تأملات في المعمار حين تهتز الأرض تحت أقدام الشعوب
جمال الهمالي اللافي
حين
تتعرض الشعوب لتحولات جسام- ثورات، انقلابات، حروب أهلية-لا تتغير الأنظمة فقط، بل
تتغير المدن. فبعضها ينهض من ركامه،
يبني نفسه بسواعد أبنائه، ويستعيد توازنه رغم العصف. وبعضها ينقلب على ذاته، يقتتل أهله فيما بينهم، فيتحول الفضاء العام
إلى ساحة خصام لا ساحة بناء. وبعضها ينمّي مقوماته على
حساب غيره، يحتكر الموارد، ويُضعف الأطراف ليقوى المركز. وبعضها ينفلت من كل قيد، فينهب، ويعتدي، ويحوّل المعمار إلى غنيمة. وبعضها يجعل من الفوضى غاية لا وسيلة، ويُبقي الحاضر معلقًا كي لا
يُبنى المستقبل. وبعضها يتغطرس على غيره
دون أن يملك ما يتغطرس به، متمسكًا بماضٍ لم ينفعه، ورافضًا أن يكون جزءًا من
التحول. وبعضها ينتظر من الدولة ما
تدّعي فقدانه، رغم أنها تملك أدوات النهوض، لكنها تؤثر الغياب، لا العجز.
هذه ليست أوصافًا لمدن بعينها، بل أنماط تتكرر في
كل مكان، كلما اهتزت الأرض تحت أقدام الشعوب. وما يُقرأ في السياسة والاجتماع، يُرى بوضوح في المعمار، حيث يصبح
البناء مرآة للوعي، لا مجرد جدران.
(إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) – الرعد: 11
مدن تنهش
ذاتها
حين
يتحول الفضاء العمراني إلى ساحة اقتتال داخلي، لا يبقى للمعمار سوى أن يتراجع. لا
تُبنى الساحات، بل تُغلق. لا تُرسم المخططات، بل تُلغى. المعمار هنا لا يُنتج، بل
يُعاقب.
مدن تبني
على إضعاف غيرها
ثمة مدن
تطوّر مقوماتها، لكنها تفعل ذلك عبر احتكار الموارد، أو سحب الكفاءات، أو تعطيل
إمكانات غيرها. المعمار فيها يبدو مزدهرًا، لكنه قائم على اختلال التوازن، لا على
عدالة التوزيع.
مدن تنهب
لا تبني
حين
يتحول المعمار إلى غنيمة، يُفقد معناه. البناء العشوائي، التعدي على الأملاك،
تحويل الفضاءات إلى مناطق مغلقة... كلها صور لمعمار لا يُبنى من حاجة، بل من طمع.
مدن
تُبقي الفوضى قائمة
بعض
المدن لا تسعى إلى الاستقرار، بل إلى تعطيله. المعمار فيها لا يُستخدم لتأمين
الحياة، بل لتشويشها. مشاريع متوقفة، تغييرات متكررة، غياب للهوية البصرية... وكأن
المعمار صار أداة تعطيل لا بناء.
مدن
تتغطرس بلا أساس
التمسك
بالمظاهر لا يمنح المدينة قوة، بل يُبقيها خارج الزمن. المعمار هنا يُستخدم كقناع،
لا كهوية. رموز تُعاد إنتاجها دون وعي، ورفض لأي مشروع لا يُشبه الماضي، حتى لو لم
يكن الماضي نافعًا.
مدن
تنتظر ولا تبادر
المدن
التي تنتظر التفاتة من مؤسسات غائبة، لا تبني نفسها. المعمار فيها معلّق، ينتظر
قرارًا أو ميزانية أو وعدًا. لا مبادرة، لا تخطيط، لا فعل... فقط انتظار.
خاتمة:
المعمار لا يُبنى بالخرسانة وحدها
المدن لا
تنهض بالمباني، بل بالأفكار التي تُنتجها. وما لم يتغير ما بالنفوس، سيبقى المعمار
شاهدًا على التكرار، لا على التقدم. النهوض المعماري يبدأ من الوعي، من المصالحة،
من الاعتراف بأن المعمار ليس زينة، بل شهادة على من نحن.
ولعل
القارئ يرى في مدينته، أو في ذاكرة شعبه، ما يشبه هذه الصور، أو ما يناقضها.
فالمعمار لا يكذب، لكنه لا يتكلم إلا حين يُصغى إليه.
.webp)







