‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحركة المعمارية في ليبيا. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحركة المعمارية في ليبيا. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، يونيو 23، 2025

تقييم الكفاءة في العمارة: جدلية الشهادة والخبرة


جمال الهمالي اللافي

لقد أضحى تقييم الأحقية في الممارسة المعمارية، سواء النظرية أو العملية أو الخبرة المهنية، يعتمد بشكل شبه كلي على حيازة الشهادات الأكاديمية. هذا التوجه يثير تساؤلات جدية حول القيمة الحقيقية لحامل الشهادة في مجال الممارسة وكفاءة أدائه المهني الفعلي. يصبح الأمر أكثر تعقيدًا عندما تُمنح الدرجات التأهيلية بناءً على مدة الحصول على الشهادة، لا على الأداء المهني، مما يؤدي إلى تصنيفات مثل "معماري استشاري" أو "معماري رأي" استنادًا إلى عدد سنوات التخرج فقط.

تأثير هذا التوجه على التعليم والممارسة

هذا الاعتماد المفرط على الشهادات يخلق دافعًا خطيرًا نحو "التهافت" على الحصول عليها، مما ينعكس سلبًا على جودة التعليم وممارسة المهنة في مجال العمارة. من أبرز تجليات هذا التهافت:

·     فصل الخبرة عن التدريس: يصبح غير مسموح لحاملي درجة البكالوريوس بالتدريس في كليات وأقسام العمارة، بغض النظر عن عمق خبرتهم وكفاءتهم المهنية. هذا يحرم الأجيال الجديدة من فرصة الاستفادة من الخبرات العملية الثمينة التي لا يمكن للشهادات وحدها أن توفرها.

·     التركيز على الشهادة لا المحتوى: يمنح حق التدريس حصريًا لحاملي الماجستير والدكتوراه، بمعزل عن طبيعة الرسالة العلمية المقدمة. فإذا كانت الرسالة تدور حول استخدام برنامج رسم معماري أو حتى مواضيع لا تمت بصلة مباشرة لجوهر الممارسة المعمارية كالبحث في عقود النفط أو الحفريات ما قبل التاريخ، فإنها تمنح صاحبها أحقية التدريس في أي مادة دون قيود. هذا يقلل من قيمة المحتوى العلمي والبحثي ويفضل الشكل على الجوهر.

·     تصورات خاطئة عن الذكاء والكفاءة: في بعض المجتمعات، تتحول هذه الشهادات إلى "أوسمة" تخلع على حامليها هالة من "الذكاء الخارق" و"البراعة الفائقة في الممارسة المهنية"، حتى وإن كانت طريقة الحصول عليها موضع تساؤل. الأمر يصل إلى حد منح هذه الدرجات لمن يمتلك نفوذًا، مما يرسخ تصورًا خاطئًا بأن اللقب يغني عن الجد والاجتهاد والتحصيل العلمي الحقيقي.

العوائق أمام المبدعين

في المقابل، يقف المجتمع، وقبله جهات الاختصاص، كحجر عثرة أمام المبدعين في مجال الهندسة المعمارية، والذين قد لا يملكون تلك "الشهادات الورقية" لكنهم يمتلكون موهبة وخبرة وكفاءة عملية فذة. هذا التناقض يؤدي إلى:

·     إقصاء الكفاءات الحقيقية: كثير من المبدعين الذين يمتلكون حسًا معماريًا فريدًا وخبرة عملية واسعة يجدون أنفسهم مهمشين أو غير معترف بهم رسميًا لعدم حيازتهم للدرجات الأكاديمية العليا.

·     تكريس للبيروقراطية على حساب الإبداع: يصبح النظام بيروقراطيًا بحتًا، حيث الأوراق والمؤهلات الشكلية تتفوق على الإبداع والابتكار والقدرة الفعلية على الإنجاز.

·         فقدان الثقة بالمنظومة: عندما يرى الناس أن الشهادات تمنح بمعزل عن الكفاءة الحقيقية، تتزعزع ثقتهم بالمنظومة التعليمية والمهنية برمتها.

نحو حلول بناءة

لمعالجة هذه الإشكالية، يمكن اقتراح بعض الحلول المنهجية التي تهدف إلى تحقيق توازن بين المعايير الأكاديمية والخبرة العملية:

1.   إعادة تقييم معايير التدريس: يجب أن تركز معايير أهلية التدريس في أقسام العمارة على مزيج من المؤهلات الأكاديمية والخبرة المهنية الموثقة. يمكن إنشاء مسارات مختلفة للأساتذة الممارسين الذين قد لا يمتلكون شهادات عليا ولكنهم يتمتعون بخبرة عملية واسعة ومساهمات بارزة في المجال.

2.   تطوير برامج تقييم الكفاءة المهنية: بدلاً من الاعتماد الكلي على سنوات التخرج، يجب تطوير آليات لتقييم الكفاءة المهنية الفعلية للمعماريين، مثل اختبارات الكفاءة، تقييم المشاريع المنجزة، والمقابلات مع لجان خبراء مستقلة.

3.   إعادة النظر في محتوى الرسائل العلمية: يجب توجيه رسائل الماجستير والدكتوراه نحو مواضيع ذات صلة مباشرة بالممارسة المعمارية والتحديات المعاصرة في المجال، بدلاً من التركيز على جوانب نظرية بحتة أو برامج تطبيقية يمكن تعلمها بسهولة خارج السياق الأكاديمي.

4.   تعزيز الشراكة بين الأوساط الأكاديمية والمهنية: يجب تشجيع التعاون الوثيق بين الجامعات والنقابات المهنية ومكاتب العمارة لضمان أن المناهج التعليمية تتماشى مع متطلبات سوق العمل وأن الخبرات العملية يتم تقديرها وإدماجها.

5.   التوعية بأهمية التوازن: نشر الوعي في المجتمع بأهمية التوازن بين التحصيل العلمي والخبرة العملية الحقيقية، والتشديد على أن الشهادة هي وسيلة وليست غاية في حد ذاتها.

إن معالجة هذه القضية تتطلب جهدًا جماعيًا من الجهات الأكاديمية والمهنية والمجتمع ككل. فالمهم هو بناء جيل من المعماريين القادرين على الإبداع والابتكار وتقديم قيمة حقيقية للمجتمع، لا مجرد حاملي شهادات.

الخميس، أبريل 17، 2025

التآزر الإبداعي: دروس من شراكات معمارية خالدة

المعماريان لوكوربوزييه وشارلوت بيري


جمال الهمالي اللافي

في عالم العمارة، حيث تتشابك الأفكار وتتلاقى الرؤى، يظهر التعاون المشترك كقوة دافعة نحو تحقيق إنجازات تتجاوز حدود الإبداع الفردي لتصبح معالم خالدة تُضاف إلى الإرث الإنساني. ومن أبرز الأمثلة على هذا التآزر الإبداعي، العلاقة المهنية التي جمعت بين لو كوربوزييه وشارلوت بيري، والتي أثمرت عن مشاريع معمارية تركت بصمة لا تُمحى في تاريخ العمارة.

لو كوربوزييه، أحد أعلام العمارة الحديثة، وجد في شارلوت بيري شريكة فكرية متميزة. انضمت بيري إلى مكتبه في فترة كانت فيها العمارة تشهد تحولات جذرية، وساهمت بمهاراتها في تصميم الأثاث الداخلي الذي يعكس فلسفة لو كوربوزييه في البساطة والوظيفية. كان هذا التعاون مثالًا حيًا على كيفية تكامل الأفكار بين معماريين لتحقيق رؤية مشتركة، حيث لم يكن الهدف مجرد تصميم مبانٍ، بل صياغة بيئات معيشية تعكس روح العصر وتلبي احتياجات الإنسان.

ولا تقتصر أمثلة التعاون المثمر على لو كوربوزييه وشارلوت بيري. فقد شهد تاريخ العمارة شراكات أخرى ألهمت العالم. على سبيل المثال، التعاون بين فرانك لويد رايت وماريون ماهوني، حيث ساهمت ماهوني في تطوير رسومات وتصاميم رايت، مما أضفى طابعًا فنيًا مميزًا على أعماله. كذلك، نجد الشراكة بين نورمان فوستر وريتشارد روجرز، اللذين عملا معًا في بدايات مسيرتهما المهنية، مما ساعدهما على تطوير أسلوبهما الخاص الذي يجمع بين التقنية العالية والجماليات المعمارية.

وفي السياق المحلي، يبرز مشروع تصميم مسجد الويفاتي بطريق المطار كدليل حي على ما يمكن أن يُنجز من خلال التآزر المعماري. هذا المشروع الذي انبثق من مكتب 'الميراث' في عام 1993 كان نتيجة تعاون مثمر بين عدة أطراف؛ حيث وضعت زميلة معمارية فكرة المسقط الأفقي، وقمتُ بتطوير التفاصيل المعمارية وتصميم المسجد، بينما ساهم زميل آخر في إعداد الخرائط التنفيذية. مثل هذا التفاعل الخلاق أظهر قوة العمل الجماعي في تحقيق رؤية معمارية متكاملة.

مسجد الويفاتي بطريق المطار- طرابلس

لكن، وعلى الرغم من النجاح الذي تحقق، فإن هذه التجربة تعثرت لاحقًا بسبب النزاعات على الاستحواذ على المشاريع. هذه التحديات تسلط الضوء على أهمية تعزيز ثقافة التعاون والبُعد عن المنافسة السلبية التي قد تعيق التقدم. المشاريع الكبرى لا تُبنى على مجهود فردي، بل تعتمد على انصهار الأفكار والعمل الجماعي الذي يُمكن الجميع من الإبداع وتحقيق رؤية مشتركة.

إن هذه التجربة المحلية يمكن أن تكون نموذجًا ملهمًا للمعماريين الليبيين اليوم، ليتجاوزوا العقبات ويستفيدوا من دروس الماضي من أجل خلق مشاريع تُساهم في بناء إرث معماري وطني يعكس روح التآزر والعمل الجماعي.هذه الشراكات ليست مجرد تعاون مهني، بل هي نموذج يُحتذى به للمعماريين الليبيين اليوم. ففي ظل التحديات التي تواجه العمارة في ليبيا، يمكن للتعاون المشترك أن يكون المفتاح لتحقيق إنجازات تُضاف إلى الإرث المعماري الوطني. إن التآزر بين المعماريين لا يعني التنازل عن الهوية الفردية، بل هو فرصة لتوسيع الآفاق وتبادل الخبرات، مما يؤدي إلى خلق مشاريع تعكس روح التعاون وتُخلد في ذاكرة الأجيال.

إننا بحاجة إلى تعزيز ثقافة التعاون بين المعماريين الليبيين، حيث يمكن لكل معماري أن يجد في الآخر شريكًا فكريًا يُثري رؤيته ويُساعده على تحقيق طموحاته. فكما أثبتت الشراكات العالمية، فإن العمل الجماعي ليس مجرد وسيلة لتحقيق الإنجاز، بل هو رحلة مشتركة نحو الإبداع والتميز.

الاثنين، أبريل 14، 2025

الحفاظ على هويتنا الثقافية في مواجهة العمارة المغتربة

جامع وزاوية عمورة بمنطقة جنزور- طرابلس


أبناء وبنات وطني الأعزاء،

أتحدث إليكم اليوم كصوت معماري ينتمي إلى هذا الوطن الغالي، ليبيا التي تتمتع بتاريخ عريق وثقافة غنية. نعيش في زمن يتسم بالعولمة والتأثيرات المعمارية المتعددة التي قد تبدو لنا في بعض الأحيان جذابة، ولكن دعوني ألفت انتباهكم إلى الأبعاد الأعمق والأكثر خطورة التي قد تنتج عن التماهي مع العمارة المغتربة.

الهوية المعمارية: مرآة ثقافتنا

تعد العمارة مشروعًا يعكس هويتنا الثقافية وأسلوب حياتنا. إن كل مبنى، كل مسجد، وكل بيت تاريخي في شوارعنا وكل مدينة، ينقل لنا قصص الأجداد وتاريخهم. إن تجاهل هذه الجذور والانسياق وراء تصاميم مغتربة قد يؤدي إلى فقد هويتنا الثقافية واستبدالها بسمات غريبة لا تعكس طبيعتنا ولا عاداتنا.

العمارة المغتربة: تهديد للروابط الاجتماعية

عندما نقوم ببناء مساحات لا تعبر عنا، فإننا نضعف الروابط الاجتماعية التي تجمعنا. إن التصاميم المعمارية التي تهمل السياق الثقافي والاجتماعي قد تساهم في إنشاء بيئات تعزل الناس عن بعضهم البعض. نحن بحاجة إلى عمارة تعبر عن شغفنا وتراثنا، وتعزز من تواصلنا الاجتماعي.

الأمن الثقافي: ضرورة الحفاظ على تراثنا

الأمن الثقافي هو جزء لا يتجزأ من أمننا الوطني. عندما نتجاهل تراثنا المعماري ونقبل العمارة المغتربة، فإننا نُعرّض ثقافتنا وذاكرتنا الجماعية للخطر. يجب أن ندرك أن المباني ليست مجرد هياكل، بل هي تعبير عن وجودنا، وعلينا حماية هذا الوجود من التلاشي.

دعوة للتغيير

لذا، أتوجه إليكم جميعًا، من معمارين ومهندسين، من مهتمين بالثقافة والتاريخ، بل وكل مواطن ليبي: دعونا نعمل معًا للحفاظ على هويتنا. يجب علينا أن نؤكد أهمية اعتماد أساليب تصميم تحترم وتستند إلى تراثنا وبيئتنا وثقافتنا. لنأخذ العبرة من التجارب العالمية، ولكن علينا دائماً أن نمارس التصميم الذي يعكس عمقنا الثقافي.

فلنبنِ عمارة تستمد قوتها من تاريخنا، ولتصمم مبانينا بأسلوب يجمع بين المعاصرة واحترام جذورنا. دعونا نعمل على خلق بيئات تعبر عن ليبيا الجميلة، وتعيد لها هويتها.

معاً، نستطيع أن نبني مستقبلًا يحيي تراثنا ويعكس ثقافتنا، مستفيدين من كل الأسباب التي تجعل ليبيا وطنًا فريدًا وغنيًا بالتنوع البيئي والثقافي والجمال المعماري والحرفي.

دمتم ودامت ليبيا بخير ورِفعة وسؤدد، 

 

جمال الهمالي اللافي

كاتب معماري ليبي

الثلاثاء، أبريل 01، 2025

رسالة في تعزيز العمارة المحلية: حوار مفتوح

رؤية معاصرة للمسكن الغدامسي


جمال الهمالي اللافي

لطالما كانت العمارة المحلية الليبية مصدر إلهام لي في مسيرتي المهنية، وأجد في كل مدينة ليبية هوية معمارية ثرية تعكس تنوع ثقافاتنا وجذورنا. في مشاريعي، أسعى دائمًا إلى إعادة تأصيل هذه القيم والخصائص المعمارية بما يتلاءم مع احتياجات الحاضر، من منطلق بحثي المستمر عن الهوية الثقافية والمعمارية لمدننا الحبيبة.

عند عرضي لبعض هذه المشاريع عبر منصاتي، فإن غايتي الأولى والأخيرة هي فتح باب الحوار حول قيمة تراثنا المعماري، وتسليط الضوء على كيفية إعادة تفسيره بأساليب مبتكرة ومستدامة. لست هنا للمنافسة أو مقارنة الجهود، بل أعتبر كل محاولة لتعزيز هذا التراث جزءًا من عمل جماعي يخدم ثقافتنا وهويتنا.

أتطلع دائمًا إلى تعليقاتكم واقتراحاتكم التي تثري هذا النقاش وتشكل رؤى جديدة. شكرًا لكم على دعمكم المستمر لجهودي في تعزيز جمال وروح العمارة الليبية.

الاثنين، مارس 31، 2025

بعث روح العمارة الغدامسية في المنازل الحديثة: تجربة المهندسة أم محمد




        تُعد مدينة غدامس، بجمالها التراثي الفريد وعمارتها التقليدية الأصيلة، مصدر إلهام حقيقي لمحبي الفن المعماري. ومن بين هؤلاء، المهندسة المعمارية أم محمد، التي انطلقت من حبها العميق لبيت غدامس التقليدي لترسم ملامح جديدة تُعيد إبراز هذا التراث في المساكن الحديثة
.

في خطوة مبدعة، سعت المهندسة أم محمد إلى اقتباس عناصر من الطراز الغدامسي التقليدي لإثراء منزلها الخاص. كان أحد أبرز تلك العناصر تصميم غرفة المعيشة المدمجة مع استقبال النساء، حيث استخدمت قوساً غدامسياً يفصل بين المساحتين. رغم بساطة هذا العنصر، إلا أنه يضفي دفئاً وترابطاً بين الماضي والحاضر، ويُبرز الخصوصية التي لطالما ميّزت بيوت غدامس القديمة.

تشارك المهندسة تجربتها قائلة: "تمنيت لو استطعت تنفيذ التفاصيل بالكامل، بما في ذلك السلالم التقليدية والضوّاية (فتحات الضوء) والصنور، ولكنني اكتفيت بإضافة القوس كخطوة أولى. ورغم ذلك، شعرت بأنني أعيش جوهر المدينة القديمة داخل منزلي المتواضع."


لا يقتصر إبداع أم محمد على منزلها فقط؛ فقد عملت على تصميم مشاريع أخرى تحمل بصمة غدامسية، منها وحدات سكنية ملحقة بفندق، حيث استوحت توزيع الفضاءات من العمارة التقليدية. لكنها تشير إلى بعض التحديات في ترجمة الطراز القديم إلى العصر الحديث. فالغرف التي كانت مخصصة لتخزين الغلال أو المطابخ الموجودة على السطح مثلاً، أصبحت غير ملائمة لحياة اليوم. ومع ذلك، تؤكد أن الاقتباس الذكي والمتوازن لبعض العناصر الزخرفية والمعمارية يجعل الطراز الغدامسي يتأقلم بسهولة مع احتياجات العصر الحديث.


تلفت المهندسة أم محمد الانتباه إلى أن أغلب المنازل الحديثة في غدامس تحرص على تضمين لمسات من الطراز التقليدي، سواء في الواجهات، الزخارف، أو حتى في الأثاث والجلسات الشعبية. وهذا يعكس ارتباط المجتمع الغدامسي العميق بثقافته وتراثه المعماري.

وفي ختام حديثها، تعبر أم محمد عن حلمها في رؤية مشروع يقتبس بأسلوب شامل العمارة الغدامسية القديمة ويعيد تقديمها كتصميم عصري يلبي احتياجات اليوم. تقول: "آمل أن نرى تصاميم تحيي بيت غدامس التقليدي، لأن في ذلك إحياءً لهويتنا وجمال تراثنا."

تجربة المهندسة أم محمد ليست مجرد تصميم داخلي، بل دعوة للحفاظ على التراث الغدامسي وإعادة تعريفه ليظل مصدر إلهام للأجيال القادمة.

الأحد، مارس 23، 2025

نحو توحيد لغة التصميم: كيف يمكن لنموذج الباوهاوس أن يساهم في تطوير العمارة والفنون التطبيقية في ليبيا

مدرسة باوهاوس المعمارية


جمال الهمالي اللافي

إحدى أبرز التحديات في مجال العمارة والمهن المكملة لها تتمثل في تمسك كل طرف بوجهة نظره وتوجهه التصميمي، مما يجعل من الصعب تحقيق انسجام أو رؤية مشتركة بين الأطراف المشاركة في مشروع واحد. نادرًا ما نجد معمارياً يتعاون مع آخر لتحقيق رؤية موحدة لمشروع واحد. بالمثل، يصعب تحقيق توافق بين المعماريين والمصممين الداخليين أو منسقي الحدائق أو مصممي الأثاث وغيرهم من المتخصصين في المجالات المكملة.

حتى مصممو الجرافيك، الذين تتمثل مهمتهم في التعبير عن رؤية العميل بأسلوب إبداعي، يواجهون تحديات في تبني رؤية المعماريين. فنجدهم يصرون على إخراج المشاريع بأسلوبهم المعتاد، غير القابل للتغيير، مما يؤدي إلى انحصار التنوع الإبداعي وتكرار الأنماط. وهنا يتضح مثال مشابه يُستقى من الإعلانات التلفزيونية المصرية، التي تعتمد جميعها على نمط واحد في الترويج، بغض النظر عن طبيعة السلعة. إذ تُسخَّر فيها مختلف الفئات العمرية من الرجال والنساء وحتى الأطفال في مشاهد رقص وهز وسط، بشكل يعكس الحلول الأسهل والأكثر ربحية، بدلاً من البحث عن أفكار إبداعية مبتكرة تتناسب مع كل حالة على حدة.

الدكتور المعماري/ عبدالمجيد عبدالرحمن:  نعم أستاذ جمال، هذا الرأي كان ولا يزال قائماً، ولكنه أحد الأسباب الرئيسية وراء ظهور نظرية الباوهاوس الألمانية - Bauhaus - التي طرحت حلاً للمشكلة:

·         الانتقال من التصميم الفردي إلى التصميم الديمقراطي الجماعي الذي يعتمد على لغة تصميمية واحدة مشتركة بين الجميع.

·     نظرية الباوهاوس قدمت نظاماً للتصميم الجماعي يتيح لجميع الأطراف العمل دون تضارب في الأفكار والاتجاهات، حيث تم دمج جميع الأبعاد في اتجاه واحد يتماشى مع الجميع.

هذا رأيي الشخصي حول كيفية تقديم مقترح لمعالجة المشاكل التصميمية التي تظهر عند اشتراك فريق من المصممين في مشروع واحد.

جمال الهمالي اللافي: دكتور عبدالمجيد عبدالرحمن، هذا ما نسعى لتحقيقه؛ نموذج عمل يقوم على تضافر جهود جميع التخصصات تحت رؤية مشتركة.

الدكتور المعماري/ عبدالمجيد عبدالرحمن: نعم، ولكن إذا نظرنا بعمق إلى تاريخ نظرية الباوهاوس أثناء تأسيسها نجد أنها كانت تهدف إلى القضاء على التصميم الفردي للفنون والحرف اليدوية السبعة وعلاقتها بالتصميم المعماري، ولكنها واجهت تناقضات وصعوبات نتيجة اختلاف الاتجاهات بين تصميم الأثاث، الإضاءة، الأرضيات وغيرها.

ولهذا السبب عملت الباوهاوس على توحيد لغة التصميم وتقديم أسلوب بسيط يجمع الشكل والوظيفة في قالب موحد ليُقبله الجميع.

جمال الهمالي اللافي: دكتور عبدالمجيد عبدالرحمن، نعم، الاختلاف لا يمكن معالجته إلا من خلال توحيد لغة التصميم، وهذا ما نفتقده في بلدنا. نحتاج إلى تبني تجربة الباوهاوس في ليبيا، وربما تأسيس مدرسة معمارية خاصة يمكن الاعتماد بعدها على خريجيها لإحداث الفارق المطلوب.

الدكتور المعماري/ عبدالمجيد عبدالرحمن: نعم، هذا ما نحتاجه: إدراج تجربة ونتائج الباوهاوس بعد 100 سنة من تأسيسها. والأهم أن ندرس كيف يمكن تطبيق نموذج الباوهاوس في المناطق الحارة.

فالجدل يدور حول كون الباوهاوس قد تأسست في مناطق باردة وانتقلت من استخدام الحجر في المرحلة الأولى إلى استخدام الزجاج والمعادن بشكل أكبر. والسؤال هو: كيف يمكن أن تكون المباني بتصاميمها الخارجية والداخلية قادرة على مقاومة الحرارة، مع الحفاظ على المعايير التي وضعتها الباوهاوس؟

بالنسبة للأثاث والإضاءة وغيرها من العناصر الداخلية، لا توجد عوائق أمام البيئة والمناخ. ولكن التحديات تكمن في التصميم الخارجي وملاءمته للحرارة المرتفعة.

جمال الهمالي اللافي: الرؤية العامة لفكر الباوهاوس وكيفية ملاءمة منهجها لقيمنا الاجتماعية وظروف بيئتنا، أعتقد أن منهج الربط بين المعماري وكافة الفنون الجميلة والحرف الفنية وخطوط الإنتاج يمثل الخطوة الأكثر أهمية، والتي من خلالها يمكن توظيف رؤية هذه المدرسة لاستنباط منهج يؤصل للعمارة المحلية المعاصرة.

الدكتور المعماري/ عبدالمجيد عبدالرحمن: نعم، تأسيس كلية تعتمد نهج الباوهاوس في المناطق الحارة سيكون خطوة جوهرية. هذه الكلية يجب أن تشمل دراسة تخصصات العمارة، التصميم الصناعي للأثاث، والفنون التطبيقية السبعة مجتمعة. بمعنى أن المعماري يكون مسؤولاً عن تصميم كل التفاصيل، من الأثاث الداخلي إلى الشكل الخارجي للمبنى، ليسلّم المشروع كاملاً وجاهزاً من الصفر إلى تسليم المفتاح.

هذه هي فلسفة الباوهاوس التي نجحت في القضاء على الفوضى التي كانت شائعة في مجالات التصميم الداخلي والخارجي، وكذلك في العمارة وتصميم الأثاث والديكور والفنون التطبيقية الأخرى.

جمال الهمالي اللافي: دكتور عبدالمجيد عبدالرحمن، مادامت هذه المدرسة قد نجحت في حل هذه الإشكاليات، فلماذا لا نسارع بتبنيها وتطبيقها في بلادنا؟

الدكتور المعماري/ عبدالمجيد عبدالرحمن: لتحقيق ذلك، نحن بحاجة إلى مجموعة مثقفة من المخططين والمعماريين والمصممين والفنانين، الذين يمكنهم قيادة حركة فكرية جديدة داخل المجتمع. تجدر الإشارة إلى أن مؤسسي الباوهاوس بدأوا بمبادرة من القطاع الخاص، وأقنعوا الدولة لاحقاً بتبني هذه الفلسفة.

كانت الباوهاوس حركة جماعية ذات بُعد اجتماعي واقتصادي، وقدمت حلولاً فعّالة لألمانيا التي كانت تعاني من آثار الحرب العالمية الأولى. هذه التجربة كانت امتداداً لأهداف حزب العمال الألماني SPD، الذي كان يسعى إلى تصميم مساكن اجتماعية تحقق العدالة بين مختلف فئات المجتمع، وتقضي على الفجوة بين الغني والفقير.

جمال الهمالي اللافي: أرى أن تحقيق ذلك ممكن.

الدكتور المعماري/ عبدالمجيد عبدالرحمن: الباوهاوس تميزت باتجاهها الاجتماعي القوي، والذي ركز على تلبية حاجة المجتمع إلى السكن الاقتصادي والاجتماعي. في مرحلة انتشارها الثانية، عندما انتقلت من مدينة فايمر إلى ديساو، ركّزت الباوهاوس أكثر على خدمة المجتمع. فقدمت نماذج حديثة لتصميم المجاورات السكنية، بما في ذلك المجمعات السكنية المتكاملة في مدينة برلين.

في هذه المرحلة، ظهر التخطيط الحضري الذي يربط بين الإسكان والفراغات الاجتماعية الخارجية، لتلبية احتياجات المجتمع داخل وخارج المسكن أثناء أوقات الفراغ والعطلات. كانت هذه المبادئ أسساً لتصميم يخدم الفرد والمجتمع على حد سواء.

جمال الهمالي اللافي: لا يوجد أي تعارض بين هذه المبادئ وما يحتاجه مجتمعنا اليوم.

الدكتور المعماري/ عبدالمجيد عبدالرحمن: لتعميم هذه التجربة، يجب فتح كلية على نهج الباوهاوس، حيث يتعلم الطلاب تخصصات الفنون التطبيقية، التصميم العام، العمارة، والتخطيط الحضري. هذه هي مبادئ الباوهاوس الألمانية التي تحتاج إلى الانتشار في دول العالم الثالث، ومنها ليبيا.

الدكتور المعماري/ عبدالمجيد عبدالرحمن: تأسيس كلية تعتمد نهج الباوهاوس في المناطق الحارة سيكون خطوة جوهرية. هذه الكلية يجب أن تشمل دراسة تخصصات العمارة، التصميم الصناعي للأثاث، والفنون التطبيقية السبعة مجتمعة. بمعنى أن المعماري يكون مسؤولاً عن تصميم كل التفاصيل، من الأثاث الداخلي إلى الشكل الخارجي للمبنى، ليسلّم المشروع كاملاً وجاهزاً من الصفر إلى تسليم المفتاح.

هذه هي فلسفة الباوهاوس التي نجحت في القضاء على الفوضى التي كانت شائعة في مجالات التصميم الداخلي والخارجي، وكذلك في العمارة وتصميم الأثاث والديكور والفنون التطبيقية الأخرى.

جمال الهمالي اللافي: دكتور عبدالمجيد عبدالرحمن، مادامت هذه المدرسة قد نجحت في حل هذه الإشكاليات، فلماذا لا نسارع بتبنيها وتطبيقها في بلادنا؟

الدكتور المعماري/ عبدالمجيد عبدالرحمن: لتحقيق ذلك، نحن بحاجة إلى مجموعة مثقفة من المخططين والمعماريين والمصممين والفنانين، الذين يمكنهم قيادة حركة فكرية جديدة داخل المجتمع. تجدر الإشارة إلى أن مؤسسي الباوهاوس بدأوا بمبادرة من القطاع الخاص، وأقنعوا الدولة لاحقاً بتبني هذه الفلسفة.

كانت الباوهاوس حركة جماعية ذات بُعد اجتماعي واقتصادي، وقدمت حلولاً فعّالة لألمانيا التي كانت تعاني من آثار الحرب العالمية الأولى. هذه التجربة كانت امتداداً لأهداف حزب العمال الألماني SPD، الذي كان يسعى إلى تصميم مساكن اجتماعية تحقق العدالة بين مختلف فئات المجتمع، وتقضي على الفجوة بين الغني والفقير.

جمال الهمالي اللافي: أرى أن تحقيق ذلك ممكن.

الدكتور المعماري/ عبدالمجيد عبدالرحمن: الباوهاوس تميزت باتجاهها الاجتماعي القوي، والذي ركز على تلبية حاجة المجتمع إلى السكن الاقتصادي والاجتماعي. في مرحلة انتشارها الثانية، عندما انتقلت من مدينة فايمر إلى ديساو، ركّزت الباوهاوس أكثر على خدمة المجتمع. فقدمت نماذج حديثة لتصميم المجاورات السكنية، بما في ذلك المجمعات السكنية المتكاملة في مدينة برلين.

في هذه المرحلة، ظهر التخطيط الحضري الذي يربط بين الإسكان والفراغات الاجتماعية الخارجية، لتلبية احتياجات المجتمع داخل وخارج المسكن أثناء أوقات الفراغ والعطلات. كانت هذه المبادئ أسساً لتصميم يخدم الفرد والمجتمع على حد سواء.

جمال الهمالي اللافي: لا يوجد أي تعارض بين هذه المبادئ وما يحتاجه مجتمعنا اليوم.

الدكتور المعماري/ عبدالمجيد عبدالرحمن: لتعميم هذه التجربة، يجب فتح كلية على نهج الباوهاوس، حيث يتعلم الطلاب تخصصات الفنون التطبيقية، التصميم العام، العمارة، والتخطيط الحضري. هذه هي مبادئ الباوهاوس الألمانية التي تحتاج إلى الانتشار في دول العالم الثالث، ومنها ليبيا.

ملخص الحوار:

يركز الحوار على أهمية تبني فلسفة الباوهاوس في ليبيا كحل للتحديات التصميمية والمعمارية التي يواجهها المجتمع. يشدد الدكتور عبدالمجيد عبدالرحمن على أن نموذج الباوهاوس، الذي نجح في توحيد التخصصات المختلفة تحت رؤية تصميمية مشتركة، يمكن أن يحقق نقلة نوعية في التصاميم المحلية، بشرط تكييفه مع الظروف البيئية والاجتماعية للبلاد. جمال الهمالي اللافي يرى أن هذه المبادئ لا تتعارض مع احتياجات المجتمع الليبي، مؤكداً إمكانية تطبيق هذا النهج عن طريق تأسيس كلية تعتمد على فلسفة الباوهاوس لتكوين جيل جديد من المصممين والمعماريين القادرين على تحقيق التكامل والإبداع في المشاريع المستقبلية.

ويتفق الطرفان على أن نجاح هذا النموذج يعتمد إلى حد كبير على التعليم المستمر والابتكار. يمكن تحقيق ذلك من خلال إنشاء برامج تدريبية قصيرة الأمد بمشاركة محترفين عالميين أو عبر شراكات مع جامعات ومدارس تصميم دولية. هذه البرامج تمثل خطوة أولى نحو تطبيق تجربة الباوهاوس محلياً، إلى جانب تأسيس الكلية. كما يُمكن تعزيز هذا النهج باستخدام التكنولوجيا الحديثة، بما في ذلك برامج التصميم الرقمي وتقنيات الذكاء الاصطناعي لتكييف الحلول مع البيئة المحلية. هذه الخطوات ستكون أساسية لإحداث تحول شامل في مجال التصميم بما يخدم المجتمع ويُسهم في تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية.

خاتمة:

في ظل التحديات المتزايدة التي يواجهها قطاع التصميم المعماري والفنون التطبيقية اليوم، تبرز الحاجة الملحّة إلى تبني منهجيات أكثر تعاوناً وشمولية. إن غياب رؤية مشتركة ولغة تصميم موحّدة بين التخصصات المختلفة يؤدي إلى تفاقم التباين والانقسام. ومع ذلك، نجد في تاريخ العمارة وتصميم الفنون أمثلة على مبادرات رائدة، مثل تجربة الباوهاوس الألمانية، التي نجحت في توحيد جهود المصممين والمعماريين والفنانين، مما جعلها نموذجاً يُستلهم لتحقيق تكامل إبداعي ينهض بالمجتمع.

قد تكون هذه التجربة درساً قيّماً لدول العالم، وخصوصاً في منطقتنا، حيث يمكن إعادة صياغة مبادئها لتتلاءم مع السياق البيئي والاجتماعي والثقافي المحلي. إن تبني مفهوم التصميم الجماعي لا يساعد فقط على التغلب على الفجوة بين مختلف الفنون والتخصصات، بل يفتح الباب لإبداعات حقيقية تلبي احتياجات المجتمعات وتُسهم في تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية.

الجمعة، مارس 21، 2025

رؤيتي المعمارية

 

منزل أسامة الفرجاني- طرابلس

جمال الهمالي اللافي

        أسعى إلى تقديم رؤية معمارية إسلامية ليبية معاصرة ترتكز على إعادة إحياء العلاقة التكاملية بين المعماري الليبي والحرفي، ليس فقط كمتعاونين، بل كجزء من منظومة إبداعية شاملة. تهدف هذه الرؤية إلى إنتاج عمارة ليبية ذات بُعد مادي وروحي، تستجيب بمرونة لحاجات المجتمع الليبي المعاصر، مع الاستفادة الذكية من التقنيات الحديثة وتطويعها لصياغة بيئة عمرانية مستدامة ومتوازنة.

تركز هذه الرؤية على:

  • التفاصيل المناخية: تطبيق حلول تصميمية مبتكرة تُراعي الظروف المناخية المحلية مثل الحرارة المرتفعة وتوفير التهوية الطبيعية.
  • التنوع الثقافي المحلي: استلهام التراث الحرفي والجماليات المحلية الليبية وإعادة تقديمها بطرق إبداعية تُبرز هوية المكان.
  • الموارد الاقتصادية: الاعتماد على استخدام مواد محلية مستدامة ومنخفضة التكلفة، مما يُعزز الاقتصاد المحلي ويُشجع التنمية المستدامة.
  • المساحات المجتمعية: تصميم مساحات تعزز من التفاعل الاجتماعي، وتقوي الروابط بين أفراد المجتمع الليبي.

بالإضافة إلى ذلك:

  • التوجه الفلسفي للعمارة: تنطلق رؤيتي من قناعة بأن العمارة ليست مجرد بناء مادي، بل هي أداة للتعبير الثقافي ولإحداث تغيير إيجابي يعكس قيم المجتمع وهويته.
  • الاستدامة البيئية: أؤمن بأن العمارة يجب أن تلعب دوراً فعالاً في حماية البيئة من خلال تطبيق حلول تصميمية تعتمد على الطاقة المتجددة وتقليل الأثر البيئي.
  • العمارة التشاركية: أتبنى نهجاً معمارياً يُشرك أفراد المجتمع في مراحل التصميم والبناء، مما يعزز ارتباطهم بالمكان ويضمن تلبية احتياجاتهم الفعلية.
  • الإبداع التقني: أطمح إلى الاستفادة من التقنيات الحديثة لابتكار تجارب معمارية تفاعلية تُلبي تطلعات المستقبل وتتماشى مع الروح المعاصرة.
  • رؤية تعليمية: أضع ضمن أهدافي نقل المعرفة والخبرات المعمارية والحرفية إلى الأجيال القادمة، لضمان استمرارية الهوية الثقافية المحلية وإلهام المصممين الشباب.

الشكل ينبع من الوظيفة العاطفية

 حين سُئلت الكاتبة " إيلين غولد " عن إحدى أمنياتها الكبرى، أجابت: “أريد أن أبني بيتًا، لا يرغب ساكنوه في الهروب منه.”

تكمن حكمة هذه الإجابة في التعبير عن مفهوم “البيت” كرمز للسكينة والأمان، لا كمجرد مجموعة من الغرف المستطيلة والمساحات المزخرفة أو التجهيزات العصرية.

الإنسان بحاجة إلى أن يتحرر من العقلية التي تقدّس المظاهر، وأن يبدأ في النظر إلى الأمور من جوهرها الحقيقي. عليه أن يدرك أن البيت، الذي من المفترض أن يحميه من العواصف، لا ينبغي أن يكون هو ذاته مصدر العاصفة.

الخميس، مارس 20، 2025

للواجهة قناع: دعوة لتحرير طرابلس من فوضى العمران


        دار هذا الحوار المثري بيني وبين أستاذي العزيز أحمد انبيص (رحمه الله وغفر له)، منذ عدة سنوات، ذكّرني بها الفيسبوك اليوم، حيث تناولنا فيه قبساً من موضوع شغل تفكيره وكان دائم الحديث عنه، ألا وهو دور واجهات المباني في صياغة هوية المدينة، ومسؤولية الجميع في الحفاظ على الفضاء العام
. أحببت اليوم أن أحيي ذكراه في نفوس كل من تتلمذ على يديه بقسم العمارة والتخطيط العمراني بجامعة طرابلس.

الأستاذ أحمد انبيص: "للواجهة قناع" كان العنوان الذي استوحيتُه من الملامح المعمارية التي ميزت المدينة الإيطالية "طرابلس". خذ على سبيل المثال شارع الرشيد في سوق الحوت؛ المباني هناك تبرز واجهات تشبه القناع، مؤلفة من أقواس ذات أعمدة قصيرة مكررة بإيقاع منتظم وعدد فردي، تتوسطه مدخلٌ واضحٌ في منتصف كتلة المبنى. إنها صيغة معمارية ظاهرة أيضًا في واجهات شوارع عمر المختار، الاستقلال، وحتى مبنى الخارجية. والسؤال هنا: هل يجب أن يساهم المبنى في صياغة ملامح المدينة؟ وأن يأخذ مقياسها، لتصبح واجهته ملكًا للشارع وللناس، لا ملكًا لصاحب المبنى؟ للأسف، نرى عكس ذلك كما هو الحال في شارع عمر المختار أمام مستشفى الأطفال، حيث لم يعد الرصيف أو الفضاء العام ملكًا للجميع، بل أصبح تحت سيطرة المالك.

جمال الهمالي اللافي: قبلتُ دعوتك يا أستاذ أحمد واستوعبت فكرتك، لكني لم أفهم تصرف مالك العمارة القريبة من مستشفى الجلاء سابقًا. ربما تكون هذه مسألة قانونية تحتاج لتدخل الدولة، لتحديد حدود ملكيته وسيطرته على الموقع. فالفكرة التي طرحتها حول ضرورة أن يتحول الرواق الموجود في أي عمارة إلى ملكية عامة، فكرة تستحق التأمل. ولكن ما فائدة هذا الطرح إن لم تتدخل الدولة بفرض سيطرتها على هذه الحيزات لصالح الاستخدام العام؟

الأستاذ أحمد انبيص: لا أقصد مبنى بعينه، لكننا نتحدث عن أمثلة متعددة، مثل المباني التي تبدأ من بعد محطة البنزين في شارع عمر المختار، حيث احتلت كل الشارع والفضاء العام دون أي احترام للمحيط أو سكان المدينة. هذه أمثلة تجرنا إلى مناقشات أوسع حول مسؤولية الجميع. إنها دعوة لتحرير المدينة مرة أخرى.

جمال الهمالي اللافي:  أتفق تمامًا مع طرحك يا أستاذ أحمد. تحديد حدود المسؤولية، سواء للدولة، للملاك، أو للمواطنين، هو ما يقود إلى التوازن بين الحقوق والواجبات. هذا النظام يخلق استقرارًا وازدهارًا ويُنهي الفوضى والصراعات. تحديد مركز لكل منطقة سكنية وإعادة التخطيط العمراني بما يُخصص فضاءات عامة مثل الرواق، سيخلق بيئة أكثر تنظيماً وراحة. ولكن هل يتحمل الجميع مسؤولياتهم تجاه قرارات مثل هذه؟

الأستاذ أحمد انبيص: هذا يقودنا إلى فكرة المسؤولية المشتركة؛ أن المواطن يُسائل نفسه دائمًا عمّا يحدث حوله، يطرح الحلول ويشارك فيها. فالمدينة لنا جميعاً، وليس لأحد الحق في العبث بمخططها أو حرمان أهلها من فضاءاتها العامة.

جمال الهمالي اللافي : نعم يا أستاذ أحمد، فتحديد دوائر المسؤولية يدفع الجميع لتحمل أدوارهم. هذا التعاون هو ما يخلق النظام ويُسهم في تحقيق نهضة عمرانية شاملة. التخصيص الرشيد للحيز العمراني لصالح الناس هو جزء من مسؤولية مشتركة بين الملاك، المستخدمين، والدولة.

خاتمة:  هذا الحوار الثري يطرح قضية بالغة الأهمية تتعلق بحقوق الفضاء العام ومسؤولية كل الأطراف في الحفاظ على المدينة، ويُبرز الحاجة لتفعيل دور الدولة والمجتمع في تعزيز قيمة الفضاءات المشتركة.

الأربعاء، نوفمبر 06، 2024

من ماضي ذاكرتي المعمارية

 


في فترة التسعينيات، بدأت أُعبّر كتابةً عن الصراعات الفكرية التي كانت تدور في داخلي بشأن النهج والتوجه المعماري الذي ينبغي عليّ تبنيه في مسيرتي المهنية، خاصة في ظل حالة الاغتراب التي يعاني منها المجتمع. كانت هذه الأفكار تظهر في شكل سلسلة من الخواطر المعمارية، التي كنت أدوّنها على الورق نفسه الذي أصمم عليه اسكتشات أفكاري لخرائط أحد القاصدين لطلب خدماتي.

بعد أن بدأت أستخدم جهاز الكمبيوتر للكتابة مباشرة، قمت بطباعة هذه الخواطر وجمعتها في ملف أسميته "إبحار في متون الوعي"، حيث أدرجت مقدمة تعبر عن تلك السلسلة:

"إبحارٌ... في متون الوعي" هي محاولة لإيقاظ ذهني الغافي، والإبحار به على سفينة الوعي، لعلي أدرك حقيقة ذاتي واتفهم أدواري في هذه الحياة، وأحدد مكاني في هذا المحيط المجهول، الشاسع والمبهم، الذي أطلق عليه اسم الوجود. عساي أكون نقطة فاعلة ومؤثرة فيه، وأمنح لحياتي العابر معنى وقيمة.

جعلت لتلك الخواطر المعمارية تحديداً عنواناً فرعياً ضمنته فلسفتي الخاصة في العمارة تحت عنوان "قراءة في فلسفة العمارة"، ذلك أن فلسفة العمارة ليست مجرد مجموعة من القواعد والتقنيات، بل هي تأمل عميق في العلاقة بين الإنسان والمكان، وبين الشكل والوظيفة. العمارة، وهي تجسيد ينعكس فيه الإبداع البشري، تعكس ثقافات وحضارات متعددة، وتروي قصص المجتمعات التي أنشأتها.

عندما نتحدث عن فلسفة العمارة، يجب علينا أن نتطرق إلى مفهوم الجمال. هل الجمال هو مجرد تناغم في الأشكال والألوان، أم أنه يرتبط أيضًا بالراحة النفسية والوظيفية للمستخدمين؟ العمارة الجيدة تتجاوز الشكل الخارجي، لتشكل تجربة حياة متكاملة تعزز من جودة الحياة.

علاوة على ذلك، فلسفة العمارة تتعلق أيضًا بالاستدامة. في عالم يتصارع مع تحديات التغير المناخي والموارد المحدودة، يصبح واجب المعماريين تصميم مساحات تعكس الاحترام للبيئة وتؤكد على استخدام الموارد بشكل فعال. العمارة المستدامة ليست فقط واجهة خارجية، بل هي فلسفة تعيش وتنمو مع الزمن.

وأخيراً، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار بعد الزمن في عملية التصميم. العمارة ليست ثابتة، بل هي كائن حي يتحول ويستجيب للتغيرات الاجتماعية والثقافية. كيف يمكن أن نتوقع أن تتفاعل المباني مع مستخدميها بعد عشرين أو ثلاثين عاماً؟ إن فهم هذا البعد الزمني يمنح المعماريين قدرة على الابتكار والتكيف مع احتياجات المجتمعات المتغيرة.

في النهاية، فلسفة العمارة ليست مجرد نظريات، بل هي استكشاف لروح الإنسانية وتجسيد لمفاهيم الحب، والصدق، والجمال، والاستدامة، مما يجعل العمارة إحدى أرقى الفنون التي تعبر عن وجودنا في هذا العالم.

سأعيد نشر بعض من تلك الخواطر المعمارية على فترات، وهذه واحدة منها:

قراءة في فلسفة العمارة

(إني خضت بحر العمران... فوجدته عميق الأغوار، تتقاذفني فيه تيارات شتى... فلم أر لنفسي النجاة، إلا بالتمسك بمرساة التاريخ والسباحة مع تيار الأصالة، حتى استطعت الوصول إلى شاطئ الأمان. ولو لم أفعل ذلك لرمتني إحدى التيارات الفكرية المتضاربة، على صخور التبعية والانقياد الأعمى، محولة فكري إلى أشلاء تنهشها حيتان الغربة الثقافية).

الأحد 24/4/1994 م.

تعقيب من هذا الزمن 6 نوفمبر 2024:

تاريخ العمارة هو مرشد لنا في هذه الرحلة؛ إنه هوية تنقلنا عبر الزمان والمكان، وتذكرنا بجذورنا الثقافية والمعرفية. عندما نتشبث بأصالتنا، نجد أن العمارة ليست مجرد بناء، بل هي تجسيد لروح المجتمعات وتاريخها. كل صرح معماري، كبر أو صغر في حجمه يعبر عن قصة، كل زاوية تحمل ذكريات وطرزًا تعكس رؤية كل جيل.

فقد علمتني هذه التجربة أن العمارة ليست زينةً أو مجرد تقنيات تُستخدم للبناء، بل هي منارة تنير الطريق أمام الأجيال المستقبلية، تعزز من شعور الانتماء والهوية. إن السباحة مع تيار الأصالة لا تعني التوقف عن التجديد، بل تعني دمج الفلسفات الفكرية والعصرية مع الجذور التاريخية والثقافية، ما يُمكّننا من خلق أماكن معاصرة تحمل في طياتها عبق القدم وتحديات الحاضر.

كان كل مقطع من هذه الخواطر يعكس عمق تفكيري وتفاعلي مع البيئة الاجتماعية والثقافية التي كنت أعيشها. كنت أسعى للبحث عن معاني جديدة للعمارة، تلك المعاني التي تعكس واقعَ المجتمع وتساعد في معالجة أغرب مشاكله من خلال التصميم المعماري. كنت أسأل نفسي: كيف يمكنني كمُصمم أن أعبّر عن الهوية الحقيقية لمكانٍ ما؟ كيف يمكنني أن أخلق فضاءاتً ليس فقط لتلبية الاحتياجات المادية، ولكن أيضًا لتعزيز الروابط الإنسانية وإعادة تشكيل نسيج المجتمع؟

كانت هذه التساؤلات تمثل دافعاً لي للبحث والتفحص، وكانت النتائج في كثير من الأحيان تشكل مصدر إلهام لأفكاري التصميمية. إن هذه الخواطر كانت رحلة داخلية للبحث عن الإجابات، وليست مجرد تعريفات نظرية بحتة.

 

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...