جمال الهمالي اللافي
المقدمة
تُعدّ
العمارة أحد أهم المجالات التي تعكس هوية المجتمع وتترجم قيمه الثقافية
والاجتماعية إلى فضاءات عمرانية ملموسة. غير أن تحديد الجمهور المستهدف في
الممارسة المعمارية يمثل إشكالية محورية، خصوصاً في السياق الليبي الذي يشهد حالة
من الاغتراب وفقدان البوصلة. يهدف هذا المقال إلى تحليل هذه الإشكالية من منظور
نقدي، انطلاقاً من التجربة الشخصية للمعماري الليبي، وصولاً إلى استنتاجات عامة
حول مستقبل العمارة في ليبيا.
أولاً:
الخلفية والدافع
عند
الالتحاق بقسم العمارة والتخطيط العمراني، كان الهدف الأساسي هو خدمة المجتمع
الليبي حصراً، باعتباره البيئة الطبيعية والوجدانية التي تستحق الجهد المبذول
لتوفير فضاءات عمرانية ملائمة للعيش الكريم. هذا التوجه يعكس قناعة بأن العمارة
ليست مجرد ممارسة تقنية، بل هي فعل اجتماعي مرتبط بالمكان والهوية.
ثانياً:
أزمة الجمهور المستهدف
مع
الدخول في مجال الممارسة العملية، برزت أزمة حقيقية تتعلق بالجمهور المستهدف. فقد
ظهر أن المجتمع يعيش حالة من الاغتراب عن ذاته، فاقداً القدرة على تحديد أولوياته
العمرانية والثقافية. يتجلى ذلك في:
- غياب البوصلة القيمية: حيث يسعى الأفراد إلى اقتناء الأشياء المادية دون البحث عن الذات
أو تطويرها.
- ضعف الأهلية المجتمعية: على المستويات العقلية والوجدانية والنفسية والروحية، مما ينعكس
في سلوكيات عمرانية غير منسجمة مع الهوية المحلية.
- تفكك المسؤوليات: من المعماري إلى القادة وصناع القرار، وصولاً إلى رب الأسرة، الكل
يتحرك في دائرة مفرغة دون رؤية مشتركة.
ثالثاً:
التداعيات
أدى هذا
الوضع إلى تحطم حلم بناء مجتمع فاضل، إذ غابت الفضيلة كأساس للعمران. وبدلاً من أن
تكون العمارة أداة لترسيخ الهوية، أصبحت انعكاساً لفوضى اجتماعية واقتصادية،
تحكمها منطق القوة والمصلحة الفردية. هذه الأزمة تجعل من البحث عن جمهور مستهدف
واضح مهمة شبه مستحيلة، في ظل تحول المجتمع إلى كيان هلامي فاقد الملامح.
رابعاً:
نحو إعادة التوجيه
إن إدراك
هذه الإشكاليات يمثل خطوة أولى نحو الإصلاح. فالمجتمع الليبي بحاجة إلى:
- توجيه رشيد يعيد البوصلة
القيمية إلى الممارسة العمرانية.
- قيادة حكيمة توازن بين الهوية
المحلية ومتطلبات العصر.
- تضافر الجهود بين المعماريين
وصناع القرار والفاعلين الاجتماعيين، من أجل إعادة بناء الروابط الثقافية
والاجتماعية التي تمنح العمارة معناها الحقيقي.
الخاتمة
تكشف
أزمة الجمهور المستهدف في العمارة الليبية عن عمق التحديات التي تواجه المجتمع في
سعيه نحو هوية عمرانية أصيلة. إن تجاوز هذه الأزمة يتطلب رؤية نقدية واعية، تقودها
قيادة رشيدة وتدعمها ممارسة معمارية مسؤولة. فالعمارة ليست مجرد جدران وأحجار، بل
هي مرآة لروح المجتمع، وإذا استعاد المجتمع هويته، استعاد عمرانَه، وضَمِن لأجياله
القادمة بيئة عمرانية تعكس قيمه وتطلعاته.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق