أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

‏إظهار الرسائل ذات التسميات تأملات في المعمار. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات تأملات في المعمار. إظهار كافة الرسائل

الأحد، نوفمبر 30، 2025

نقاط على الحروف في ممارسة مهنة العمارة

النجاح والفشل بين الهوية والوظيفة


جمال الهمالي اللافي

1.      الهوية المعمارية والالتزام الفكري

يمتلك المهندس المعماري توجهًا راسخًا ينبع من قناعاته الشخصية وانتمائه العقائدي والمجتمعي؛ وهذا التوجه ليس مجرد وجهة نظر قابلة للنقاش، بل انعكاس أصيل لثبات هذه القناعات
وعليه، فإن الزبون يختار المعماري بناءً على سجله العملي – سواء من خلال مشاريع قائمة أو عروضه المنشورة – والتي تمثل العنوان الصريح والواضح لتوجهه المعماري. وهذا يضمن أن العميل على معرفة مسبقة بطبيعة الأسلوب الذي سيقدم عليه.

2.      الثبات في التوجه والمرونة في التصميم

يحق للمعماري أن يتصلب في توجهه المعماري؛ فهو مرتبط بمعتقد فكري وليس منطلقًا من فراغ، وتغييره أو الإبقاء عليه مسألة شخصية نابعة من قناعاته الداخلية، وليس نتيجة لتأثير خارجي. لكن هذا الثبات لا ينسحب على الفكرة التصميمية المبدئية للمشروع. هذه الفكرة قابلة للتعديل أو الإلغاء والبدء من جديد. فالغاية الأساسية هي تحقيق متطلبات الزبون ضمن دائرة التوجه المعماري للمهندس، وليس فرض مشروع لا يخدم احتياجات العميل.

3.      تحديد الأدوار: مسؤولية العميل ومسؤولية المعماري

تقتصر مهمة العميل على عرض متطلباته، احتياجاته، والنقاط التفصيلية الضرورية في بيته. هذه هي متطلبات العميل، ليست توجيهات معمارية. أما النتيجة النهائية للمشروع، فهي تُحسب بالكامل للمعماري. يُقيّم نجاحه بمدى قدرته على تحويل الاحتياجات إلى واقع متكامل، ثم يخضع لتقييم نهائي بعد فترة من معايشة المشروع واستخدامه.

4.      النجاح والفشل: أبعاد متعددة لا تختزل في رضا الزبون

  • النجاح لا يُقاس فقط بمدى تحقيق رغبات العميل المباشرة، بل بقدرة المعماري على تحقيق توازن بين:
    • الوظيفة: تلبية الاستخدام اليومي بكفاءة وراحة.
    • الهوية: انسجام المشروع مع السياق الثقافي والاجتماعي.
    • البيئة: احترام المحيط الطبيعي والمناخي.
    • الاقتصاد: ضبط التكلفة ضمن حدود معقولة.
    • الجماليات: صياغة لغة معمارية راقية تمنح المكان قيمة وجدانية وبصرية.
  • الفشل لا يقتصر على عدم إرضاء العميل، بل يشمل:
    • إغفال الهوية أو تشويهها.
    • تجاهل البيئة أو تقديم حلول تضر بالمحيط.
    • تجاوز الميزانية أو تقديم مشروع غير قابل للاستدامة.
    • إنتاج تصميم يفتقر إلى القيمة الجمالية أو يخلق نفورًا بصريًا.

أي خلل في هذه الجوانب يُحسب على المعماري، لأنه المسؤول عن تحويل الاحتياجات إلى مشروع متكامل يراعي جميع الأبعاد.

الخاتمة: إعادة ترسيخ دور المعماري

إن الفصل بين دور المعماري والمتطلبات الوظيفية للعميل أمر لا يقبل الجدال في كل المهن الأخرى، وينبغي أن يكون كذلك في العمارة. المعماري ليس مجرد منفّذ لرغبات الزبون، بل هو المصمم، والمفكر، والمنفذ الفني للرؤية. نجاحه أو فشله يُقاس بمدى قدرته على تحقيق التوازن بين الهوية، البيئة، الاقتصاد، الوظيفة والجماليات، لا بمجرد إرضاء العميل.

عندما يُفهم هذا الدور على حقيقته، يعود للمعمار مكانته المستحقة كقائد فكري وتصميمي للمشروع، ويصبح الإنجاز أو الإخفاق مسؤولية مهنية خالصة تُحسب له وحده. بذلك يستقيم ميزان التقدير، ويُعاد الاعتبار للعمارة كفعل ثقافي وفكري، لا مجرد خدمة تجارية.

الاثنين، نوفمبر 24، 2025

لغة تدريس مناهج العمارة بين الهوية والاغتراب

 أي لغة نُدرّس بها العمارة؟

حروفيات للخطاط محمد الخروبي

جمال الهمالي اللافي

موجز المقالة

أي لغة نصنع بها المعماري؟ سؤال يتجاوز حدود القاعة الدراسية ليصل إلى عمق الوعي والهوية. فاللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي وعاء للفكر، وحامل للثقافة، ومفتاح لإدراك الزمن والمكان. حين يتعلم الطالب بلغته الأم، يتماهى مع جذوره ويصوغ خطاباً معمارياً متجذراً في بيئته، أما حين يُفرض عليه التفكير بلغة الآخر، فقد يجد نفسه أسيراً لرؤية لا تخصه. هذه المقالة تفتح النقاش حول لغة تدريس مناهج العمارة، بين الهوية والانفتاح، بين المحلية والعالمية، مستحضرةً نماذج راسخة مثل مكية والجادرجي، ومحذّرة من غواية التفكيك كنظرية وتطبيق. لتخلص إلى أن اختيار لغة التدريس ليس قراراً تقنياً، بل هو قرار سيادي يرسم مستقبل العمارة، ويحدد أي معمار نصنعه للأجيال القادمة.


يطرح التعليم المعماري سؤالاً مصيرياً: بأي لغة نصوغ وعي الطالب ونفتح أمامه أبواب التفكير النقدي؟ هل نكتفي باللغات الأجنبية ومصطلحاتها، فنُدخل الطالب في مسار قد يقوده إلى الاغتراب، أم نمنحه لغة بيئته المحلية بما تحمل من عمق وثراء وارتباط بالإنسان والمكان؟

اللغة وتشكل الوعي

لقد أثبتت الدراسات اللسانية أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي أداة لتشكيل الوعي ذاته. فهي تحدد كيف يفكر الإنسان، وكيف يرى العالم، وكيف يعيد إنتاج القيم والمعاني في حياته اليومية.

·     اللغة كحامل للثقافة: اللغة تنقل القيم الحضارية وتعيد إنتاجها في ذهن المتلقي. فهي ليست محايدة، بل مشبعة بالتصورات الثقافية والدينية والسياسية. الطالب الذي يتعلم بلغته الأم يتشرب هذه القيم ويعيد صياغتها في خطابه المعماري، بينما الطالب الذي يُفرض عليه التفكير بلغة أجنبية قد يجد نفسه أسيراً لقيم لا تنتمي إلى بيئته.

·     اللغة كأداة إدراك: علم اللغة المعرفي يوضح أن المفاهيم التي نصوغها مرتبطة بالبنية اللغوية، أي أن طريقة التعبير تحدد طريقة التفكير. على سبيل المثال، لغات ذات تراكيب زمنية مختلفة تؤثر في إدراك الزمن والحدث. وهذا يعني أن اللغة التي يُدرّس بها المنهج تحدد طريقة إدراك الطالب للفضاء والزمن، وهما جوهر العمارة.

·     اللغة والصراع المعرفي: هناك أبحاث تؤكد أن الصراع اللغوي في المجتمعات ليس مجرد مسألة تواصل، بل هو صراع على تشكيل الوعي والسيطرة على المعنى. حين تُفرض لغة أجنبية على التعليم، فإنها لا تنقل المعرفة فقط، بل تفرض أيضاً منظومة فكرية قد تُوجّه الطالب نحو توجهات لا تخدم بيئته ولا مجتمعه.

اللغة المنطوقة كمسار للتفكير الواعي

اللغة التي يُدرّس بها المنهج ليست تفصيلاً تقنياً، بل هي قرار يحدد مسار التفكير المعماري للأجيال القادمة. التركيز على اللغة العربية، بما تحمله من عمق وثراء في الألفاظ والحروف وامتداد تاريخي متصل بالمعتقد الإسلامي، يمنح الطالب مساراً للتفكير يتماهى مع هذه اللغة ويستوعب أبعادها الثقافية والروحية. فاللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي وعاء للفكر، ومفتاح لفهم الذات والبيئة.

رموز ومعالم

إن استحضار فكر المعماريين الكبار مثل محمد مكية ورفعت الجادرجي يفتح أمام الطلاب باباً لفهم العمارة كخطاب نقدي أصيل، لا كموضة عابرة. هؤلاء علّمونا أن العمارة موقف فكري وأخلاقي قبل أن تكون شكلاً بصرياً.

التفكيكية: النظرية والتطبيق

أما عمارة التفكيك، فهي ليست مجرد أشكال هندسية متكسرة، بل نظرية فكرية تسعى إلى هدم الثوابت وإعادة تركيبها في صورة بصرية صادمة. لكن تطبيقاتها كثيراً ما تتحول إلى استعراض شكلي يقطع الصلة بالجذور، ويحوّل العمارة إلى مشهد بصري بلا مضمون. الطالب الذي يُدفع إلى هذا المسار يفقد القدرة على إنتاج عمارة تخدم الإنسان والبيئة، ويصبح تابعاً لصرخات السوق لا لنداء المكان.

أثر اللغة على البحث العلمي والمجتمع

اعتماد اللغة المحلية في تدريس العمارة لا يقتصر على تكوين الطالب، بل ينعكس على جودة البحث العلمي. فحين تُكتب الدراسات بلغة البيئة، تصبح أكثر ارتباطاً بمشكلاتها العمرانية، وأكثر قدرة على تقديم حلول واقعية. أما حين تُكتب بلغة أجنبية، فإنها كثيراً ما تُوجَّه إلى بيئات أخرى، بعيدة عن الواقع المحلي.

كما أن تدريس العمارة باللغة المحلية يسهّل وصول المعرفة إلى المجتمع، ويجعل الخطاب المعماري مفهوماً للمهندسين والفنيين والجهات التنفيذية، لا محصوراً في نخبة تتقن الإنجليزية. هذا يعزز التكامل بين المعماري والمجتمع، ويمنع عزله في برج لغوي مغلق.

سياسات التعليم ومسؤولية صناع القرار

إن اعتماد اللغة المحلية في تدريس العمارة هو حماية للهوية وضمان لسيادة معرفية تنطلق من البيئة والإنسان. أما اللغات الأجنبية، فيجب أن تبقى في موقعها الطبيعي كمادة مساعدة، تفتح أبواب التحصيل العلمي لمن يرغب في مواصلة دراسته في الخارج، دون أن تتحول إلى لغة التفكير الأساسية التي قد تفرض على الطالب أن يرى بعين الآخر قبل أن يرى بعينه.

تجارب دولية عديدة تثبت أن التعليم المعماري يمكن أن يُدرّس باللغة الوطنية (كما في اليابان أو ألمانيا)، ومع ذلك يظل منفتحاً على العالم. وهذا يبرهن أن الهوية لا تتعارض مع العالمية، بل هي شرطها الحقيقي.

خاتمة

إن تعليم اللغة الأجنبية لا يُرفض، لكنه يوضع في موقعه الطبيعي: أداة مساعدة، لا جوهر التكوين. أما جوهر العمارة فيبقى في فهم المكان، والإنسان، والهوية، وصياغة خطاب نقدي معاصر ينطلق من الجذور ليواجه تحديات العصر. العمارة ليست زخرفة أو تقليداً، بل لغة حياة.

فأي لغة نصنع بها المعماري؟ وأي مستقبل نرسمه حين نختار لغة التدريس؟


المراجع

  1. عمروش عبد الحميد، اللغة وتشكيل الوعي: حفريات معرفية في اللغة والثقافة والمصطلح، مجلة إشكالات في اللغة والأدب، المجلد 10، العدد 4، 2021.
  2. جورج لاكوف ومارك جونسن، الاستعارات التي نحيا بها (Metaphors We Live By)، 1980.
  3. جورج لاكوف ومارك جونسن، الفلسفة في الجسد (Philosophy in the Flesh)، 1999.

 

 

الأحد، نوفمبر 23، 2025

مراجعة نقدية: العمارة اللاشيئية من منظور معرفي


جمال الهمالي اللافي

من خلال تتبع أنماط العمارة الليبية المعاصرة، أجد أن وصفها بأنها "تماهٍ مع الغرب" لا يعكس حقيقتها. فالمقارنة الدقيقة تكشف أنها لا تمت بصلة إلى العمارة الغربية، لا في الجذور ولا في الشكل ولا في المواد ولا في التفاصيل. وفي الوقت نفسه، هي لا تستمد منطلقاتها من الموروث المحلي. إنها عمارة بلا هوية، بلا سياق، بلا منطلق فكري، يمكن أن تُسمى بحق العمارة اللاشيئية.

هذا النمط المعماري يتسم بالهلامية، حيث تتخذ الكتل أشكالاً متعددة دون أن ترتبط بفلسفة أو رؤية. المعماري هنا يعمل بعقلية التاجر، يزين بضاعته ليستهوي المستهلك، دون أن يضع في اعتباره صلاحية الاستعمال أو تحقيق الفائدة المرجوة من وراء البناء. وهكذا تتحول العمارة إلى سلعة، إلى واجهة متباهية، لا إلى فضاء يحقق معنى السكن أو يعكس هوية المجتمع.

إن أخطر ما في هذه الحالة أنها تُسوّق للناس بوصفها "نهضة"، بينما هي في حقيقتها تكريس للفراغ والرداءة. فهي لا تخضع لمعيار، ولا تخضع لرقابة، ولا تجد مجتمعاً يعي حقيقتها فينبذها. إنها ليست اغتراباً بالمعنى التقليدي، بل فراغاً عمرانيّاً يكرّس أزمة الهوية ويعمّق الضياع.

من منظور معرفي، يمكن القول إن "العمارة اللاشيئية" ليست مجرد وصف بل مصطلح نقدي يفتح الباب أمام إعادة التفكير في علاقة العمارة بالإنسان والمجتمع والذاكرة. فهي تكشف أن ما نفتقده ليس القدرة على التقليد، بل القدرة على بناء هوية معمارية صادقة.

ربحٌ أثمن من الكلفة

العمارة التي تمنحك أكثر مما تدفع


جمال الهمالي اللافي


مقدمة

حين تُقاس العمارة بالأرقام وحدها، تضيع قيمتها الأعمق: معنى البيت، ودفء الهوية، وطمأنينة العيش. ليست القضية في حساب الكلفة فقط، بل في المفارقة التي تجعلنا نُسائل الطراز المحلي ونغضّ الطرف عن الطرز المغتربة، رغم أنها أكثر كلفة وأشد اغترابًا. هنا يصبح الحديث عن العمارة حديثًا عن الوعي، وعن إعادة الاعتبار لما يشبهنا ويمنحنا السكينة.

جرت العادة عند عرض أحد مشاريعي المنفذة على الطراز المحلي المعاصر، أن يبادر البعض إلى إظهار تكاليف تنفيذها وكأنها باهظة، ومخالفة لما درجت عليه تكلفة المشاريع على الطرز المغتربة. ويُقال إن في تنفيذها مشقة كبيرة على المهندسين والعمال.

وفي المقابل، لم أجد مثل هذه التعليقات على المشاريع المغتربة التي تبالغ في استخدام الخرسانة ومواد التشطيب المكلفة، وكأنها أمر طبيعي لا يستحق التساؤل. هذه المفارقة وحدها تكشف حجم الغفلة: حين يُنتقد ما يشبهنا ويُسامح ما يُغرّبنا.

إن مثل هذه التخوفات كفيلة بزعزعة ثقة المتابعين بهذا النمط المعماري. ولا تفلح محاولات التوضيح بالشرح والتفصيل في إظهار أن أسعار هذا النمط في مرحلتي التنفيذ والتشطيب هي في الحقيقة أقل كلفة. لذلك، لن أرهق نفسي هذه المرة بالحديث عن الأرقام، بل سأجاري من يبالغ في ارتفاع أسعارها بالقول:

أنت لا تدفع ثمن الجدران والحجارة فقط، بل تدفع لتشتري الانتماء المفقود، وراحة البال، ومتعة العيش. وهذا أغلى من الضياع في متاهة التغريب، حيث لا هوية ولا دفء ولا معنى. فإذا اشتريت، هانت عندك الكلفة، لأنك ستكتشف أنك ربحت ما هو أثمن منها:

  • ربحت بيتًا يشبهك،
  • وفضاءً يذكّرك بجذورك،
  • وحياةً تمنحك السكينة قبل أن تمنحك المأوى.

المسألة ليست أرقامًا تُقارن، بل في وعيٍ يعيد للعمارة معناها وللبيت هويته.

السبت، نوفمبر 22، 2025

مجال العمارة ما بين الشمولية والتأطير

 


جمال الهمالي اللافي

في كل ممارسة معمارية منضبطة، يقوم البناء الفكري على ركيزتين أساسيتين: صون الملكية الفكرية، التي تضمن وحدة الرؤية ونسبتها لصاحبها، والشمولية التي يتحملها المعماري في احتضان جميع عناصر المشروع ضمن رؤية متكاملة. بين هذين البعدين، يتوزع الإبداع بين التخصصات المكملة، في احترام لترتيب الأدوار وضمان هوية المشروع.

في كل مشروع معماري، هناك جذر يمثله المعماري، وفروع تمثل التخصصات المكملة. فلا حياة للفروع إن انفصلت عن الجذر، ولا معنى للجذر إن لم يثمر فروعًا. المعماري هو المسؤول عن المشروع من جميع جوانبه، يقود فريقه بالحوار والنقاش، ويضمن أن تتكامل الرؤى في إطار واحد.

إن محاولة خلق بؤر توتر بين هذه التخصصات، المبنية على فرض الآراء، لا تفيد أي تجربة معمارية بقدر ما تجهضها في مهدها، حين تخرج النتائج على أرض الواقع مشوهة بتضارب الأفكار.

بهذا المعنى، العمارة ليست فردية ولا فوضوية، بل هي عمل جماعي مؤطر بالشمولية، يقوده المعماري ويغذيه التخصص المكمل، في احترام متبادل لتراتبية الأدوار، ضمانًا للتكامل والابتكار وحماية هوية المشروع.

الجمعة، نوفمبر 21، 2025

البيوت الفارهة: عمران بلا روح

 


جمال الهمالي اللافي

لم يعد البيت مجرد مأوى يقي الإنسان حرّ الصيف وبرد الشتاء، بل صار في كثير من الأحيان مرآةً للوجاهة والاستعراض. وبينما يفترض أن يكون السكن موطنًا للسكينة والدفء، تتحول بعض البيوت الفارهة إلى فضاءات متعالية على ساكنيها، تُظهر ثراءً مصطنعًا وتخفي فراغًا داخليًا.

1.      المظهر الباذخ والجوهر الفارغ

البيوت الفارهة، ذات الأقواس المبالغ في ارتفاعها والمساحات المفتوحة على بعضها، والمكسوة بأغلى مواد التشطيب، لا تعكس بالضرورة رفاهية السكن. إنها عمران يتعالى على ساكنيه، ويحوّلهم إلى خدمٍ له، يحرصون على حماية تفاصيله الباذخة أكثر من حرصهم على راحتهم.

2.      غياب السكينة والدفء

هذه البيوت لا تمنح دفئًا ولا سكينة. فهي باردة المشاعر، متفاخرة بثراء تفاصيلها، لكنها فارغة من المعنى الإنساني. تتحول من مأوى إلى عبء، ومن حضن إلى فضاء متحجر يستهلك ساكنيه في طقوس العناية اليومية.

3.      البيت التقليدي المحلي: حكمة المكان

في المقابل، البيت التقليدي المحلي- سواء في طرابلس أو غدامس أو غيرها من المدن- يقوم على مبدأ الانسجام مع الإنسان والمكان. جدرانه السميكة تحمي من الحر والبرد، ساحاته الداخلية تمنح الخصوصية والراحة، وتوزيع فراغاته يوازن بين الانفتاح والاحتواء. إنه بيت ينسج علاقة حميمة مع ساكنيه، ويعكس قيم الجماعة والدفء الاجتماعي.

4.      رمزية الغرور الاجتماعي

البيت الفاره إذن ليس مجرد عمران، بل رمز للغرور الاجتماعي، يُشيّد لتأكيد المكانة والهيمنة، بينما يغيب عنه جوهر السكن: أن يكون مأوىً دافئًا يليق بالإنسان. أما البيت التقليدي، فهو شاهد على حكمة المكان، حيث تتجسد العمارة كامتداد طبيعي للهوية والذاكرة، لا كاستعراض للثراء.

خاتمة

إن فقدان السكينة في البيوت الفارهة ليس سوى انعكاس لفقدان الهوية في العمران الحديث؛ فحين يتغلب الاستعراض على الحكمة، ويُستبدل الدفء بالبرودة، يتحول البيت من مأوى للإنسان إلى شاهد على اغترابه.

إشكاليات الجمهور المستهدف في العمارة الليبية: قراءة نقدية

 


جمال الهمالي اللافي

المقدمة

تُعدّ العمارة أحد أهم المجالات التي تعكس هوية المجتمع وتترجم قيمه الثقافية والاجتماعية إلى فضاءات عمرانية ملموسة. غير أن تحديد الجمهور المستهدف في الممارسة المعمارية يمثل إشكالية محورية، خصوصاً في السياق الليبي الذي يشهد حالة من الاغتراب وفقدان البوصلة. يهدف هذا المقال إلى تحليل هذه الإشكالية من منظور نقدي، انطلاقاً من التجربة الشخصية للمعماري الليبي، وصولاً إلى استنتاجات عامة حول مستقبل العمارة في ليبيا.

أولاً: الخلفية والدافع

عند الالتحاق بقسم العمارة والتخطيط العمراني، كان الهدف الأساسي هو خدمة المجتمع الليبي حصراً، باعتباره البيئة الطبيعية والوجدانية التي تستحق الجهد المبذول لتوفير فضاءات عمرانية ملائمة للعيش الكريم. هذا التوجه يعكس قناعة بأن العمارة ليست مجرد ممارسة تقنية، بل هي فعل اجتماعي مرتبط بالمكان والهوية.

ثانياً: أزمة الجمهور المستهدف

مع الدخول في مجال الممارسة العملية، برزت أزمة حقيقية تتعلق بالجمهور المستهدف. فقد ظهر أن المجتمع يعيش حالة من الاغتراب عن ذاته، فاقداً القدرة على تحديد أولوياته العمرانية والثقافية. يتجلى ذلك في:

  • غياب البوصلة القيمية: حيث يسعى الأفراد إلى اقتناء الأشياء المادية دون البحث عن الذات أو تطويرها.
  • ضعف الأهلية المجتمعية: على المستويات العقلية والوجدانية والنفسية والروحية، مما ينعكس في سلوكيات عمرانية غير منسجمة مع الهوية المحلية.
  • تفكك المسؤوليات: من المعماري إلى القادة وصناع القرار، وصولاً إلى رب الأسرة، الكل يتحرك في دائرة مفرغة دون رؤية مشتركة.

ثالثاً: التداعيات

أدى هذا الوضع إلى تحطم حلم بناء مجتمع فاضل، إذ غابت الفضيلة كأساس للعمران. وبدلاً من أن تكون العمارة أداة لترسيخ الهوية، أصبحت انعكاساً لفوضى اجتماعية واقتصادية، تحكمها منطق القوة والمصلحة الفردية. هذه الأزمة تجعل من البحث عن جمهور مستهدف واضح مهمة شبه مستحيلة، في ظل تحول المجتمع إلى كيان هلامي فاقد الملامح.

رابعاً: نحو إعادة التوجيه

إن إدراك هذه الإشكاليات يمثل خطوة أولى نحو الإصلاح. فالمجتمع الليبي بحاجة إلى:

  • توجيه رشيد يعيد البوصلة القيمية إلى الممارسة العمرانية.
  • قيادة حكيمة توازن بين الهوية المحلية ومتطلبات العصر.
  • تضافر الجهود بين المعماريين وصناع القرار والفاعلين الاجتماعيين، من أجل إعادة بناء الروابط الثقافية والاجتماعية التي تمنح العمارة معناها الحقيقي.

الخاتمة

تكشف أزمة الجمهور المستهدف في العمارة الليبية عن عمق التحديات التي تواجه المجتمع في سعيه نحو هوية عمرانية أصيلة. إن تجاوز هذه الأزمة يتطلب رؤية نقدية واعية، تقودها قيادة رشيدة وتدعمها ممارسة معمارية مسؤولة. فالعمارة ليست مجرد جدران وأحجار، بل هي مرآة لروح المجتمع، وإذا استعاد المجتمع هويته، استعاد عمرانَه، وضَمِن لأجياله القادمة بيئة عمرانية تعكس قيمه وتطلعاته.

الخميس، نوفمبر 20، 2025

إشكالية البيت الليبي المعاصر

بين الحاجة والغفلة: تأملات في فراغ البيت الليبي كمرآة للوعي الاجتماعي



جمال الهمالي اللافي

لا تكمن أزمة البيت الليبي المعاصر في غياب الهوية المعمارية أو ضعف المعالجات البيئية أو حتى رداءة مواد البناء، بل في غياب الفهم الحقيقي لماهية هذا البيت، كفراغ وظيفي واجتماعي، لا كمجرد كتلة معمارية أو واجهة زخرفية. إننا نعيش في بيوت لا نعرف لماذا صُممت على هذا النحو، ولا كيف يمكن أن تخدم حاجاتنا المتغيرة، فنكرر نماذج موروثة أو مستوردة دون مساءلة، ونُسكن أجسادنا في فراغات لا تسكن أرواحنا.

السكن كفكرة لا كمأوى

البيت ليس مجرد مأوى يحمينا من العراء، بل هو امتداد لوجودنا، مرآة لهويتنا، ومسرح لعلاقاتنا اليومية. في غمرة الانشغال بالمخططات والواجهات، ننسى أن السكن فعل وجودي، وأن تصميم البيت يجب أن ينطلق من سؤال: "كيف نعيش؟" لا "كيف يبدو؟". إن اختزال السكن إلى عدد غرف أو مواد تشطيب هو اختزال لإنسانيتنا ذاتها.

التحولات الاجتماعية والأنثروبولوجية

البيت الليبي لم يعد يحتضن الأسرة الممتدة كما كان، بل بات يؤوي أسرة نووية صغيرة، أحيانًا مفككة. ومع ذلك، لا تزال تصاميمنا تكرّر نماذج قديمة: غرفة ضيافة ضخمة، ممرات معزولة، فراغات لا تُستخدم. الخصوصية التي كانت تُصان بالعمارة، باتت تُخترق بالتصميم الرديء. والضيافة التي كانت طقسًا اجتماعيًا، تحوّلت إلى عبء فراغي لا يُستخدم إلا نادرًا.

الاقتصاد السياسي للسكن

في غياب سياسات إسكانية عادلة، تحوّل السكن من حق اجتماعي إلى سلعة استثمارية. السوق العقاري لا يُنتج بيوتًا للعيش، بل وحدات للبيع. والمواطن، في ظل هذا المنطق، يُجبر على شراء ما هو متاح، لا ما هو ملائم. وهكذا، تتشكل بيوتنا وفق منطق الربح لا منطق الحاجة، وتُبنى المدن كأرقام لا كحياة.

مقارنات عالمية وتجارب بديلة

في دول مثل الإكوادور وجنوب أفريقيا، أعادت المجتمعات تعريف السكن كحق جماعي، وظهرت نماذج للعمارة التشاركية والتمكين المحلي. ورش مجتمعية صممت بيوتًا تنبع من حاجات الناس لا من كتالوجات الشركات. فهل يمكننا، نحن أيضًا، أن نعيد التفكير في بيتنا الليبي من الداخل، لا من الخارج فقط؟

نقد النموذج السائد

النموذج الحالي للبيت الليبي يعاني من تناقضات صارخة: فراغات زائدة لا تُستخدم، وأخرى ضرورية غائبة. غرف ضيافة فخمة تقابلها مطابخ ضيقة، مداخل رسمية لا تُستخدم، ومساحات معيشة لا تحتمل العيش. الشكل يطغى على الوظيفة، والواجهة تُزيّن ما لا يُطاق من الداخل.

نحو إعادة تعريف المعايير

نحن بحاجة إلى إطار معياري جديد لتصميم البيت الليبي، لا يقوم على المساحة أو عدد الغرف، بل على:

  • الوظيفة الاجتماعية: هل يخدم البيت علاقات الأسرة أم يعزل أفرادها؟
  • المرونة في الاستخدام: هل يمكن للفراغ أن يتغير مع تغير الحاجة؟
  • الاستدامة البيئية: هل يحترم البيت مناخنا ومواردنا؟
  • القدرة على التكيف: هل يمكن للبيت أن يصمد أمام التحولات الاقتصادية والاجتماعية؟

خاتمة: البيت كمرآة للوعي

البيت ليس مجرد بناء، بل مرآة لوعينا الاجتماعي. وكلما كان وعينا مشوشًا، كانت بيوتنا كذلك. لهذا، لا بد أن نبدأ بالسؤال قبل المخطط، وبالوظيفة قبل الشكل، وبالصدق قبل الاستعراض. فربما، حين نعيد تعريف البيت، نعيد أيضًا تعريف أنفسنا.

الاستحواذ الإمبراطوري بين الماضي العثماني والحاضر الأمريكي

 

الحوش الطرابلسي التقليدي

جمال الهمالي اللافي

منذ عقود ظل النقاش محتدماً حول توصيف الدولة العثمانية: هل كانت دولة استعمارية بالمعنى الأوروبي الحديث، أم مجرد خلافة توسعت بحدودها لتشمل شعوباً وأقاليم متعددة؟ هذا الجدل كثيراً ما بقي أسير ثنائية النفي والإثبات، دون أن يصل إلى قناعة حقيقية بطبيعة الممارسات التي انتهجتها تلك الدولة في المناطق التي ضمتها إلى نفوذها.

هنا يبرز مصطلح "الاستحواذ الإمبراطوري" كبديل أكثر دقة وملاءمة من مصطلح الاستعمار. فالاستعمار الأوروبي ارتبط بالاستيطان والإحلال الثقافي، وبفرض هوية جديدة على الشعوب المغلوبة، بينما الاستحواذ الإمبراطوري يعني السيطرة على الموارد والطاقات البشرية والاقتصادية، ونقلها إلى المركز، دون أن يُعاد تشكيل الهوية أو يُمحى الوجود الثقافي المحلي.

الدولة العثمانية تمثل النموذج الأوضح لهذا النمط. فهي لم تُنشئ مستوطنات تركية واسعة في البلاد العربية أو البلقان، لكنها استحوذت على مقدرات تلك الشعوب، نقلت الحرفيين والمهندسين المهرة إلى إسطنبول لبناء نهضتها العمرانية، جمعت الضرائب والموارد الزراعية لصالح المركز، واعتمدت على نظام "الدفشرمة" الذي استحوذ على أطفال من البلقان ليصبحوا جنوداً وإداريين في خدمة السلطان. تركت للشعوب قدراً من الخصوصية الثقافية والدينية، لكنها أبقتهم في موقع التابع، حيث تُستنزف مواردهم لصالح المركز الإمبراطوري.

إن طرح مصطلح "الاستحواذ" يحرر النقاش من أسر الجدل العقيم حول إثبات أو نفي كون الدولة العثمانية استعمارية، ويقربنا أكثر إلى فهم طبيعة هيمنتها الفعلية على الشعوب. فهو يصف بدقة آلية السيطرة التي مورست، دون أن يخلطها بممارسات الاستعمار الأوروبي الذي كان أكثر عنفاً في محو الهويات وإحلال ثقافات جديدة.

وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث، نجد أن الولايات المتحدة تمثل حالة معاصرة للاستحواذ الإمبراطوري، وإن بأدوات مختلفة. فهي لا تستعمر الأراضي ولا تنشئ مستوطنات، لكنها تستحوذ على مقدرات الشعوب عبر الاقتصاد والتكنولوجيا والإعلام. الدولار يهيمن على النظام المالي العالمي، الجامعات الأمريكية تجذب العقول والكفاءات من كل أنحاء العالم، والقواعد العسكرية تنتشر لتفرض السيطرة الأمنية والسياسية. الإعلام والقوة الناعمة يعيدان تشكيل الوعي الجمعي، دون الحاجة إلى جيوش استيطانية.

بهذا المعنى، يمكن القول إن الولايات المتحدة تمارس الاستحواذ الإمبراطوري الحديث، الذي يختلف في أدواته عن النموذج العثماني، لكنه يشترك معه في جوهر الفكرة: السيطرة على الموارد والطاقات البشرية والاقتصادية لصالح المركز، مع ترك الشعوب في موقع التابع، وإن بدا لها أنها تحتفظ بهويتها الخاصة.

خاتمة

ولعل هذا المصطلح الجديد، "الاستحواذ"، لا يقتصر على توصيف السياسة العثمانية في بعدها السياسي والاقتصادي، بل يمتد ليكشف عن طبيعة حضورها في المجال المعماري الليبي. ففي أوساط المعماريين والمجتمع الليبي ظل الجدل قائماً: هل العمارة التي نشأت في فترة الحكم العثماني تقع ضمن التأثيرات العثمانية المباشرة، أم أنها تعبير عن هوية محلية أصيلة؟

إن النظر إلى الدولة العثمانية باعتبارها دولة استحواذية يوضح أن هذه السلطة لم تشغل نفسها بفرض هوية معمارية جديدة على الشعوب التي حكمتها، بل اكتفت بالاستفادة من مقدراتها وطاقاتها البشرية. وبهذا المعنى، فإن العمارة الليبية التي ظهرت في تلك المرحلة لم تكن انعكاساً لهيمنة عثمانية ثقافية، بل كانت استمراراً لهويات محلية رسخت نفسها في المشاريع العمرانية، مع بعض التداخلات الشكلية أو الوظيفية التي فرضتها طبيعة السلطة المركزية.

هكذا يصبح مصطلح "الاستحواذ" أداة تفسيرية دقيقة، تخرجنا من أسر الجدل العقيم حول إثبات أو نفي كون الدولة العثمانية استعمارية، وتفتح لنا أفقاً أوسع لفهم طبيعة هيمنتها على الشعوب، وكيف انعكس ذلك على العمارة الليبية التي حافظت على خصوصيتها، رغم وجود سلطة عليا تستحوذ على الموارد دون أن تمس جوهر الهوية.

الأربعاء، نوفمبر 19، 2025

جدل المرجعية بين وضوح الهوية وتيه الغرب

قراءة نقدية في مسار العمارة والفنون

زاوية عمورة بجنزور

جمال الهمالي اللافي

في الغرب، حيث تغيب المرجعية القيمية الجامعة، تتناوب النظريات والتوجهات المعمارية والفنية والفكرية على المشهد، فتجد لها مجالاً واسعاً للانتشار والتنفيذ، حتى وإن لم يعتنقها الجميع. لكنها سرعان ما تُختبر أمام النقد، لتنكشف حدودها وقصورها، قبل أن تُستبدل بموجة أخرى لا تقل عنها اضطراباً. هكذا يتشكل مسار متقلب، يفتقد البوصلة، ويترك المدن في حالة من تفسخ الهوية وفقدان المعنى.

أما في المجتمعات الإسلامية، فقد شكّلت المرجعية الدينية والأخلاقية حضوراً حياً يحدد بوضوح ما يصلح وما يفسد، فكان للفنون والعمارة مسار أصيل، تجلّى في نتاج الحضارة الإسلامية في عصورها الذهبية. مساجد، مدارس، وأسواق حملت وحدة الشكل والوظيفة، وأكدت انسجاماً بين الجمال والغاية، بين الروح والمكان.

غير أن لحظة السيطرة الغربية قلبت هذا المسار، حين فُرض منطق بلا مرجعية على هذه المجتمعات، فدخلت في دوامة من التغريب والتخبط، وتراجعت الأصالة أمام موجات مستوردة لا تحمل سوى مزيد من التيه. وهكذا، ضاع الغرب في دروبه المعوجة، وأضاع معه كل من سار خلفه، متخلياً عن البوصلة التي تحفظ التوازن بين الهوية والابتكار.

خاتمة: نحو حوار معماري معاصر

هذا الجدل بين وضوح المرجعية في العمارة الإسلامية وتيه الغرب في غيابها، ليس مجرد مقارنة تاريخية، بل هو مدخل لحوار معماري معاصر. حوار يسعى لإعادة اكتشاف البوصلة القيمية التي تحفظ للمدينة هويتها، وتفتح في الوقت نفسه مجالاً للابتكار دون أن ينفصل عن الجذور. وهو ما يشكّل أحد محاور مشروع "حوارات معمارية"، حيث يتحول النقد إلى دعوة للتأمل وإعادة البناء على أسس أصيلة.

الثلاثاء، نوفمبر 18، 2025

الإبداع الحقيقي يبدأ من مواردنا المحلية لا من صفحات المجلات الأجنبية

الهوية الثقافية والمسؤولية الاجتماعية في التصميم الداخلي الليبي

مربوعة علي التليسي- بقرية أولاد بن تليس ببني وليد


جمال الهمالي اللافي

التصميم الداخلي ليس ترفًا ولا استعراضًا، بل مسؤولية تجاه الناس والهوية. حين يغيب هذا الوعي، يتحول الإبداع إلى تقليد أجوف. هنا دعوة للتأمل في موقعنا من هذه القضية.

في زمن تتسارع فيه موجات التقليد والانبهار بالتصاميم الغربية، يبرز أمامنا مثال حي من التجربة الكينية في التصميم الداخلي، حيث استطاع المصممون هناك أن يستلهموا الموروث الثقافي الأفريقي ويحوّلوه إلى لغة معاصرة تعبّر عنهم وتُرسّخ هويتهم. هذه التجربة تطرح سؤالًا جوهريًا: لماذا نغفل نحن عن كنوزنا المحلية ونغرق في استنساخ نماذج لا تعكس واقعنا ولا هويتنا؟

إن ما يحتاج المصممون الداخليون والمصممات إلى إدراكه هو أن غالبية المجتمع الليبي يعيش تحت خط الفقر أو قريبًا منه. وإذا لم يكن استحضار الهوية الثقافية الليبية ضمن أولوياتهم، فإن احترام الوضع المادي للناس يصبح واجبًا لا مفر منه. فالتصميم الداخلي ليس مجالًا للتفاخر أو لإشباع نزعة استعراضية، بل هو مسؤولية اجتماعية قبل أن يكون ممارسة جمالية.

إن استيراد عناصر التأثيث والمفروشات من الخارج، لمجرد إرضاء نزعة التقليد أو الانبهار بما يُعرض في المجلات الأجنبية، لا يؤدي إلا إلى إرهاق المجتمع ماديًا، ويكشف في الوقت ذاته عن فقر معرفي وانغماس في النقل الأعمى. بينما الإبداع الحقيقي يكمن في القدرة على استخراج الجمال من أبسط الموارد المحلية، وتحويلها إلى قيمة معيشية أصيلة تعكس هوية المكان وتلبي احتياجات الناس.

الصوت الذي يطالب بالعودة إلى الهوية واحترام الواقع الاجتماعي ليس مجرد احتجاج عابر، بل هو دعوة إلى وعي جديد. فالقضية لا تُحسم بالصوت العالي وحده، وإنما بوجود آذان صاغية وعقول واعية تستوعب الرسالة وتحوّلها إلى ممارسة مهنية مسؤولة. هنا يكمن جوهر التحدي: أن يتحول النقد إلى فعل، وأن يصبح التصميم الداخلي في ليبيا أداة لبناء الوعي الجمعي، لا مجرد انعكاس لذوق مستعار.

ليس المطلوب أن ننافس الغرب في صورته، بل أن نُظهر جمالنا في صورتنا نحن. هنا فقط يصبح التصميم الداخلي فعلًا ثقافيًا واجتماعيًا، لا مجرد تقليد أجوف.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...