الجزء الثاني من سلسلة: العمارة كوعي حضاري بين النسبة والاستمرارية
جمال الهمالي اللافي
في الجزء
السابق، ناقشنا كيف أن العمارة لا تُقاس بعمرها الزمني، بل بقدرتها على الاستمرار
كخطاب حيّ يُنتج المعنى ويُعيد تشكيل الوعي. رأينا كيف أن الحضارة الرومانية، رغم
سقوط دولتها، استمرت في تشكيل العقلية الإيطالية، بينما بقيت الحضارة الفرعونية
تُستدعى رمزيًا دون تفعيل حضاري معاصر.
لكن هذا النقاش يفتح سؤالًا أعمق:
هل كل ما يُبنى على أرض شعب ما يُعد تعبيرًا عن
هويته؟
وهل يمكن أن نُسمي كل أثر معماري "حضارة
شعب"، حتى لو كان نتاج سلطة خارجية أو نخبة حاكمة لا تمثّل الوعي الجمعي؟
هنا تبدأ
إشكالية النسبة الحضارية، حيث تُنسب منجزات معمارية ضخمة إلى شعوب لم تكن صاحبة
القرار أو المرجعية الفكرية في إنتاجها، بل كانت تعيش تحت سلطة خارجية اتخذت من
أرضها مركزًا للحكم. هذه الإشكالية لا تخص مصر وحدها، بل تتكرر في سياقات تاريخية
متعددة، من بلاد الشام إلى الهند، ومن المغرب إلى أوروبا.
في هذا
الجزء، نُفكك هذه المغالطة، ونُعيد طرح العمارة بوصفها سلطة رمزية لا مجرد أثر
مادي، ونُميّز بين ما يُستعرض وما يُعبّر، بين ما يُفرض وما يُنتج، بين ما يُنسب
جغرافيًا وما يُنتمي فكريًا.
العمارة
كهوية سياسية: إشكالية النسبة الحضارية
في
الخطاب المعماري، كثيرًا ما تُنسب منجزات حضارية ضخمة إلى شعوب لم تكن صاحبة
القرار أو المرجعية الفكرية في إنتاجها، بل كانت تعيش تحت سلطة خارجية اتخذت من
أرضها مركزًا للحكم. هذه الإشكالية تكشف عن خلل في فهم العلاقة بين العمارة
والهوية.
أمثلة لحضارات
منسوبة شعبيًا رغم أنها سلطوية:
- مصر الإسلامية: منجزات كالأزهر ومساجد الفاطميين والمماليك
والعثمانيين تعود لسلطات غير مصرية، اتخذت من مصر قاعدة لحكمها، لا تعبيرًا
عن هوية شعبها.
- بلاد الشام في العهد الأموي والعباسي: كثير من العمارة الإسلامية في دمشق وبغداد تُنسب شعبيًا، رغم أن
القرار المعماري كان صادرًا عن نخبة حاكمة مركزية.
- الهند المغولية: منجزات مثل تاج محل تُنسب للهند، لكنها
نتاج سلالة مغولية ذات مرجعية ثقافية فارسية– تركية، حكمت الهند دون أن تكون
من نسيجها الشعبي.
- بلاد المغرب في العهد الموحدي والمريني : رغم
الحضور الأمازيغي، فإن القرار المعماري كان سلطويًا، يُعبّر عن مشروع سياسي
لا عن تعبير شعبي حر.
- الآثار الرومانية في بريطانيا وفرنسا: لا تُنسب إلى الشعب
البريطاني أو الفرنسي، بل إلى الدولة الرومانية التي بنتها ضمن مشروع توسعي
خارجي.
دلالة
معمارية نقدية
- العمارة،
حين تُنتج بقرار سلطوي خارجي، تُنسب إلى الدولة لا إلى الشعب.
- المغالطة
تحدث حين يُستعرض الأثر وكأنه تعبير عن هوية شعبية، بينما هو في الحقيقة
تعبير عن سلطة حاكمة اتخذت من الأرض مركزًا لا من الشعب مرجعية.
- هذا
الخلط يُستخدم أحيانًا لتبرير خطاب "الامتداد الحضاري"، رغم أن
الواقع يُظهر انقطاعًا في المرجعية الذاتية.
معيار
النسبة الحضارية
|
المعيار |
النسبة للدولة |
النسبة للشعب |
|
المرجعية الفكرية |
خارجية سلطوية |
محلية شعبية |
|
القرار المعماري |
صادر عن السلطة |
نابع من المجتمع |
|
الوظيفة الحضارية |
تعبير عن مشروع سياسي |
تعبير عن الذات |
|
الاستمرارية |
منقطعة بزوال السلطة |
متجذرة محليًا |
خاتمة:
من أثر السلطة إلى سؤال الذات
إن
مساءلة النسبة الحضارية ليست تمرينًا في نزع الاعتراف، بل محاولة لاستعادة الدقة
في فهم العلاقة بين العمارة والهوية. فليست كل قبة تُشيَّد على
أرض ما تعبيرًا عن روح أهلها، ولا كل مئذنة أو قصر أو قنطرة شاهدًا على وعي شعبي
متجذر. العمارة، حين تُنتج بقرار
سلطوي خارجي، تُعبّر عن مشروع سياسي أكثر مما تُجسّد هوية جمعية.
لكن هذا
لا يعني أن الشعوب كانت غائبة تمامًا، بل إن حضورها كان غالبًا في الهامش: في الحرفة، في التكيّف، في التفاصيل الصغيرة التي لا تُذكر في كتب
التاريخ، لكنها تُرى في الزخرفة، في الممرات، في النسيج العمراني غير الرسمي.
وهنا
يبرز هذا السؤال: إذا كانت العمارة تُنسب أحيانًا زورًا إلى
الشعوب، فكيف يمكن للشعوب أن تستعيد صوتها المعماري؟ كيف ننتقل من
عمارة تُفرض علينا، إلى عمارة نُنتجها نحن، بوصفنا فاعلين لا متلقين، وبوعي نقدي
لا بانبهار رمزي؟

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق