في
بعدها السياسي والاقتصادي، بل يمتد ليكشف عن طبيعة حضورها في المجال المعماري
الليبي. ففي أوساط المعماريين والمجتمع الليبي ظل الجدل قائماً: هل العمارة التي
نشأت في فترة الحكم العثماني تقع ضمن التأثيرات العثمانية المباشرة، أم أنها تعبير
عن هوية محلية أصيلة؟
إن النظر
إلى الدولة العثمانية باعتبارها دولة استحواذية يوضح أن هذه السلطة لم تشغل نفسها
بفرض هوية معمارية جديدة على الشعوب التي حكمتها، بل اكتفت بالاستفادة من مقدراتها
وطاقاتها البشرية. وبهذا المعنى، فإن العمارة الليبية التي ظهرت في تلك المرحلة لم
تكن انعكاساً لهيمنة عثمانية ثقافية، بل كانت استمراراً لهويات محلية رسخت نفسها
في المشاريع العمرانية، مع بعض التداخلات الشكلية أو الوظيفية التي فرضتها طبيعة
السلطة المركزية.
هكذا يصبح
مصطلح "الاستحواذ" أداة تفسيرية دقيقة، تخرجنا من أسر الجدل العقيم حول
إثبات أو نفي كون الدولة العثمانية استعمارية، وتفتح لنا أفقاً أوسع لفهم طبيعة
هيمنتها على الشعوب، وكيف انعكس ذلك على العمارة الليبية التي حافظت على خصوصيتها،
رغم وجود سلطة عليا تستحوذ على الموارد دون أن تمس جوهر الهوية.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق