أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الثلاثاء، نوفمبر 11، 2025

العمارة كوعي حضاري: بين النسبة والاستمرارية

 تفكيك المفاهيم السائدة حول من يُنسب إليه الأثر، ومن يُنتج الحضارة، ومن يملك حق التعبير المعماري.

مدينة غدامس


جمال الهمالي اللافي

في الخطاب المعماري السائد، كثيرًا ما تُستدعى منجزات الماضي بوصفها دليلًا على امتداد حضاري، دون مساءلة حقيقية عن طبيعة هذا الامتداد: هل هو وعي مستمر، أم استعراض رمزي؟ وهل كل ما شُيّد على أرض شعب ما يُعد تعبيرًا عن هويته، أم أن السلطة المعمارية تُنسب لمن يملك القرار لا لمن يسكن المكان؟

الفرق بين حضارة ممتدة وحضارة منقطعة لا يُقاس بعمر الأثر، بل بقدرة الشعوب على تحويل الماضي إلى مرجعية حية، تُنتج المعنى وتُعيد تشكيل الحاضر. فالحضارة الرومانية، مثلًا، لم تُستدعَ كرمز، بل استُثمرت في بناء عقلية معمارية نقدية. بينما بقيت الحضارة الفرعونية تُستعرض في المتاحف دون أن تُفعل في الواقع المصري المعاصر.

هذا التمييز يقود إلى إشكالية أعمق: النسبة الحضارية. إذ تُنسب منجزات ضخمة إلى شعوب لم تكن صاحبة القرار أو المرجعية الفكرية في إنتاجها، بل كانت تعيش تحت سلطة خارجية اتخذت من أرضها مركزًا للحكم. من الأزهر الذي بناه الفاطميون في مصر، إلى تاج محل الذي شيده المغول في الهند، إلى الآثار الرومانية في بريطانيا وفرنسا، يتكرر الخلط بين الموقع الجغرافي والمرجعية الفكرية، ويُستخدم هذا الخلط لتبرير خطاب امتداد لا يستند إلى وعي فعلي.

هذا الطرح لا يُنكر مساهمة الشعوب في الحرفة أو التكيّف، لكنه يُعيد ضبط النسبة: فالعمارة، حين تُنتج بقرار سلطوي خارجي، تُعبّر عن مشروع سياسي أكثر مما تُجسّد هوية جمعية. والمغالطة تحدث حين يُستعرض الأثر وكأنه تعبير عن الذات، بينما هو في الحقيقة تعبير عن سلطة حاكمة اتخذت من الأرض مركزًا لا من الشعب مرجعية.

إن مساءلة هذه المفاهيم لا تهدف إلى نزع الاعتراف، بل إلى تحرير العلاقة بالعمارة، وإعادة تعريفها بوصفها خطابًا نابعًا من الذات، لا مستعارًا من السلطة. وحين يُدرك الشعب الفرق بين ما يُفرض عليه وما يُعبّر عنه، يبدأ فعل التحرر المعماري، لا عبر استنساخ الرموز، بل عبر إنتاج المعنى.

بهذا الوعي، لا تعود العمارة مجرد أثر يُستعرض، بل تصبح مرآة للزمن، ومجالًا للفعل، وموقعًا لاستعادة الصوت الحضاري الذي طالما اختُزل في الأطلال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...