‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات أ. سعيد حامد. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات أ. سعيد حامد. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، ديسمبر 25، 2015

بيوت الحفر (الدواميس) في جبل نفوسة





الأستاذ/ سعيد عـلـي حــامـد*


     تحف سلسلة جبال نفوسة بسهل الجفارة، وتمتد من منطقة النقازة التي تقع الى الشرق من مدينة طرابلس بنحو 100 كم لتستمر في منطقة ترهونة ومنها الى غريان ويفرن وجادو إلى أن تصل إلى نالوت حيث يستمر امتدادها داخل الاراضي التونسية. ويبلغ طولها نحو 500 كم.


      وتتميز سلسلة جبال نفوسة بارتفاعها فجائيا إلى الجنوب من سهل جفارة، بحيث تبدو جوانبها الشمالية بشكل حوائط أو جروف شديدة الانحدار تشرف على سهل الجفارة، في حين أن جوانبها الجنوبية تنحدر انحدارا تدريجيا نحو الجنوب حتى تنتهي في منطقة القبلة التي تفصل هذه الجوانب عن المنحدرات الشمالية للحمادة الحمراء .(1) تختلف ارتفاعات هذه السلسلة من منطقة الى آخرى فنجدها تبلغ أقصى ارتفاع لها عن مستوى سطح البحر بنحو 885 مترا في منطقة غريان في حين يبلغ ارتفاعها عند ترهونة ما بين 400-500 مترا، وعند يفرن يصل ارتفاعها الى 730 مترا أما في أقصى الغرب عند منطقة نالوت فيبلغ ارتفاعها نحو 650 كم.

             اشتق الاسم (نفوسة) من اسم  قبيلة نفوسة التي سكنت المنطقة منذ فترة موغلة  في القدم. وقد تعددت الآراء في أصلها وموطنها الاصلي. فالمؤرخ ابو جرير الطبري في كتابه تاريخ الرسل والأمم والملوك والمعروف بتاريخ الطبري  يذكر أن البربر أخلاط  من كنعان والعماليق، فلما قتل جالوت تفرقوا في البلاد وغزا افريقيش المغرب ، نقلهم من سواحل الشام واسكنهم افريقيا وسماهم البربر.(2) وذكر غيره أن البربر(3) قبائل شتى من حمير ومصر والعمالقة وكنعان وقريش تلاقوا بالشام ولغطوا فسماهم إفريقيش البربر.(4) ومن المرجح أنهم نزحوا إما من الجزيرة العربية التي كانت الخزان البشري للعالم القديم أو من منطقة الشام هاجروا واستوطنوا منطقة جبال نفوسة.  ومن أشهر تلك القبائل نفوسة وهوارة .  وقد اشتهر الجبل اسم جبل نفوسة، وقد وصفه الرحالة العربي ابـــن حــوقل في كتابه  (صورة الأرض) الذي ألفه في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي بقوله: " جبل عال منيف ... وفيه منبران لمدينتين تسمى أحدهما شروس في وسط الجبل وفيها مياه جارية وكرمم وأعناب طيبة وتين غزير ، وأكثر زروعهم الشعير وإياه يأكلون ، وإذا خبز كان أطيب طعما من الحنطة ، ولشعيرهم لذة ليست في خبزمن أخباز الأرض ... وبالجبل مدينة ثانية تعرف بجادو من ناحية نفزاوة وفيها منبر وجامع ." (5) أما أبو عبيد الله البكري فقد وصف جبل نفوسة في كتابه السالك والممالك في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي ، وذكر أن المسافة من طرابلس إليه مسيرة ثلاثة أيام وهو على ستة أيام من القيروان ، ويذكر أن طوله من الشرق إلى الغرب ستة أيام ووصف مدينة جادو بأنها مدينة كبيرة ولها أسواق ، ويذكر بأن وسط الجبل النخيل والزيتون الكثير والفواكه ."(6)

التجأ الانسان منذ بدء الخليقة الى الكهوف الطبيعية ليستخدمها كمأوى وملجأ من تقلبات الطبيعة أو لحماية نفسه من الحيوانات المفترسة وبعد اكتشافه النار ساعدته على توفير الحماية له من الحيوانات المفترسة.
وقد دلت الدراسات الأثرية التي اجريت في العديد من الكهوف المنتشرة في ليبيا وغيرها من البلاد بإستخدام الانسان لتلك الكهوف وخير مثال على ذلك كهف هوا افطيح الذي يقع الى شرق مدينة سوسة بالجبل الأخضر بليبيا  بنحو 12 كم الذي قام البرفيسور ماكبرنى بإجراء دراسة به سنة 1949 واكتشف من خلال الحفريات التي أجريت بهذا الكهف أن الانسان قد استخدمه منذ فترة لا تقل عن 80,000 سنة مضت.

     وتنتشر بمنطقة جبل نفوسة الكثير من الكهوف الطبيعية والتي لا شك في أنها استعملت في فترات قديمة كمساكن. كما أن الانسان قام بحفر كهوف وبيوت وملاجئ وقد تعددت أغراض استعمالات هذه المنشآت التي أوجدها الإنسان ويمكن تلخيصها في الآتي:-
1-    لأغراض دينية، يمارس  فيها الانسان الطقوس الدينية سرا بعيدا عن أعين سلطات الدولة التي لا تعترف بذلك الدين ، ومثال على ذلك الدياميس (الكاتاكومب) بقرقارش والتي مارس فيها بعض الأهالي طقوس الديانة المسيحية بعيدا عن أعين السلطات الرومانية الوثنية أو كهف القديس مرقس الإنجيلي بالجبل الأخضر.

2-    أغراض عسكرية، يتحصن به الافراد لحماية أنفسهم من هجمات الاعداء ، وتوفر لهم الأمن والحماية في فترات الفتن والاضطرابات ومثال على ذلك الكهوف المعلقة في الجبليين نفوسة والأخضر بليبيا.

3-    أغراض مدنية، تستعمل كبيوت ومساكن إذ توفر فراغات معيشة للأسر التي تقطن بها.

4-    أغراض تخزين، إذ يتم بها حفظ بعض المحاصيل الزراعية كالقمح والشعير وزيت الزيتون وغيرها.

5-    كمأوى للحيوانات، إذ تستخدم كمأوى ليلي للحيوانات كالاغنام والماعز لحمايتها من الحيوانات المفترسة.

      لقد انتشرت بيوت الحفر أو الدواميس في كثير من مناطق جبل نفوسة واستخدمها الاهالي كمساكن، ويمكن أن نتحدث عن أنواعها فيما يلى:-
 النوع الأول:  الغيران  أو الدواميس/
وينتشر هذا النوع عادة على ضفاف الأودية أو في المنحدرات، وهو عبارة عن تجويف حفر في الصخر يتم حفر تجويفات صغيرة بجدرانه الداخلية لحفظ الأمتعة في حين تستخدم المساحة التي أمام مدخله في طهو الطعام . وتختلف أبعاد الكهوف من كهف من الى آخر وعادة ما تتراوح مساحتها بين 12-15 مترمربع ، ومداخلها  بعرض يتراوح ما بين متر  و1.25 متر تقريبا ، ويتميز هذا النوع بسهولة الوصول والولوج اليه.

وهناك بيوت أو كهوف معلقة وهي تستخدم للسكن وميزتها أنها توفر الحماية لقاطنيها إذ تحفر في منحدرات صخرية بإرتفاع يختلف من كهف الى آخر وبعضها يزيد ارتفاعه عن 4 أمتار عن مستوى سطح الأرض ويتم الوصول اليها عن طريق سلالم صنعت من الحبال (7)  بينما موطئ الأقدام عملت من أغصان سميكة من الأشجار، ويطوى السلم ولا يستعمل إلا عند الصعود والنزول وفي بعض بيوت الحفر توجد فتحة صغيرة الى أعلى تمكن من تهوية الكهف وخروج الدخان الناتج عن النيران. وعادة ما تستخدم مقدمة الداموس كمكان لطهو الطعام. وهذه الكهوف تستعمل عادة للسكن في فترات التي ينعدم فيه الأمن بالمنطقة.

جزء من مد ينة طرميسة
منور لأحد بيوت الحفر بطرميسة

مدخل لأحد بيوت الحفر بطرميسة

النوع الثاني :  بيوت الحفر أو الدواميس/    
ويندرج تحت هذا النوع نموذجين اثنين:
1- بيوت حفر في أرض صخرية هشة (رسوبية أو متحولة أو رملية):
     تتميز معظم بيوت الحفر التي حفرت في الأرض الصخرية بأن مداخلها حفرت تحت مستوى سطح الارض بنحو من 2.5 - 4  مترا وهي في حافة أودية أو في منطقة منحدرة، ويسبق الباب الرئيسي ممر حفر بعمق يقارب المتر  من منسوب الأرض ويؤدي هذا إلى المدخل الرئيسي ــ والذي غالبا ما يكون مصنوعا من خشب أشجار الزيتون لصلابته ــ إلى السقيفة التي تؤدى الى الفراغ الرئيسي للبيت الذي تتم اضاءته وتهويته من فتحة دائرية في سقفه (المنور)  يتراوح اتساعها  من 1.50 – 3 متر. وتحيط بفراغ المعيشة الدواميس التي حفرت على جوانبه ويمكن مشاهدة هذا النوع في طرميسة بالقرب من مدينة جادو وفي نالوت حيث قامت جمعية التراث بنالوت بتنظيف أحد الدواميس يعرف باسم غار اتفوشيت وقد حفر في عام 1918 واستغلته سلطات الإحتلال الايطالية كمستوصف لمدة عامين ، ثم سكنت فيه عائلة اتفوشيت وهجرته في ستينيات القرن العشرين (8) ويتم حاليا تهيئته متحفا للعاديات والأزياء والتقاليد ، تتراوح من 1.50 – 3 متر، وتحيط بفراغ المعيشة الدواميس التي حفرت على جوانبه ويمكن مشاهدة هذا النوع في طرميسة بالقرب من مدينة جادو ونالوت حيث قامت جمعية التراث بنالوت بتنظيف أحد الدواميس يعرف باسم غار اتفوشيت وقد حفر في عام 1918 واستغلته سلطات الإحتلال الايطالية كمستوصف ، ثم سكنت فيه عائلة اتفوشيت وهجرته في ستينيات القرن العشرين (8) ويتم حاليا تهيئته متحفا للعاديات والأزياء والتقاليد ،وهناك في تاردية القديمة والمعروفة الآن بأولاد عبيد بالرجبان قصر يعرف " بقصر العلق في منتصف الجبل به دواميس محفورة في الجبل يصعب الوصول إليه وربما استعملت للسكن والتخزين ومساحتها حوالي 200 مائتيان من الأمتار وهي قصيرة العمق ."(9) وتوجد في قرية مرقس التي تقع إلى الجهة الجنوبية الغربية لوطن الحرابة مساكن أغلبها " محفورة تحت الأرض وتربطها أنفاق تحت الأرض وهي تبعد عن قصر الخزين بنحو مائتي متر ."(10) أما في قرية وازن التي تقع عند الحدود الليبية التونسية ويبعد عن نالوت في اتجاه الغرب تقريبا دواميس  ترتبط مع بعضها بانفاق تستعملها النساء للحركة والزيارات المتبادلة. وتتوزع مثل هذه  الدواميس في كثير من المدن بجبل نفوسة. 
وفي بعض الاحيان نجد بيوت بنيت بالحجاررة والجبس وفي نهايتها حجرات لدواميس حفرت في الصخور لتكون مكملة للبيت ومثال ذلك ما هو موجود في مدينة كاباو.
بيت الجزء الأمامي منه مبني
والجزء الخلفي حفر في الصخر بكاباو

مدخل غار تفوشيت بنالوت
سقيفة غار تشوفيت

الفراغ الداخلي وفي الأعلى جزء من المنور
لغار تفوشيت بنالوت

2- بيوت حفرت في أرض طينية أو رملية:-
يتميز هذا النوع من البيوت بوجود سقيفة طويلة فلذلك يطلق عليه بيت ابوسقيفة.
ولنترك الرحالة الفرنسي دي ماثيسيوDE MATHUISIEULX  .  الذي زار منطقة غريان سنة 1901 ونشر كتابه عن رحلته في طرابلس الغرب سنة 1903 فيقول : " كل أهل غريان  من سكان الكهوف، فليس هناك قرى ظاهرة للعيان بجانب القصر، وبدل أن تخرج البيوت من التربة إلى أعلى تدخل فيها بالحفر.... يسكن المواطنون المحليون .... منذ قرون فيما يشبه الخزانات الأرضية المربعة، في حيطانها أبواب تؤدي الى حجرات. وأعتاب هذه الأبواب على مستوى قاع الحفرالعمودي، وهو نوع من الفناء على عمق 6 الى 8 أمتار تحت حقول الشعير وأشجار التين  " (11) يتم النزول الى بيوت الحفر هذه عن طريق مدخل شيد فوق سطح الأرض، وبعد الولوج فيه تجد بداية أرضية السقيفة التي تقف بجدوع الزيتون ثم الجزء المحفور منها في الأرض بانحدار تدريجي يؤدي إلى الفناء الداخلي للبيت، وعادة ما تحفر بشكل منحنى لتوفر الخصوصية لأهل البيت وتحد من تسرب الاتربة والغبار إليه والتي تحملها التيارات الهوائية، ويلاحظ الطول الذي تمتاز به السقيفة من 6 – 9 متر تقريبا في حين يكون ارتفاعها نحو 2.60م.
الفراغ الداخلي لبيت حفر في منطقة أبوغيلان بغريان

ويصف دى ماثيسيو المدخل والسقيفة لهذه البيوت بقوله : " فتحة في الحقل، على عشر خطوات من الحفرة الكبيرة (الفراغ الداخلي)، مخبأة عن الانظار مثلما كانت فتحات سراديب الأموات الرومانية القديمة. بدأنا نسير في ممر معتم تماما في منتهى الضيق، دفعنا انحداره الشديد الى اسراع الخطى الى القاع. ولا يمكن استعمال هذا الاخدود الضيق اللولبي الذي عبرناه للوصول الى هذه الحفرة المفتوحة، من أى كان أراد أن يدخل فيه ضد رغبة السكان، فمدافع واحد برمح سيئ يمنع مرور عشرة معتدين . لاشك أن سكان الكهوف في غريان فكروا قبل كل شئ في أمنهم، عندما قرروا بناء دهاليز بهذه الصعوبة." (12)
وفي بعض البيوت توجد مصاطب بالسقيفة ومخزن وحجرة لايواء الحيوانات في الفترات التي ينعدم فيها الأمن.
حجرة في بيت حفر في منطقة أبوغيلان بغريان
     
ونظرا لطول السقيفة مما لا يمكن من بالبيت من سماع الطارق أو المنادى فإنه قد شاع مثل شعبي بين  الناس فيقال فلان ( السقيفة غرياني ) كناية عن من يعانى نقصا في حاسة السمع.
تختلف أطوال الفراغ الداخلى بيت إلى آخر وأغلبها تتراوح أطوالها مابين 6 – 10 متر وهو محفور بعمق يزيد عن 8 أمتار عن مستوى سطح الأرض ويحاط محيطه الخارجي باكوام من التربة المستخرجة من عملية الحفر ومهمتها تحديد الفراغ وعمل كساتر يحمى المارة اضافة الى حاجز لا يسمح للمياه الجارية على سطح الارض اثناء سقوط الامطار من الانسياب فيه. ويتوسط الفراغ الداخلى حفرة دائرية غير عميقة تنحدر اليها مياه الأمطار وتعمل على امتصاصها، وفي حالة امتلاءها أثناء فترات الشتاء لسقوط كميات كبيرة من الأمطار يعمد الأهالى لإضافة الرماد لامتصاص المياه.
     
تحفر الدواميس في الجدران المحيطة بالفناء الداخلى وعادة ما تتوزع حوله بالتساوى : اثنان من كل جانب ، يتوسطهما مطبخ حفر في الجدار بمدخل بسيط وبمساحة لا تزيد عن 6 م2 وفي العادة تشترك كل أسرتان تسكنان في داموسين  في استغلال المطبخ الذي بينهما.
يتم النزول الى الغرفة عبر مدخل له باب صنع من خشب اشجار الزيتون، وينخفض منسوب أرضيتها عن أرضية الفناء بنحو 20 سم. وتقسم الغرفة إلى قسمين أو ثلاثة أقسام. يكون القسم الداخلى الذى يرتفع قليلا عن منسوب الأرضية للوالدين ويستغل الفراغ الأوسط كمنام للأطفال في حين القسم الثالث والذي يلي المدخل مباشرة يعد للمعيشة وهيأ سقف الغرفة على شكل قبو لقدرته على تحمل ضغط التربة ولتوزيع الأحمال على الجوانب. ويمكن لربة البيت استغلال جزء من الفراغ المركزي للبيت لتصريف أعمالها اليومية من غسل واعداد الطعام أو تجفيف الأغدية والمنتجات الزراعية او تنقيتها من الشوائب أو في الصناعات اليدوية كحلج الصوف.....إلخ
وميزة هذه الكهوف أنها باردة أثناء النهار ولا يشعر فيها بالبرد ليلا. ويرجع سبب ذلك الى عمق هذه الدواميس تحث مستوى سطح الارض بما يزيد عن 8 أمتار مما يجعلها لا تتأثر كثيرا بالظروف المناخية السائدة على سطح الارض.
    
وقد دلت الدراسات التى أجريت عن بيوت الحفر في منطقة جبل نفوسة ان درجة الحرارة والرطوبة بها قد سجلت طوال اسبوع الصيف درجة حرارة شبه ثابتة (27 ْ) ورطوبة نسبية (30-40% ) وقد سجلت درجة حرارة ( 18 ْ) ورطوبة نسبية (40 % ) طـــوال أيــام الشتاء". (13) وهى درجات حرارة ورطوبة مناسبة توفر الراحة للأهالي ، مع العلم أن درجة الحرارة في فصل الصيف بالمنطقة عادة ما تكون في منتصف الثلاثينيات أما في ليالي فصل الشتاء فتكون في بعض الأحيان ما دون الصفر .
     
إننا لا نملك تاريخيا محددا لظهور هذا النوع من بيوت الحفر وأن دلت بعض الوثائق التى لدى الأهالى في منطقة غريان أن عمرها يصل إلى الأربعة قرون، واستمر استعمال هذه البيوت في الغرض الذي انشئت من أجله إلى ستينيات القرن العشرين عندما انتقل معظم قاطنيها الى بيوت شيدت حديثا.
واستعمل بعض مما تبقى من بيوت الحفر القديمة ـ الدواميس ـ  مـأوى للحيوانات في حين استعملها بعض الأهالي بمثابة استراحة مؤقتة وفرارا من الحرارة المرتفعة في الابنية الحديثة في الأيام التى ترتفع فيها الحرارة في فصل الصيف.  كماوظيفت بعض هذه البيوت لتكون بؤرا لجذب السياح للتعرف على نمط حياة السكان بالمنطقة في مراحل تاريخية مختلفة.

الهوامش : ــ
1 ــ لمزيد من التفاصيل ينظر : عبد العزيز طريح شرف . جغرافية ليبيا . الاسكندرية : مطبعة المصري ، 1962.
2 ــ  الطبري . تاريخ الأمم والرسل والملوك . بيروت مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، الطبعة الخامسة ، 1989م.
3 ــ لمزيد من التفاصيل عن أصل البربر ينظر : كامبس . البربر الذاكرة والهوية . ترجمة جاد الله عزوز الطلحي .منشورات مركزجهاد الليبيين للدراسات التاريخية ، 2004م.
4 ــ لمزيد من التفاصيل ينظر : ابن خلدون .كتاب العبر المبتدأ والخبر . القاهرة : مطبعة بولاق ، 1284 هـ. 5ــ ابن حوقـل . صـورة الأرض . بيروت : دار مكتبة الحياة ،(د.ت ) ص. 92
6 ــ أبوعبيد الله البكري. المغرب في ذكر بلاد افريقية والمغرب.وهو جزء من كتاب المسالك والممالك. بغداد  : مكتبة المثني .ص.9
7 ــ تزخر منطقة الجبل الأخضر في ليبيا بالكهوف كما توجد بها كهوف معلقة يطلق عليها الأهالي اسم المعاليق . لمزيد من التفاصيل ينظر : داود حلاق . أوشاز الأسلاف . منشورات مصلحة الآثار.
8 ــ معلومات  مستقاة من المهندس علي أحمد عسكر.
9 ــ إبراهيم سليمان الشماخي . القصور والطرق لمن يريد جبل نفوسة من طرابلس (1885 م.) . ترجمة أحمد مسعود الفساطوي . منشورات مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية ، 2005 م. ص.133
10 ــ المصدر السابق .ص. 246
11 ــ دى ماثيسيو . عبر طرابلس الغرب . ترجمة جاد الله عزوز الطلحي . منشورات مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية .ص.117
12 ــ المرجع السابق ، نفس الصفحة.
13 ــ  مفتاح البكوش ، علي الذويب . بيوت الحفر . دراسة نشرت في مجلة الهندسي ، العدد ، 38


* باحث تاريخي بالمركز الوطني للمحفوظات والدراسات التاريخية

الثلاثاء، أبريل 07، 2015

من مدن جبل نفوسة

قرية وازن



سعيد علي حامد

     لم تنل مدن وقرى جبل نفوسة الاهتمام من قبل المؤرخين والجغرافيين العرب القدامى ، وكانت الإشارات المقتضبة لكل من ابن حوقل صاحب كتاب صورة الأرض ، في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي ، وأبي عبيد الله البكري صاحب كتاب المسالك والممالك في القرن الخامس الهجري / الحادي عشر للميلاد التي اعتمد عليها الكثير من المؤرخين والرحالة ، وقد أشارا إلى جبل نفوسة وأعطيا معلومات عن مدنتين فيه هما مدينة شروس التي كانت عاصمة الجبل في القرون الهجرية الأولى، ومدينة جادو وأغفلا مدن وقرى الجبل الأخرى . وإن أشار البكري أن به ثلاثمائة قرية.

     في النصف الأول من الثاني عشر للميلاد كان سكان الجبل " بعد نزوح بني هلال يمارسون زراعاتهم في أمن واطمئنان ، ويذكر الإدريسي ، مثل البكري ، الأعناب وأشجار التين والشعير ويقول بوجود أجود الخبازين في العالم في شروس. ويتحدث الإدريسي عن مدينة أخرى بمنبر ولكنه لا يذكر صراحة جادو. كما يلاحظ علاقات شروس مع ورقلة وقفصه وطرابلس ......(1)  

     من قرى جبل نفوسة التي لم تنل الاهتمام ، وازن ، وهي قرية تطرف موقعها عند بداية جبل نفوسة عند الحدود الليبية التونسية وهي المنفذ الجنوبي الذي يربط تونس بليبيا ، ويمكن الوصول إليها من طرابلس عن الطريق المعبد طرابلس ، العزيزية ، نالوت وبعد نحو 15 كم يتفرع من الطريق الرابط بين نالوت وغدامس طريق يتجه إلى جهة الغرب وبعد نحو 45 كم يصل المرء إلى قرية وازن .

     استمدت وازن اسمها من وقوعها على مسافة واحدة بين مدن تجارية مهمة وهي طرابلس ، غدامس وصفاقس ، إذ تبعد وازن بمسافة تقدر بنحو 350 كم من المدن الثلاث السابقة ، وهي تربط بين مدن الجنوب التونسي ومدن جبل نفوسة وغدامس ولذلك اكتسبت أهميتها من موقعها المتميز .


     يشير هنريكو دي أغسطينى في كتابه سكان ليبيا الذي طبع سنة 1917 أن سكان وازن ينتمون إلى قبيلة أولاد محمود وهم حوالي 400 نسمة ولحماتها ، أولاد عثمان ، وأولاد عبد الرحيم ، النجاجرة ، وأولاد جماعة ... والى قبيلة الربايع وتضم لحمات ، أولاد علي ، أولاد يحي ، أولاد محمد ، أولاد سليمان وتضم 370 نسمة ولهاتين القبيلتين أمـلاك فـي وديان نكريف وأم زقـار ووني والمرطبـة ( بتونس ) التي يقيمون بها بعض الوقت . (2) 
   
     شيدت قرية وازن القديمة على ربوة تحيط بها مجموعة من الأودية ، ووفر لها موقعها تحصينا جيدا فلا يقدر احد أن ينالى منها ، إذ تتدرج المباني، التي تخترقها مسالك متعرجة، صعوداً إلى قمة الربوة والتي يربض فوقها قصر وازن ويبدو أن القرية في نشأتها كانت عبارة عن مجموعة من الغيران (الدواميس ) أو البيوت التي نحتت في الجبل ، وترك أمام كل غار مساحة مكشوفة كانت تستغلها النساء في الأعمال اليومية من طبخ وغسل ... الخ


     لقد تمكنت وازن بفضل موقعها أن تؤدي دوراً في تجارة القوافل ، فكانت القوافل تصلها من صفاقس ومدن الجنوب التونسي ومنها تنطلق نحو غدامس تم غات إلى بلاد ما وراء الصحراء ، ولقد تأثرت الحياة الاقتصادية بوازن ومدن جبل نفوسة الأخرى عندما تعرضت مدن الجنوب التونسي وطرابلس وجبل نفوسة لغارات من قبل بعض المغامرين وخاصة المغامر يحيي بن غانية الذي استغل انشغال الموحدين في حرب في الأندلس فاستطاع في منتصف القرن السادس الهجري / الثاني عشر للميلاد أن يشن غارات على تلك المناطق ، ويبدو أن وازن لم تطالها تلك الغارات على انه لا يستبعد إضرارها بالحياة الاقتصادية بها .

     بنيت مباني وازن بالمواد المتوفرة محليا من حجارة وجبس ، واستعملت جذوع النخل وأغصان أشجار الزيتون ، وهي من ذات الطراز المحلى السائد في مدن وقرى جبل نفوسة ، وتتميز مساجد وازن بصغر بيت الصلاة فيها ، ويعود ذلك إلى قلة السكان مع وجود عدة مساجد وزوايا بها . وقد شيد المعماريون المحليون تلك المباني الدين أتقنوا فن العمارة عن تجربة وخبرة فجاءت في نسيج معماري مترابط يشد بعضه بعضا ، وفي عفوية وتلقائية ، بحثوا في وظيفتها أولا مع مراعاتهم للجانب الجمالي الإبداعي فيها .


     ومن أهم معالم وازن قصرها الذي يتشبث بقمة الربوة ، ويهيمن على الأودية التي تحيط به وقد " بني سنة 860 هـ ، به ثلاثمائة وستون حجرة على أربعة طوابق وبناؤه على شكل مستطيل . يفتح مدخله ناحية الشرق ، يليه سقيفة بها مصطبة ترتفع قليلا عن أرضية الممر . يستغلها كبار السن للحديث في شؤون الحياة بعدها نجد ممرين على اليمين واليسار على جانبيهما حجرات التخزين ، وهي متراصة فوق بعضها بعض والممر الذي على يمين الداخل أوسع من الأخر مما سمح بحفر ماجل لتخزين مياه الإمطار التي تنساب إليه من أسقف الحجرات . وقد أجريت عليه بعض أعمال الصيانة والترميم في فترة مؤخرة ويدل على ذلك السقف الاسمنتى الذي يغطيه .


     ومن الملاحظ أن الغرض من بناء القصر أن يؤدي وظيفة تخزين غلال السكان من شعير وقمح وتين مجفف وزيت زيتون ، فالوديان المحيطة بوازن تستغل في زراعة الحبوب وهي غنية بأشجار التين والزيتون إذ توجد أربع معاصر تقليدية للزيتون بها، ويلجأ إلى القصر في أوقات انعدام الأمن فهو يوفر حماية للسكان لحصانته .

     بعد نهاية الدولة القرمانلية وعودة ولاية طرابلس الغرب الى الحكم العثماني المباشر عام 1835 ، وقيام غومة المحمودي بثورته ضد الوجود العثماني ومساندة معظم مدن وقرى جبل نفوسة للثورة ، قام والي طرابلس العثماني احمد باشا بإرسال حملة عسكرية هاجمت العديد من المدن والقرى وهدم قصورها في عام 1843 ولكن تلك الحملة لم تصل إلى وازن رغم مهاجمتها لقصر مدينة نالوت ، وبذلك بقي قصرها قائما متشبثا بقمة الربوة ، يحفظ الغذاء ، ويحمي الأهل في وقت الشدة والمحن ، ويراقب الغزاة ، ويمتع من يجلس فيه في الفترات المسائية بمنظر ربي والوديان والطبيعة الخلابة ، فتؤخذ عيناه بروعة وجمال المنظر .


     بدأ أهالي وازن القديمة في هجر قريتهم منذ نهاية خمسينيات القرن العشرين وتشيد مباني جديدة أسفلها ، ففقدت أنفاس أهلها وأياديهم التي كانت تمتد بالصيانة والترميم قصرها وبيوتها فتداعت بعض أركانها وأسوارها بفعل الإهمال والعوامل الطبيعية ولم يعد يهتمون إلا بالمباني الدينية  ، وهي كغيرها من مدن وقرى ليبيا المتناثرة في حاجة لمؤسسات وهيئات قادرة فنيا وماليا لإنقاذ التراث والموروث الثقافي الذي تزخر به حتى لا نفقد معالم لها إسهامات في حضارة البلاد وبؤر للجذب السياحي تساهم في صناعة السياحة التي تعول عليها ليبيا الجديدة في رفع الدخل والمساهمة في تنويع مصادر اقتصادها  مستقبلا .   




الهوامش :
1.      جاك تيري . تاريخ الصحراء الليبية في العصور الوسطى . ترجمة جاد الله الطلحي . الدار الجماهيرية للنشر . 2004 . ص 411.
2.      هنريكو دي أغسطينى . سكان ليبيا . القسم الخاص بطرابلس الغرب . ترجمة خليفة التليسي . الدار العربية للكتاب . تونس . ليبيا . الطبعة الثانية 1978 م . ص 523 ؟
3.      إبراهيم الشماخي . القصور والطـرق لمن يـريد جبل نفوسة من طرابلس ( 1303 هـ ـ 1885 م ) ترجمة احمد الفساطوي . دراسة وتقديم امحمد سعيد البوجديدي وآخرون . منشورات مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية . 2005 م . ص 275

الجمعة، فبراير 14، 2014

لمحات عن مدن ومعالم تاريخية


 مدينة طرميسه



الأستاذ/ سعيد حامد

مدينة طرميسه تقع بالقرب من جادو التي اشتهرت بمدرستها (مدرسة ابو موسى عيسى الطرميسي) في القرن الثالث الهجري هي مدينة محصنة إذ بنيت على حافة الجبل ويحيط بها منحدرات سحيقة ولا يمكن مهاجمتها من هذه الجهات الثلاث. ولاستكمال تحصينها عمد الأهالي إلى حفر خندق من الجهة الرابعة بعمق وعرض 3 أمتار يمتد بين حافتي الجبل. ولاستكمال المراقبة فقد بنوا قصبة (برج مربع الشكل) لمراقبة المنطقة الأضعف تحصينا جهة الخندق وبداخلها مجموعة من الدواميس (بيوت حفر) حفرت في الصخور ومجموعة من البيوت السكنية ومسجد ومعاصر ومخبز.



مصدر الصورة/ 
تصوير: عياد ناجعـة
موقع أجمل الصور في ليبيا
https://www.facebook.com/groups/libya.pic/

السبت، مارس 09، 2013

من مدن جبل نفوسة


فرسطاء*


الأستاذ/ سعيد علي حامد

الزائر أو الدارس للتجمعات الاستيطانية في منطقة جبل نفوسة يلاحظ التشابه والتماثل في مواقع قراه ومدنه وفي خصائص معمارها حيث أن جميعها تقع على منحدرات التلال وشعب محصنة ومحصورة بين أودية. وجميع هذه التجمعات تحتمي بالظروف الطبيعية للمنطقة وتتشابه في مظهرها وأسلوب بنائها والمواد المستخدمة ونمط معيشة أهلها.

فرسطاء، قرية من قرى جبل نفوسة تقع إلى الغرب من طمزين، ويمكن الوصول إليها من مدينة كاباو التي تبعد عنها بنحو 6  كيلومترات، في حين تبعد عن طرابلس في اتجاه الجنوب الغربي بنحو 240 كلم. ويمكن الوصول إليها بواسطة الطريق المعبد طرابلس، العزيزية، تيجي ويتفرع منه طريق نحو اليسار صاعدا الجبل وبعد نحو 13 كم يتفرع طريق نحو اليسار ينتهي بعد 4 كم. ليترجل الزائر سالكا طريقا صخريا منحدرا نحو الوادي فتظهر فرسطاء أمامه وقد انتشرت أطلالها على سفح جبل يمتد أسفله وادي واسع خصب هو وادي طمزين في حين يكتنفها سهل الجفارة من الشمال.
قرية فرسطاء

يستمد أهل فرسطاء الماء من عين تجري في ذلك الوادي  المليء بأشجار النخيل الزيتون ويزرع الأهالي في الأراضي المحيطة به الحبوب والبقوليات وغيرها.

أنجبت فرسطاء العديد من العلماء، ويبدو أنها كانت مزدهرة في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي. ومن المحتمل أن تأسيس المدارس في فترة مبكرة بجبل نفوسة ساعد على وجود نهضة ثقافية به. فقد ذكر الشمّاخي في سيره، أن أول مدرسة بالجبل ترجع إلى النصف الأول من القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي.

وقد أسسها بمنطقة أفطمان بالقرب من الرحيبات عمر بن يمكتن اللوّاتي. واستمر ذلك الازدهار  لفترة من الزمن. فما أن حل القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي،  حتى أخذنا نشهد في ليبيا " ما يمكن أن يسمى ( عصر النهضة الثقافية )، إلا أنها نهضة متقلصة من حيث البقعة المكانية، فهي لا تتجاوز منطقتين هما طرابلس وجبل نفوسة ."(1)  فظهرت في جبل نفوسة عدة مدارس كان لها أثرها الثقافي في المنطقة وقد نالت فرسطاء نصيبها من ذلك، فالمعلومات تؤكد على أنها كانت إبّان القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر للميلاد مفعمة بالنشاط والحراك العلمي والثقافي، وربما يعود هذا الأمر إلى استقرار عالم الجبل الكبير أبو طاهر الجيطالي، بهذه القرية وقيامه بالتدريس فيها ."(2) وكانت له شهرة واسعة فقد " كان شيخا حافظا وعالما عاقلا محافظا شديدا في الأمر والنهى ... وسكن فرسطاء من بلاد نفوسة تسعة أعوام وحملهم على السبيل المستقيم وله تآليف جليلة منها : القواعد ... منها القناطر في أجزاء كثيرة ... ومنها كتاب في الحساب وقسم الفرائض ... كتاب الحج والمناسك... وله قصائد. وإذا نظرت كتبه ظهر لك قوة حفظه وكان مستجاب الدعوة ." (3) وكتابه قناطر الخيرات " كتاب جليل الفائدة في أمور الزهد وقواعد الأخلاق."(4) وقد حققه الدكتور عمرو النامي وطبع سنة 1965ميلادية.
منظر عام للوادي 

المتتبع لتاريخ فرسطاء لا يستطيع أن يغوص في أعماق تاريخ نشأتها، فالمصادر الأثرية لا تمدنا بمعلومات عن تاريخها القديم كما أن المصادر الكلاسيكية المدونة تصمت عن ذكرها إلا أنها تعد من القرى القديمة بجبل نفوسة " وهي موجودة قبل الفتح العربي بوقت طويل. ومن المتعارف عليه أن ثمة كنيسة مسيحية بهذه القرية. وكانت قد حولت إلى مسجد بعد اعتناق الأهالي للدين الإسلامي. ولهذا فكلمة فرسطة ذاتها دليل على قدم الموقع الذي يعود إلى العهد الروماني ." (5) وهناك من الباحثين من يعزو اسم القرية ( فرسطاء ) إلى كلمة لاتينية أفريقية، ولكن بالعودة إلى أهلها فيذكرون أنها جاء من كلمة أمازيغية بمعنى المتوسطة لأنها تتوسط عدة قرى أو بمعنى التي يمكن رؤيتها من القرى المحيطة بها لأنها أقيمت على ربوة . وأقدم المصادر العربية التي تتحدث عن فرسطاء، هو كتاب أبي سعيد الفرسطائي، ويعود تاريخ هذا المصدر إلى القرن الثالث الهجري / التاسع ميلادي.

كانت قرية فرسطاء تعج بالحركة والعمران، فهي قرية زراعية غنية بمنتوجاتها ، فتوجد " بها أربع معاصر للزيتون"(6) مما يدل على وفرة انتاجه. وساهمت في تجارة القوافل العابرة لمنطقة جبل نفوسة وكان لها من الصناعة نصيب خاصة ما يتعلق منها بالصوف فتنتج بيوتها الملابس الرجالية والنسائية كالجرود والملاحف والأغطية، كما كان لها نشاط في صناعة الفخار ويدل على ذلك وجود بقايا واضحة لفرن خاص بصناعة الفخار. كما اشتهرت بمساجدها وأضرحتها التي كانت مقصد بعض أهالي القرى المجاورة ومن أهمها مسجد أبي يحيى الفرسطائي من علماء القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي والذي ساهم في نشر الإسلام في السودان الغربي وكان بعض علمائها يرتحلون رفقة قوافل التجار غايتهم نشر الإسلام بين القبائل الوثنية وقد حققوا الكثير من النجاح في ذلك.
مسجد أبي يحيى الفرسطائي
 وقد عرفت فرسطاء العديد من العلماء منهم أبو ذر صدوق وهو من أهالي القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي ، وكان مستشاراُ لحاكم الجبل  أبو زكريا ، وقد قتل أبو ذر في معركة مانو* 283 هـ / 896 م ، وكان قد بلغ في العلوم النهاية وجرى في أمر الصلاح حتي الغاية ." (7) وينتسب إليها العلامة الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر وهو من أهالي القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي ويعود إليه الفضل في تأسيس نظام العزابة في جبل نفوسة . وهذا النظام عابرة عن هيئة أو مجلس من العلماء وأهل الفضل مهمته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويقوم بجميع الوظائف الدينية والدنيوية في مجتمعات جبل نفوسة .وقد عدد الشماخي في سيره العديد من علمائها ممن كان له في العلم نصيب وفي التأليف سهم مصيب.

يبدو أن مدن وقرى جبل نفوسة ومن بينها فرسطاء استطاعت في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشرالميلادي، مزاولة نشاطها التجاري بكل طمأنينة والنأي بنفسها عن الصراعات بين المطالبين بالعرش الزيري، كما تمكنت من الابتعاد عن نزوح الهلاليين إلا أن بعض تلك المدن والقرى تعرضت لأطماع المغامرين، ففي سنة 599 هـجرية استطاع المغامر يحي بن غانية الذي استغل انشغال الموحدين في حرب بالأندلس أن يثبت أقدامه في تونس وطرابلس وأردا إخضاع جبل نفوسة لسيطرته فشن عدة غارات على بعض قراه ومدنه ويبدو أن فرسطاء لم تتأثر بتلك الغارات كثيراً، ولا يستبعد إلحاق بعض الضرر بالحياة الاقتصادية بما حولها. يذكر هنريكو دي أغسطيني في كتابه سكان ليبيا والذي صدر في سنة 1917 أن عدد سكان فرسطاء 100 نسمة وتسكنها عائلة الغرابة والجوانطة .(8)

تلتصق مباني فرسطاء بالتل، وتبدو كأنها جزء من حجارته، تفصل بين تلك المباني طرق ضيقة متعرجة يسلكها المرء ليبلغ بيته أو إلى القصر الذي يتربع على قمة التل. والقرية في شكلها العام أقرب ما تكون إلى قرية محصنة بالكامل، وكأن الهاجس الأمني هو المسيطر على سكانها فهي على ربوة تحيط به الأودية من كل جانب وتتراص بيوتها بجوار بعضها البعض مكونة في مجموعها ما يشبه الحصن. وعلى المرء أن يجتازها ليصل إلى قصرها الكبير الذي ما تزال معالمه واضحة ولم يتعرض إلى الهدم أثناء الحملة التي أرسلها وإلى طرابلس العثماني إلى منطقة جبل نفوسة عام 1843 لإخضاع أهله. وعلى العموم فإننا نلاحظ أن فرسطاء تحاكى مدينة نالوت في مظهرها وموقعها وطراز بناءها.

قصر فرسطاء
بني قصر فرسطاء على شكل مستطيل ، ويبدو من الوهلة الأولى أن وظيفته الرئيسة هي التخزين، إذ يخزن الأهالي فيه الحبوب وزيت الزيتون والسمن والصوف وغير ذلك ويقوم على حراسته حارس من ذوي الثقة والأمانة نظير أجر متقف عليه خصصت له فيه حجرة بعد مدخله مباشرة. المتمعن في القصر يلاحظ الاهتمام بالجانب الدفاعي للقصر، فهو حصين إذ ترتفع أسواره ما بين  6 و9 أمتار وله مدخل واحد يفتح في اتجاه الجنوب الشرقي، إضافة إلى حفر صهريج ( ماجن ) بداخله تنساب إليه مياه الأمطار، مع وجود برج به أو ما يعرف في منطقة جبل نفوسة بالقصبة ( بضم القاف ) وهي مرتفعة عن أسوار القصر، والغرض منها المراقبة ويبدو أن الأهالي يلجؤون إلى القصر للاحتماء به عندما يحتاجون إلى ذلك. وقد انتشرت تلك القصبات في بعض قري ومدن جبل نفوسة، كما بنيت في بعض الأراضي المنبسطة ليتمكن السكان من مراقبة المناطق المحيطة حتى لا يأخذوا على حين غرة من المهاجمين في الفترات التي ينعدم فيها الأمن، بعضها على شكل مربع والأخر على شكل مستطيل ويبلغ ارتفاع بعضها إلى نحو 10 أمتار.

مدخل قصر فرسطاء 
يضم القصر إلى ما يزيد قليلا عن مائة حجرة كل واحدة منها مقسمة في الداخل إلى عدة أجزاء لتخزين الحبوب ( القمح والشعير ) والتين والزيتون وفي بعضها نجد جراراً لمعدة تخزين زيت الزيتون. وتوجد في القصر ساحة صغيرة تستغل في عمليات المقايضة والبيع والشراء.

بنيت مباني القرية وقصرها بالحجارة والجبس والطين واستخدمت جذوع النخل وأغصان أشجار الزيتون في التسقيف وصنعت منها الأبواب والنوافذ، والقرية هجرت من قبل سكانها في ستينيات القرن العشرين حيث شيدوا مباني حديثة إلى الغرب منها بمسافة تقل عن 500 مترا، ويلاحظ أن أضرحة ومساجد القرية القديمة ماتزال تلقي الاهتمام من الأهالي فيترددون عليها ويقومون بطلائها باللون الأبيض فتظهر بين أطلال القرية ناصعة البياض ويكاد بياضها مع شعاع الشمس يغشى الأبصار. ففي وسط الوادي ضريح أبو ذر صدوق، وهناك ملتقى الجماعة (تغليس) وهو مكان يلتقى فيه الأهالي في فصلى الربيع والخريف ليتعاونوا فيساعد غنيهم فقيرهم وتصلى فيه صلاة الاستسقاء ومن المساجد مسجد ابي يحيى الفرسطائي ومسجد الحواريين ومسجد تيتفزين التندميرية التي عقد عليها الشيخ عامر العرجاني وهو من أهالي القرن العاشر الهجري وضريحه بوادى فرسطاء .

برج ( قصبة ) قصر فرسطاء 
وحتى لا نفقد جزءا من موروثنا الثقافي الذي أوجده السابقون فالأمر يتطلب رعايته وصونه من الجهات ذات العلاقة كمصلحة الاثار وجهاز المدن القديمة والهيئة العامة للسياحة والجمعيات الأهلية للتراث التكاثف والتعاضد لصيانة وترميم ما يحتاج لذلك وأن تقوم مصلحة الآثار باجراء حفريات علمية للكشف عن الآثار المدفونة والقيام بالدراسات العلمية لما هو ظاهر منها.

وكلمة ختامية فإن المرء ليؤخذ بجمال وسحر فرسطاء عندما يقف هناك ذات صباح مع شروق الشمس أو مساء حينما تتوزع الظلال فتظهر لوحة  في منتهى الجمال كأنما أبدعتها يد فنان واسع الخيال ، ولتكتمل الصورة ويتم الإستمتاع فإن الأمر يتطلب بنية تحتية سياحية من فنادق متوسطة ومطاعم سياحية وخدمات ملائمة في المنطقة وتشجيع السياحة الداخلية فمناطق الجذب السياحي في جبل نفوسة متميزة ينقصها الاهتمام والتعريف بها والدعاية لها.


الهوامش :ــ
1.      احسان عباس . تاريخ ليبيا منذ الفتح العربي حتى مطلع القرن التاسع الهجري. منشورات دار ليبيا للنشر والتوزيع ، بنغازي ، 1967م .  
2.      محمد سالم المقيد الورفلي. بعض الآثار الإسلامية بجبل نفوسة في ليبيا. منشورات مصلحة الآثار ، 2007م. ص 56
3.      أحمد بن سعيد الشماخي. كتاب السير . تحقيق أحمد بن سعود السيابي .وزارة التراث القومى والثقافة ، سلطنة عمان ، 1987م. ج2 .ص.ص.196، 197
4.      إحسان عباس .تاريخ ليبيا ص .219 .
5.      محمد سالم الورفلي . بعض الآثار الإسلامية بجبل نفوسة في ليبيا  .ص 52 .
6.      ابراهيم سليمان الشماخي . القصور والطرق لمن يريد جبل نفوسة من طرابلس(1303هـ ـ 1885م) . ترجمة أحمد الفساطوي. دراسة وتقديم امحمد البوجديدى . منشورات مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية ،2005م.ص. 248
7.      الشماخي. السير.ج1 .ص. 150
8.      ينظر : هنريكو دى أغسطيني. سكان ليبيا ( القسم الخاص بطرابلس الغرب). تعريب خليفة التليسي. منشورات الدار العربية للكتاب ، تونس ـ ليبيا ، 1978م. ص 525


*         نشر بمجلة البحوث التاريخية منشورات المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية. سنة 2012م.
•           وقعت معركة مانو في موضع بين قابس وطرابلس بين إبراهيم بن أحمد الأغلبي وحاكم جبل نفوسة وحلت هزيمة نكراء بأهل الجبل كان لها تأثير كبير عليهم.


أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...