أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

‏إظهار الرسائل ذات التسميات تأملات في المعمار. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات تأملات في المعمار. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، أكتوبر 17، 2025

الهُوية المعمارية: من حضور المادة إلى حضور المعنى

العمارة ليست استجابة تقنية، بل فعلٌ ثقافيٌ يُعبّر عن الذات الجماعية

تفصيل داخلي يُجسّد حضور الهُوية في أبسط عناصرها: حديدٌ أخضر مزخرف، أصصٌ فخارية، ونظرةٌ معمارية لا تُستعرض بل تُفصح عن نفسها بهدوء.

جمال الهمالي اللافي

مواد البناء وتقنيات الإنشاء تتغير وتتطور أو تبقى على حالها لا فرق. أما الهُوية المعمارية التي تعكس ثقافة وخصوصية أمة وشعب ومنطقة فراسخة في البنيان، لا يعيبها تجدد مواد البناء أو اختلاف طرق الإنشاء. في اعتقادي وجب فهم هذه النقطة والوعي بها وعياً متجذراً في العقل والوجدان.

هذا الوعي ليس ترفًا فكريًا، بل شرطٌ أساسيٌ لفهم العمارة بوصفها خطابًا ثقافيًا لا مجرد ممارسة تقنية. فحين تُختزل العمارة في أدواتها، تُفقد قدرتها على التعبير، وتتحول إلى قشرة وظيفية بلا روح. أما حين تُستوعب الهُوية بوصفها جوهرًا متجذرًا، فإن كل مادة، مهما كانت حداثتها، تصبح قادرة على حمل المعنى، إن وُظّفت بصدق.

الهُوية المعمارية لا تُقاس بنوع الطوب أو شكل النوافذ، بل تُقاس بقدرتها على استدعاء الذاكرة، على محاورة المكان، على احترام الإنسان الذي يسكنها. إنها ليست استنساخًا للماضي، ولا انبهارًا بالمستقبل، بل موقفٌ نقديٌ من الحاضر، يُوازن بين الوفاء للجذور والانفتاح على العصر.

في زمنٍ تتسارع فيه التقنيات وتُستورد فيه النماذج، لا يكون التمسك بالهُوية انغلاقًا، بل فعلًا واعيًا. إنه موقفٌ فاعل، لا ردّ فعل. ليس رفضًا للآخر، بل تأكيدًا للذات. اختيارٌ نابع من إدراك عميق لما يُشبهنا، وما يُعبّر عنا، لا انجرارًا وراء أنماط مستوردة تُفرغ البنيان من روحه.

الهُوية المعمارية لا تُدافع عن نفسها، بل تُعلن حضورها. لا تُقاوم الذوبان، بل تُفصح عن خصوصيتها بثقة، وتُعيد تشكيل السياق بما يليق بها. إنها ليست في موقع ضعف، بل في موقع تحديد المعايير، حين يُحسن المعماري الإصغاء للذاكرة، والبيئة، والناس.

المواد تتغير، والتقنيات تتطور، لكن هذه كلها أدوات في يد المعماري، وليست محددات للهُوية. يمكن للخرسانة أن تحمل روح الطين، ويمكن للزجاج أن يعكس دفء الحجر، إن وُظّفت بوعي سياقي. فالهُوية لا تُقاس بنوع المادة، بل بقدرتها على التعبير عن الإنسان والمكان والزمان.

الهُوية لا تعني التكرار الذي يُفرغ العمارة من معناها، بل تعني التمايز. أن يكون للبنيان لهجة، وللجدار ذاكرة، وللنافذة نظرة تُشبه أهل المكان. إنها ليست استنساخًا للماضي، ولا انبهارًا بالمستقبل، بل موقفٌ نقديٌ من الحاضر، يُعيد تعريف العلاقة بين الشكل والمعنى.

إن فهم هذه النقطة لا يقتصر على المعماري وحده، بل هو مسؤولية جماعية: من صانع القرار إلى المواطن، من الأكاديمي إلى الحرفي. لأن العمارة، في جوهرها، مرآةٌ للوعي الجمعي، لا مجرد منتج فردي.

خاتمة

فليكن وعينا بالهُوية المعمارية متجذرًا، لا عاطفيًا. متزنًا، لا انفعاليًا. وليكن البناء فعلًا ثقافيًا بامتياز، لا مجرد استجابة لحاجة وظيفية. فالهُوية لا تُستحضر من خارج السياق، بل تُولد من داخله، حين يُصغي المعماري للناس والمكان والزمن،  لا للموضة أو السوق.


الخميس، أكتوبر 16، 2025

العمارة العصبية: حين يتكلم الفراغ بلغة الدماغ

 قراءة في البرمجة المعمارية العصبية وامكانيات تطبيقاتها الليبية


 جمال الهمالي اللافي

الافتتاحية: من منشور إلى فضول إلى بحث

في صباح الأمس، شارك د. إبراهيم الأصيفر على صفحته منشورًا لافتًا حول ما يُعرف بـ"العمارة العصبية" (Neuroarchitecture)، حيث كتب:

"حين ندخل مكانًا ونشعر بالراحة أو التوتر، السعادة أو الانزعاج، دون سبب واضح، فذلك ليس صدفة.
الأماكن تتحدث مع أدمغتنا بلغة لا نسمعها، لكننا نحسّها.
هذه هي لغة العمارة العصبية، حيث التصميم يتحول من شكل إلى شعور وإحساس، ومن ثم حالة نفسية."

وقد دفعني هذا الطرح إلى إعادة التفكير في العلاقة بين التصميم المعماري والمستعمل، لا بوصفها علاقة وظيفية أو جمالية فقط، بل علاقة عصبية عميقة. شاركت المنشور على صفحتي، ثم تواصلت مع المساعد الذكي "كوبيلوت" لاستكشاف هذا المجال الذي يربط بين البرمجة المعمارية وآليات عمل الدماغ.

العمارة العصبية: من علم الأعصاب إلى التصميم

العمارة العصبية هي تخصص بيني يجمع بين علم الأعصاب والعمارة، ويهدف إلى فهم كيف تؤثر البيئة المبنية على الدماغ البشري من حيث:

  • الانفعالات النفسية: مثل الراحة، التوتر، الطمأنينة، الانزعاج.
  • الوظائف الإدراكية: التركيز، الانتباه، الذاكرة.
  • الاستجابات الفسيولوجية: مثل معدل ضربات القلب، التنفس، إفراز الكورتيزول.

وفق دراسة منشورة في مجلة الفنون والعلوم التطبيقية (2024)، فإن الفراغات المعمارية تؤثر على الإنسان منذ اللحظة الأولى للدخول، عبر عمليات إدراكية وفسيولوجية لا شعورية، مما يجعل التصميم الداخلي أداة عصبية تؤثر على الصحة النفسية والرفاهية.

أمثلة معمارية تنطبق عليها المفاهيم العصبية

  • مركز سالك للأبحاث (Salk Institute) في كاليفورنيا: تصميمه يخلق شعورًا بالانفتاح والسكينة، ويُستخدم كمثال في دراسات العمارة العصبية.
  • مستشفى ماجيز (Maggie’s Centres) في بريطانيا: تعتمد على تصميمات تقلل التوتر وتدعم التعافي النفسي.
  • مكتبة بيركلي العامة: توظيف الضوء الطبيعي والمواد العضوية لتحفيز التركيز والراحة.

هذه الأمثلة تُظهر كيف يمكن للعمارة أن تكون علاجًا، لا مجرد مأوى.

 

نحو تطبيق العمارة العصبية في السياق الليبي

في ليبيا، حيث تتشابك العمارة مع الهوية والذاكرة ومواجهة الاستلاب الحضاري، يمكن للعمارة العصبية أن تكون أداة لإعادة بناء العلاقة بين الإنسان والمكان. كيف؟

  • إعادة التفكير في البرمجة المعمارية: بحيث لا تُبنى الفراغات على الوظيفة فقط، بل على الاستجابة العصبية للمستعمل.
  • توظيف المواد المحلية: التي ترتبط بالذاكرة الجمعية وتخلق شعورًا بالانتماء.
  • تصميم فراغات عامة: تراعي الإيقاع العصبي للإنسان الليبي، من حيث الضوء، الصوت، التوزيع، والرمزية.

يمكن أن تكون هذه المقاربة مدخلًا لنقد المشاريع المعمارية التي فشلت في احتضان الإنسان، رغم ضخامتها أو حداثتها الشكلية.

خاتمة

العمارة ليست صامتة. إنها تتكلم، تشتكي، تفرح، وتغضب. وما العمارة العصبية إلا محاولة لفهم هذه اللغة الخفية التي يتحدث بها المكان إلى الدماغ. في السياق الليبي، حيث العمارة ليست مجرد بناء بل خطاب، فإن فهم هذه اللغة قد يكون خطوة نحو تصميم أكثر صدقًا، أكثر إنسانية، وأكثر قدرة على احتضان الذات الجمعية.

الأحد، أكتوبر 12، 2025

نحو بيئة عمرانية متوازنة في المدن الليبية

رؤية نقدية لتفكيك المركزية وتفعيل المجتمعات المحلية في تشكيل المشهد العمراني الليبي


جمال الهمالي اللافي

مدخل

ليست المدن الليبية في حاجة إلى المزيد من المخططات المركزية، بل إلى إعادة التفكير في علاقتها بسكانها. فالبيئة العمرانية، بما تحمله من تفاصيل مادية ورمزية، لا تُبنى فقط بالإسمنت والحجر، بل بالوعي الذي يربط الإنسان بالمكان. في ظل غياب الرؤية المحلية، وتراكم القرارات الفوقية، يتشكل مشهد حضري لا يُعبّر عن الناس، ولا يستجيب لاحتياجاتهم، ولا يحترم خصوصياتهم الثقافية. ما يُفتقد ليس التصميم، بل الرؤية. وما يُشوَّه ليس الواجهة، بل العلاقة بين الإنسان والمحيط.

أين الخلل؟

  • مركزية التخطيط التي تُقصي المجتمعات المحلية.
  • غياب الهوية البصرية المشتركة بين المدن.
  • تدهور الفراغات العامة وتحولها إلى فضاءات مهملة أو تجارية عشوائية.
  • ضعف المشاركة المجتمعية في اتخاذ القرار العمراني.

هذا المقال لا يقدّم حلولًا جاهزة، بل يطرح رؤية تستوعب الواقع، وتعيد الاعتبار للمجتمعات المحلية كفاعل حضري، وتفكك المركزية الإدارية التي عطّلت قدرة المدن على التنفس.

أولًا: المدينة ليست منتجًا إداريًا

المدينة ليست مشروعًا هندسيًا يُدار من مكتب مركزي، بل كيان حيّ يتشكّل من تفاعل الناس مع المكان. حين يُختزل التخطيط في قرارات فوقية، تُفقد المدينة قدرتها على التعبير عن ذاتها، وتتحول إلى واجهة مشوّهة، لا تنتمي لمن يسكنها.

ثانيًا: المجتمعات المحلية كفاعل حضري

تحسين البيئة العمرانية لا يبدأ من المخطط، بل من الوعي المحلي. حين يُمنح السكان حق التفكير في محيطهم، تتغير طبيعة التدخلات العمرانية. المجالس المحلية، والمكاتب الهندسية، والمؤسسات التعليمية، يمكن أن تشكّل نواة فعل حضري متكامل، إذا ما أُعيد لها الاعتبار، وأُزيلت عنها القيود الإدارية.

ثالثًا: البيئة العمرانية كمرآة للهوية

المدن الليبية، في تنوعها، تحمل ملامح ثقافية غنية، تتراوح بين الطابع الإسلامي، والمتوسطي، والصحراوي، والجبلي. لكن هذه الخصوصيات غالبًا ما تُهمَل في التصاميم المعمارية، لصالح نماذج مستوردة، لا تنتمي للمكان.

في هذا السياق، لا يكون التحسين الحضري مشروعًا رسميًا، بل فعلًا مجتمعيًا، يبدأ من الممكن، لا من المثالي. وهذه بعض المقترحات العملية، القابلة للتطبيق حتى في غياب الدعم المؤسسي:

1.      تفعيل المبادرات المجتمعية الصغيرة

  • فرق تطوعية لتنظيف وصيانة الفراغات العامة.
  • أيام عمل جماعي تُعيد الاعتبار للمكان.
  • إشراك المدارس والمساجد كمراكز تنسيق محلية.

2.      تحسين الواجهة البصرية بوسائل بسيطة

  • توحيد الألوان بما يعكس رمزية ثقافية أو يبرز مادة البناء المحلية.
  • إزالة الإعلانات العشوائية، واستبدالها بلوحات توجيهية مصممة محليًا.
  • استخدام النباتات المحلية لتأطير الفراغات.

3.      إعادة تأثيث الفراغات العامة بمواد محلية

  • تحويل المساحات المهملة إلى ساحات تفاعل.
  • تثبيت عناصر تُشير إلى هوية المكان.
  • استخدام مواد محلية في التأثيث الحضري.

4.      تنظيم النشاط التجاري بشكل تلقائي

  • توحيد واجهات العرض وتقنين استخدام الأرصفة.
  • تخصيص أيام لنشاطات شعبية.
  • دعم الحرفيين المحليين في عرض منتجاتهم.

5.      حماية المعالم التاريخية والطبيعية

  • توثيق رقمي للمعالم.
  • لافتات تعريفية تُبرز القيمة.
  • التوعية المجتمعية كوسيلة حماية.

6.      بناء شبكات تنسيق غير رسمية

  • ربط الحيّ بمكاتب هندسية مستقلة.
  • التعاون مع جمعيات ثقافية وبيئية.
  • نشر التجارب عبر وسائل التواصل.

هذه المقترحات لا تدّعي الكمال، لكنها تُعيد للحيّ قدرته على التنفس، وتحوّل الفعل العمراني من انتظار إلى مبادرة.

رابعًا: المقترح التنشيطي للمجمعات المحلية

ضمن هذا التصور، يمكن اقتراح آلية تنشيطية للمجمعات المحلية، لا تُقدَّم كمشروع مركزي، بل كمبادرة داخلية.
تقوم الفكرة على تخصيص مواقع محددة في كل منطقة، تُعاد دراستها حضريًا، وتُطوَّر من خلال مساهمة المكاتب الهندسية المحلية، بالتنسيق مع المجالس البلدية، وبدعم من المؤسسات التعليمية والمجتمعية.
لا تُطرح هذه المبادرة كمسابقة، بل كفعل تحفيزي، يُمنح فيه الحيّ فرصة لإعادة تشكيل صورته، وفق اشتراطات بسيطة، قابلة للتنفيذ، وتُقيَّم بناءً على أثرها الفعلي، لا على شكلها الخارجي.

خامسًا: نحو نموذج حضري غير مركزي

ما يُقترح هنا ليس بديلاً عن التخطيط الرسمي، بل مكمل له، يُعيد التوازن بين المركز والمحيط. المدن الليبية لا تحتاج إلى المزيد من المشاريع الكبرى، بل إلى نماذج صغيرة، متكاملة، تُبنى من الداخل، وتُدار من قبل من يعرفها.

الخاتمة

تحسين البيئة العمرانية ليس مهمة هندسية فقط، بل مسؤولية ثقافية واجتماعية. والمجتمعات المحلية، إن مُنحت المساحة، قادرة على صياغة مدنها من جديد، دون حاجة إلى مركز يُملي، أو جهة تُصنّف.
ما يُطرح هنا ليس وصفة جاهزة، بل دعوة للتفكير في المدينة ككائن حيّ، يتشكل من الوعي، ويتنفس حين يُحترم، ويختنق حين يُهمَل.

الثلاثاء، أكتوبر 07، 2025

الزي التقليدي: حرفة تصوغ الانتماء وتوثّق الهوية

 حين تُخاط الهوية بالإبرة والخيط



جمال الهمالي اللافي

في زمن تتكاثر فيه الأزياء المستوردة وتُختزل الهوية في المناسبات، وتتسارع فيه أنماط الاستهلاك وتُستورد الرموز جاهزة من وراء البحار، يظل الزي التقليدي الليبي أحد أكثر التعبيرات صدقًا عن الهوية الثقافية، وشاهدًا حيًا على تنوع المجتمع وعمق انتمائه. إنه ليس مجرد لباس، بل حرفة متجذرة في الوجدان، تُنسج بخيوط الذاكرة، وتُطرّز فيها ملامح الوطن، وتُخاط على مقاس البيئة والناس. هذا النص محاولة لتأمل قيمة الزي الوطني، لا بوصفه موروثًا يُحتفى به، بل مشروعًا ثقافيًا واقتصاديًا يستحق أن يُبنى عليه.

الحرفة كذاكرة حية

خياطة الزي التقليدي ليست عملية تقنية فحسب، بل هي فعل ثقافي. الحرفيون الذين يتقنون هذه الصناعة لا ينقلون مهارة فقط، بل ينقلون ذائقة، ورؤية، ووعيًا متراكمًا. وكل غرزة في الثوب تحمل أثر اليد التي صنعتها، وخصوصية المكان الذي نشأت فيه. ولهذا، فإن استيراد هذه الأزياء جاهزة من مصانع خارجية يُفقدها معناها، ويحوّلها إلى قشرة بلا روح.

مدرسة ومتحف: من الحفظ إلى التفعيل

إنشاء مدرسة وطنية لحرفة الزي التقليدي ليس ترفًا، بل ضرورة ثقافية. مدرسة تُدرّس فيها تقنيات الخياطة والتطريز والصباغة، وتُوثّق فيها أنماط الأزياء الليبية المتنوعة، وتُمنح فيها الحرفة مكانتها الأكاديمية والمهنية. هذه المدرسة ستكون حاضنة للجيل الجديد من الحرفيين، وضمانًا لاستمرار الحرفة في وجه الاستلاب الصناعي.

أما المتحف، فهو ليس مجرد فضاء للعرض، بل منصة للتوثيق والتأمل. متحف يُبرز تنوع الأزياء الليبية، ويُظهر كيف أن كل زي هو مرآة لمجتمع، وطقس، وموقف. متحف يُعيد الاعتبار للزي كوثيقة بصرية، ويمنح الزائرين فرصة لفهم ليبيا من خلال خيوطها وألوانها.

الورش والمصانع: من الحرفة إلى الاقتصاد

دعم الورش المحلية والمصانع الوطنية التي تنتج هذه الأزياء وفقًا للمعايير التقليدية، يُحوّل الحرفة من هامشية إلى مركزية. إنه استثمار في الاقتصاد الثقافي، وفي خلق فرص عمل ترتبط بالهوية لا تنفصل عنها. حين يُخاط الزي على يد أهل المنطقة، يُصبح امتدادًا للذاكرة، لا منتجًا معلبًا.

الزي كأداة مقاومة

في وجه التغريب البصري، يُصبح الزي التقليدي أداة مقاومة ناعمة. حين يرتديه المسؤولون، والمثقفون، والمواطنون، لا يُعلنون فقط انتماءهم، بل يُعيدون تشكيل الفضاء العام ليكون أكثر صدقًا، وأكثر ارتباطًا بالجذور. إنه فعل رمزي، لكنه عميق الأثر، يُعيد ترتيب الولاءات، ويُفعّل الذاكرة الجمعية.

الزي التقليدي ليس مجرد تراث يُحتفى به في المناسبات، بل هو مشروع ثقافي واقتصادي وتربوي، يُسهم في بناء وطن لا ينسى ملامحه، ولا يستورد رموزه، بل يصوغها من خيوط الحرفة، ووعي الناس، وصدق الانتماء.

الاثنين، أكتوبر 06، 2025

العمارة بين التخصص والتكامل: دعوة لإعادة بناء العقل التصميمي



جمال الهمالي اللافي

العمارة: علمٌ تطبيقي لا يُختزل في الفن

التصميم الداخلي، تنسيق المواقع، عناصر التأثيث، وحتى التصميم الصناعي، جميعها ولدت من رحم العمارة، وهي تمثل امتداداً وظيفياً وجمالياً لها، لا يمكن فصله عنها دون الإخلال بجوهر العملية التصميمية. فهذه المجالات ليست تخصصات مستقلة بالمعنى المهني، بل هي مراحل متلازمة ومتداخلة تجري في عقل المصمم، وتتم بسرعة وتكامل، منطلقة من فهمه العميق لمتطلبات التصميم واعتباراته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبيئية.

وفي هذا السياق، فإن الدعوة إلى إنشاء كلية مستقلة للعمارة وتخطيط المدن لا تنطلق من رغبة في الفصل الإداري عن كلية الهندسة، بل من قناعة بأن العمارة علم تطبيقي متكامل، يجمع بين الحس الفني والدراية العلمية الدقيقة. فالمعماري لا يصمم شكلاً جمالياً فحسب، بل يضع تصوراً وظيفياً متكاملاً لمبنى يجب أن يؤدي دوره بكفاءة عالية، ويستجيب لحاجات الإنسان والبيئة.

لذلك، فإن المواد المرتبطة بعلم الإنشاءات، وعلوم المواد، وأنظمة التكييف، والإضاءة، والصحية، وغيرها من العناصر التقنية، ليست إضافات ثانوية، بل هي جزء أصيل من تكوين المعماري. ويجب أن تُدرّس ضمن منهج كلية العمارة، لا أن تُترك لاختصاصات أخرى تفصل بين الشكل والوظيفة، وتُضعف من قدرة المعماري على اتخاذ قرارات تصميمية واعية وشاملة. فالمعماري الذي يُلم بهذه العلوم، يستطيع أن يدمجها ضمن رؤيته التصميمية، ويحقق بذلك التكامل المنشود بين الشكل والمضمون، بين الفكرة والتنفيذ، وبين الإنسان والمكان.

التشطيبات: مرحلة لا يُكتمل المبنى بدونها

إن نجاح أي مبنى لا يُقاس فقط بسلامة هيكله، بل بقدرته على تحقيق الانسجام بين الداخل والخارج، وبين الشكل والوظيفة، وبين الجمال والتأثير النفسي على مستخدميه. وهذا لا يتحقق إلا من خلال تكامل هذه التخصصات، التي تمثل جميعها المرحلة التالية لتنفيذ الهيكل، فيما يُعرف بمرحلة "التشطيبات". فالمبنى غير المكتمل تشطيباً، هو مبنى غير قابل للاستعمال الإنساني.

إشكالية الفصل الأكاديمي

لكن التعليم الأكاديمي المعاصر، بدلاً من أن يعزز هذا التكامل، عمد إلى تفكيك هذه المراحل وتحويلها إلى تخصصات دقيقة، بحجة تحسين الأداء والكفاءة. فصارت العمارة جزءاً من كليات الهندسة، والتصميم الداخلي من الفنون الجميلة، وتنسيق المواقع من الهندسة الزراعية، بينما غُيّب التصميم الصناعي تماماً عن خارطة التعليم العالي في بلادنا.

هذا الفصل انعكس سلباً على الممارسة المهنية، حيث خلق تضارباً في الاتجاهات التصميمية، واختلافاً في طرق التفكير، وأدى إلى قصور واضح في المنتج المعماري. فكم من مبنى يتحدث بلغات متعددة، يفتقر للهوية والانسجام، ويدفع ثمنه مالك المشروع والمجتمع معاً.

البعد التاريخي: حين كان المعماري مسؤولاً عن الكل

في مراحل تاريخية سابقة، لم يكن المعماري مجرد مصمم للكتلة، بل كان مسؤولاً عن كل تفاصيل المبنى، من توزيع الفراغات إلى اختيار المواد، ومن تنسيق الموقع إلى التأثيث الداخلي. العمارة الإسلامية، على سبيل المثال، لم تعرف الفصل بين التخصصات، بل كانت تعبيراً متكاملاً عن رؤية ثقافية ووظيفية وجمالية واحدة. وكان المعماري يُلم بالهندسة والبيئة والحرفة، ويُنتج مباني تنطق بلغة واحدة، مهما تعددت عناصرها.

أثر الفصل على الهوية البصرية للمدن

الفصل الأكاديمي لا يُنتج فقط مصممين متباينين، بل يُنتج مدناً بلا ملامح. حين يُصمم المعماري الكتلة دون أن يعي تفاصيل التأثيث أو تنسيق الموقع، وحين يُنفذ المصمم الداخلي رؤيته بمعزل عن السياق الخارجي، ينشأ التناقض. فتغيب الهوية، ويتحول المبنى إلى كيان مشوّش، لا يُعبّر عن بيئته ولا عن ساكنيه. وهذا ما نراه اليوم في كثير من المدن العربية: واجهات مستوردة، فراغات داخلية مغتربة، ومباني تتحدث بلغات لا يفهمها أحد.

نقد فلسفة التخصص الدقيق

الفلسفة التي دفعت نحو التخصص الدقيق في التعليم، وإن بدت عقلانية من حيث التنظيم، إلا أنها عزلت المعرفة عن سياقها، وحوّلت المصمم إلى منفّذ تقني. فالمعماري الذي لا يعي أثر الإضاءة أو التكييف على تجربة المستخدم، يفقد قدرته على اتخاذ قرارات تصميمية واعية. والمصمم الداخلي الذي لا يعي منطق الكتلة المعمارية، يُنتج فراغاً لا ينسجم مع المبنى. وهكذا، يتحول التعليم إلى تفكيك للعقل التصميمي، لا إلى بنائه.

اقتراحات منهجية للتكامل

لإعادة بناء هذا العقل، لا يكفي الدمج الإداري، بل يجب إعادة صياغة المنهج. يمكن أن يشمل ذلك:

  • مقررات مشتركة بين التخصصات، تُدرّس من منظور تكاملي.
  • مشاريع تصميمية جماعية، تجمع طلاب العمارة والتصميم الداخلي وتنسيق المواقع في فريق واحد.
  • آليات تقييم تعتمد على الانسجام التصميمي للمبنى ككل، لا على كفاءة كل تخصص بمعزل.
  • تدريب ميداني يُشرف عليه معماريون ومصممون يعملون ضمن فرق متكاملة، لا منفصلة.

مبنى واحد... أربع لغات، بلا هوية

حين يُنفّذ كل تخصص تصميمه بمعزل عن التخصصات الأخرى، يتحول المبنى الواحد إلى ساحة تضارب بين رؤى غير منسجمة. فالمعماري يرسم الكتلة وفق منطق هندسي أو رمزي، دون أن يعي كيف ستُستخدم داخلياً. والمصمم الداخلي يُعيد تشكيل الفراغات وفق اعتبارات جمالية أو وظيفية لا تتوافق مع منطق الكتلة. ومصمم الموقع الخارجي يضع عناصره دون إدراك العلاقة البصرية أو الحركية مع الداخل. أما التأثيث، فيأتي كطبقة مستقلة، لا تنتمي لأي منطق تصميمي سابق.

النتيجة: مبنى واحد يتحدث بأربع لغات متنافرة. لا يحمل هوية واضحة، ولا يُعبّر عن رؤية موحدة. تتضارب فيه المواد والألوان والفراغات، وتغيب عنه العلاقة العضوية بين الداخل والخارج، بين الإنسان والمكان، وبين الوظيفة والشكل. وهو ما نراه اليوم في كثير من المشاريع المعاصرة: مبانٍ تفتقر للوضوح، تُربك المستخدم، وتُضعف من أثرها الثقافي والجمالي.

هذا التنافر ليس خللاً شكلياً فحسب، بل هو انعكاس لفشل المنظومة التعليمية والمهنية في بناء عقل تصميمي قادر على التفكير التكاملي. وما لم يُعاد الاعتبار لهذا العقل، ستظل المباني تُنتج كجزر معزولة، لا ككائنات حية تنبض بلغة واحدة.

دعوة لإعادة الدمج

إن الحاجة ملحة لإعادة التوفيق بين هذه التخصصات، من خلال دمجها تحت مظلة واحدة: كلية العمارة وتخطيط المدن. لا بوصفها تجميعاً إدارياً، بل كمنهج تعليمي يجمع بين التنظير والتطبيق، وبين البحث العلمي والممارسة الميدانية.

هذا الدمج لا يلغي التخصص، بل يمنح الطالب فرصة لاكتشاف ميوله الطبيعية، سواء في تخطيط المدن أو التصميم الداخلي أو تنسيق المواقع، مع احتفاظه بقدر كافٍ من الاستيعاب لباقي العمليات التصميمية. وهكذا، يعمل المصمم منفرداً أو ضمن فريق بلغة مشتركة، تنعكس نتائجها إيجاباً على مرافق المدينة وتفاصيلها.

نحو مدارس معمارية تُراعي خصوصية المكان

ولا يعني هذا الدمج بالضرورة تكدّس الطلاب داخل كلية واحدة، بل هو دعوة لتعدد المدارس المعمارية وانتشارها في ربوع المدن، على أسس علمية ومنهجية وفكرية، تُراعي خصوصية كل بيئة جغرافية واجتماعية وعمرانية ومعمارية. فالتكامل لا يُطلب بوصفه وحدة إدارية، بل بوصفه وحدة معرفية تُعيد الاعتبار للعقل التصميمي، وتمنحه أدواته الكاملة لفهم المكان وتشكيله بوعي.

إن استيعاب الطاقات المبدعة لا يكون بتوحيد المناهج، بل بتعددها وفقاً لاحتياجات السياق المحلي، وبناء مدارس معمارية تُعبّر عن روح المكان لا عن نماذج مستوردة. فكل مدينة تحمل في طياتها ذاكرة عمرانية خاصة، لا تُستعاد إلا عبر خطاب معماري يُنصت لها، ويُعيد تشكيلها دون تنميط أو اجتثاث.

وهكذا، يتحول التعليم المعماري من مجرد تلقين تقني إلى فعل ثقافي، يُنتج مصممين قادرين على تحويل أفكارهم إلى عناصر فاعلة ومؤثرة في رسم صورة مدننا العربية المعاصرة. كما فعلت الأجيال السابقة حين جمعت بين الأصالة والإبداع، وخلّدت منجزاتها في سجل التاريخ، لا بوصفها نماذج شكلية، بل بوصفها تعبيراً صادقاً عن هوية المكان وزمنه.

الأحد، أكتوبر 05، 2025

العمارة بين الاستيراد والتعبير عن الذات


جمال الهمالي اللافي

التنوع هو ذاك الذي ينشأ بين الحضارات والشعوب، وقد يتجلّى بين مدينة وأخرى داخل القطر الواحد. وهو انعكاسٌ لقناعاتٍ تحترم قيم المجتمع واحتياجاته ومتطلباته، وثقافته ومؤثراته البيئية وظروفه الاقتصادية. لا تلك العمارة المستوردة من وراء الحدود والبحار والمحيطات، التي لا تأتي عن قناعة بجدواها، بل نتيجة تبعية وانقيادٍ أعمى.

يمكن لأي شعب أو أمة أن يستورد ما يشاء بالمال. وبالمال يمكنه أن يناطح السحاب، ويغوص في أعماق البحار، ويجوب القارات بحثًا عن كل ما يمكن استهلاكه من منتجات الآخرين. لكن المال، مهما بلغ، لا يصنع حضارة. فالحضارة تولد من رحم المكان، ومن ظروفه ومعطياته، ومن الإبداع الأصيل لأبنائه في طرح الحلول ومعالجة الإشكاليات التي تعترضهم في مختلف جوانب الحياة. وهي تعكس آليات تفاعلهم مع المؤثرات البيئية، وتعبّر عن قناعاتهم وأفكارهم ورؤيتهم للحياة، وتُجسَّد في شواهد معمارية ورموز فنية لا تُستورد، بل تنبع من ذواتهم بكل تلقائية وعفوية.

أما الثورة في مجال العمارة، فلا تتحقق إلا إذا صاحبتها ثورة محلية في عالم البناء والتشييد، من حيث مواد البناء وطرق الإنشاء وتقنياتها. ونحن في ليبيا لا نزال نراوح في زمن الخرسانة المسلّحة، ونظام الهيكل الإنشائي، والبومشي، والبلوك، والعمالة الأجنبية غير الفنية. ولا تكتمل الثورة دون استعادة الحرفة المحلية، التي كانت يومًا مرآةً للمعرفة العملية، قبل أن تُقصى لصالح عمالة لا تنتمي للمكان ولا تدرك خصوصيته.

فأين نحن من تلك الثورات التي تجتاح العالم؟

الوعي المعماري: من التعليم إلى الإعلام

  


جمال الهمالي اللافي

الاتجاه الذي يتبناه المعماري- سواء نحو تأصيل العمارة المحلية أو مواكبة الاتجاهات العالمية المتجددة- ليس خياراً مهنياً قابلاً للتفاوض، بل هو قناعة راسخة تنبع من خلفية عقائدية وثقافية متجذرة في وجدان كل معماري. والتغيير، إن حدث، لا يأتي إلا من داخل الذات، نتيجة تراكم الاطلاع، وتوسع الحوار، وتعدد المشاهدات. إنه تأثير ذاتي صرف، قد يخلخل تلك القناعات أو يقتلعها في لحظة انفعال، حين يشعر المعماري بخواء ما كان يسير في ركابه وينصاع لتوجيهاته.

العمارة، قبل أن تكون شكلاً أو وظيفة، هي بناء فكري له قواعد وأساسات، وله بنيان وتفاصيل تتشكل من خليط من المواد والتقنيات، شأنه شأن أي منشأة مادية. وكما أن بناءه يستغرق زمناً ليكتمل، فإن هدمه لا يتم إلا بقرار داخلي من ساكنه، لا يُنتزع من الخارج إلا في حال امتلاك ذلك الآخر لسلطة القهر والتنفيذ. حينها يكون التغيير جبراً لا اقتناعاً، ولا ينتج عنه إلا خفوت الصوت، إلى أن تتغير الظروف وتُتاح الفرصة لمعاودة الإعلان عن الذات، بصوت أعلى، وعبر كل وسائل الإعلام ومواقع التشييد والإعمار.

ولكي لا نُضطر يوماً إلى هدم شواهد معمارية بُنيت وفق رؤى أصحابها، فقط لأنها أساءت للمحيط وشوهت صورته وأفسدت على الناس حياتهم، فإن من الضروري مراجعة البناء الفكري لطلبة العمارة في ليبيا. مراجعة دقيقة تضمن سلامة الأسس، وجودة المواد، ومتانة التقنيات، وفاعليتها على المدى البعيد، بما يضمن أن تكون نتائجها في صالح المجتمع والبيئة، دون أن تلحق بها أضرار يصعب معالجتها أو تعويضها، وقد يمتد أثرها لعقود، وربما قرون، تبعاً لعمق الضرر واتساعه.

وحين نتحدث عن البناء الفكري للمعماري الليبي، فإننا نشير بالضرورة إلى المؤسسات التعليمية التي تتولى صياغة هذا الفكر، ممثلة أولاً في أساتذتها، ثم في مناهجها ومرافقها. ومراقبة هذه المؤسسات لا تقتصر على الدولة، بل تتعداها إلى المجتمع المدني، لأنه المتضرر الأول من نتائجها، على بيئته، واحتياجاته، ومتطلباته، وتأثيراتها النفسية.

وهنا يبرز دور الإعلام، لا بوصفه ناقلاً للأحداث فحسب، بل كأداة توعية وتوجيه، تسهم في تنبيه المجتمع إلى الجوانب التي تمسه في حياته اليومية، وتبتعد عن إفراغ المحتوى الإعلامي من قيمته التربوية والإرشادية، بإغراقه في مواضيع سطحية لا تنفع الأمة، بل تشتتها عن همومها الحقيقية، وتُقصيها عن مناقشة عوامل نهضتها ورقيها.

الجمعة، أكتوبر 03، 2025

العمارة الفقيرة

 حين تفقد العمارة ذاكرتها

 


جمال الهمالي اللافي

تُعرَّف "العمارة الفقيرة" بأنها تلك التي تفتقد البُعد الجمالي، لا بسبب غياب الموارد، بل لغياب التفاصيل الصغيرة والمتجانسة التي تُضفي الحياة على الفضاءات، وتُثير مشاعر يصعب تفسيرها. وعندما نُعيد زيارة تلك الأماكن، تستمر الأحاسيس في العودة، حتى ندرك أنها تنبع منها، لا من أي مكان آخر.

المعماري الذي يُجيد إغناء المكان بتلك التفاصيل المُبهجة غالبًا ما يكون قد عاشها في طفولته. فالإبداع لا يُستمد من كثرة السفر أو قراءة الكتب فقط، بل من عمق التجربة الشخصية، من بيت الجد، ومن كل ما يُشبهه في الروح والتكوين.

ما يُقلقنا اليوم هو أن عماراتنا المعاصرة تفتقر إلى تلك التفاصيل التي تُدهش العين وتُحفّز الذهن للتأمل، مما يُضعف من قدرة الذاكرة على الاحتفاظ بالتجربة. عوضًا عن ذلك، نُشاهد تركيبًا غير متناسق من الحوائط الصماء، المختلطة الألوان، المثقلة بالحاجيات المستوردة، التي تجعل المكان يبدو متنافراً ومبتذلاً، رغم ارتفاع ثمن بعضها.

أما بيت الجد، الذي كان يُمثّل رمزًا للعمارة الأصيلة، فقد تحوّل في ظل العمارة المعاصرة إلى مثال على الفقر المعماري. لم يعد يُثير الإعجاب أو يُنقل للأجيال، بل أصبح رمزًا لعمارة فقدت روحها، مما يترك أثرًا عميقًا في ثقافتنا وهويتنا البصرية.

في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا:

كيف يمكننا إعادة إحياء العمارة الليبية المعاصرة من خلال التفاصيل التي تُعزز الانتماء للمكان والهوية؟
إنه التحدي الحقيقي الذي يُوجّهنا نحو مستقبل معماري أكثر صدقًا وابتكارًا
.

جدلية الانتماء المعماري في الفضاء المتوسطي

 


جمال الهمالي اللافي

تميد

في فضاءٍ معماري تتقاطع فيه الأزمنة والتأثيرات، تبرز جدلية الانتماء بوصفها سؤالًا يتجاوز الشكل إلى الجوهر: هل العمارة تعبيرٌ عن الذات أم انعكاسٌ للمحيط؟

في المدن المطلة على المتوسط، حيث المناخ واحد والتاريخ متشابك، تتداخل المفردات المعمارية بين الأصالة والتأثر، بين الفخر المحلي والتنازع الرمزي. لكن في ليبيا، يغيب هذا الاعتزاز، ويحل محله إنكارٌ يطال حتى ما تشكّل بفعل التجربة والبيئة. هذا النص لا يبحث عن إجابة جاهزة، بل يعيد طرح السؤال من زاوية أكثر إنصافًا: كيف نُعرّف الأصالة حين تكون العمارة مرآةً للهوية، لا مجرد أثرٍ منسي؟

غياب الإعلام التوعوي وتكرار السؤال

نعود إلى معضلة تبدو بلا حل في المستقبل القريب، في ظل غياب الإعلام التوعوي في مقابل دور الإعلام الهدام الذي يؤثر سلبًا على مقومات المجتمع الأخلاقية والحضارية والثقافية. لذا، نجد دائمًا السؤال الذي يحمل معه إجابةً ضمنية يُطرح مرارًا وتكرارًا على لسان مختلف فئات المجتمع الليبي:

هل يوجد عمارة ليبية يمكننا تلمس ملامحها في تصميم البيوت والمساجد والمباني العامة والخاصة؟
هذا السؤال لا يبحث عن إجابة بقدر ما يُقر بعدم وجود أي ملمح للعمارة الليبية التقليدية، حيث يُنسب كل ما هو موجود إلى تأثيرات خارجية.

تفكيك النفي الضمني عبر نماذج متوسطية

لن أكرر ما طرحته سابقًا بشأن هذا الموضوع، بل سألتفت إلى منظور آخر للرد على هذا النفي الضمني:

·     في عمارة البحر المتوسط، يبرز نظام التسقيف بالقبو والقبة بصورة واضحة في البيوت، كما هو الحال في العمارة اليونانية والتونسية. وإذا سألت أي تونسي أو يوناني عن مصدر هذا النظام، فلن تجد إجابةً شافية من أي من الطرفين، فكلاهما سيؤكد أن هذه العمارة تمثل أصالتهم، ولا يُعيرون اهتمامًا للتشابه أو الاختلاف. إنما يُعتبر مجرد صدفة محضة، يظهر ذلك أيضًا في استخدام الطلاء الأبيض للحوائط والأزرق لتفاصيل ومفردات البناء في كلا البلدين.

·     في عمارة البحر المتوسط، نجد انتشاراً لأعمال القيشاني والجص في تلبيس الحوائط بشكل يُعتبر من سمات العمارة المغربية والتونسية. وإذا ناقشت تونسيًا أو مغربيًا حول من تأثر بالآخر في هذا السياق، فلن تحصل على إجابة واضحة، حيث سيصر كلاهما على أن هذه العناصر جزءٌ من هويتهما الثقافية. ولعل التباين بينهما مجرد تزامن طبيعي بعيدًا عن الأسباب التقليدية.

·     إضافة إلى ذلك، يتجلى وجود الأبراج الخشبية في واجهات البيوت بشكل أكبر في العمارة المالطية، بينما يظهر في العمارة التونسية بنسبة أقل. وفي حالة سؤال أي منهما عن مصدر هذه المفردة المعمارية، ستحصل على ذات النتيجة، مع التأكيد على الأصالة والفخر المحلي.

دعوة للإنصاف في تقييم العمارة الليبية

في سياق النقاش حول خصوصية العمارة الليبية، كثيرًا ما يُستشهد بنماذج من عمارات دول الجوار بوصفها أكثر أصالة أو استقلالًا، دون الالتفات إلى أن كل عمارة، مهما تأثرت أو أثّرت، تحمل ملامحها الخاصة التي صاغتها التجربة المحلية والجذور الثقافية على مدار الزمن. فمن غير المنصف أن يُرفض على سبيل القطع وجود خصوصية ليبية، بينما يُحتفى في المقابل بعمارات أخرى دون مساءلة تأثيراتها الخارجية. وفي زمنٍ بات فيه البعض يفاخر بما لا يملكه، فإن الأجدر بنا أن نفخر بما نملك، وأن نحافظ عليه ونستلهِم منه. فمن لا ماضي له، لا حاضر له ولا مستقبل.

الروح الإسلامية المشتركة في مدن المتوسط

نستطيع القول إن هذه المدن تجمعها روح واحدة مبعثها تشابه البيئة المناخية.
والأهم أن جميع المدن الواقعة على البحر الأبيض المتوسط (والاستثناء إن وجد قليل) كانت تحت الحكم الإسلامي لعدة قرون، لهذا نجد ملامح مشتركة بينها في إطارها العام وليس في تفاصيلها. وإن كان لتعايش بعض الديانات الأخرى مع المسلمين، ولفترة الاحتلال الغربي لهذه البلاد العربية، تأثيرات في بعض التفاصيل المعمارية في البيوت والمعابد الخاصة بهم، فإنها لا تخرج بأي صورة عن الروح العامة لهذه المدن باعتبارها إسلامية.

خاتمة

وهذا يدعونا إلى إعادة تعريف الأصالة، لا باعتبارها انغلاقًا على الذات، بل قدرة على التفاعل مع المحيط دون فقدان الخصوصية.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...