أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الجمعة، يونيو 26، 2020

بيت القادة لا بيت العبيد




جمال اللافي

راودتني هذه الأيام رغبة شديدة بإعادة إدخال خريطة معمارية صممتها ورسمت مساقطها الأفقية على الورق في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، ونقلها على برنامج الرسم المعماري (SketchUp)، لأقوم باستكمال ما بدأته فيها وتحويل المساقط الأفقية إلى كتلة معمارية وواجهات. ومن تمّ إعادة النظر فيها وتعديلها من وجهة نظر جديدة بعد مرور كل هذا الزمن على تصميمها الأولي.

هذه الخريطة أعادتني بدورها إلى بداياتها في نفس الفترة، حين اتصل بي الفنان التشكيلي علي العباني، ليخبرني أنه قام بتزكيتي عند أحد أركان اللجان الثورية من أبناء مدينة ترهونة كان يتولى منصب مدير الشؤون الإدارية والمالية بمكتب الاتصال باللجان الثورية واسمه حسين السويعدي. وذلك لتصميم خريطة معمارية لمسكن سيخصص لقائدهم بمدينة ترهونة، تزامناً مع حملة تخصيص بيت له في كل مدينة.

حيث رأي هذا العضو باللجان الثورية، وربما كان ما خلص إليه هو نتاج حوار دار بين مجموعة من قيادات المدينة إلى جانب الفنان التشكيلي علي العباني (وفي قناعتي أنه صاحب الفكرة)، أن قائدهم كان يرفض هذه البيوت التي تقدم له في كل مدينة ويقوم بإهدائها إلى أحد زبانيته بتلك المدينة أو غيره. فتفتق ذهن هذه المجموعة على بناء مسكن بالمزرعة التي تم تخصيصها له بمنطقة الخضراء، بحيث يتمتع هذا البيت بمواصفات العمارة المحلية الريفية لمدينة ترهونة ويتم تصميمه الداخلي بعناصر تأثيث مستوحاة مما تمتاز به هذه المدينة من عناصر تأثيث ومفروشات. كذلك زراعة حديقته بأنواع النباتات العطرية والأشجار المثمرة التي تمتاز بها أيضاً مدينة ترهونة.

تحمست للفكرة بمجملها لقناعتي الشخصية أنها ستكون الفرصة التي انتظرها لتحقيق رؤيتي للعمارة المحلية بهذه المدينة مدعومة بكل الإمكانيات المادية والتقنية المطلوبة والخبرات الفنية التي ستجند له، في زمن شُحّت فيه الفرص والإمكانيات معاً. والتقيت بهذا العضو في الفندق الكبير صحبة الفنان التشكيلي علي العباني، ودار حوار حول الموضوع، وأبديت استعدادي التام لتحقيق هذه الفكرة بالصورة المطلوبة بعد توفيق الله سبحانه وتعالى لي.

مضت أيام على ذلك اللقاء وبعد زيارتي للمزرعة المخصصة لهذا المشروع بمنطقة الخضراء، جلست فيها على طاولة التصميم، حتى وصلت إلى النتيجة التي تمكنني من مناقشتها مع ذلك العضو. التقيت به في مكتبه بشارع عمر المختار، وأخبرته بأنني قد وصلت إلى النتيجة المطلوبة، الأمر الذي يستدعي الحديث حول الأمور المالية المتعلقة بأتعاب التصميم( متجاهلا نصيحة الفنان التشكيلي علي العباني بعدم الخوض في الأمور المالية وتقديم المشروع كهدية لقائدهم، الأمر الذي سيتيح لي فرصة طلب أي شيء منهم مستقبلا قد يكون مجزياً لي أكثر من ثمن الخريطة المعمارية). وكان موقفي هذا نابعاً من عدم رغبتي بالتورط معهم في تعاملات مستقبلية ليس لها علاقة بمجالي المعماري، إلى جانب اعتبار أن التنازل عن حقي المادي لإرضاء قائدهم أو أي مسؤول منهم عني هو بمثابة سقوط بالنفس في منحدر التزلف والتسول على موائدهم.
                     رد هذا المسؤول مُستهجناً: كيف!... هذا القائد ولا يصح أن تطلب مقابلاً على خدمة أُتيحت لك الفرصة لتقدمها له.
         فأجبته: الأخ القائد يملك الملايين من الأموال والسيارات والبيوت ومتزوج ولديه أبناء. أما أنا فلا أملك منها شيئا. والتصميم المعماري هو مصدر رزقي الوحيد. وأنا لا أطالب بغير حقي.
                     ابتسم، ثم سألني: كم تريد سعراً لهذه الخريطة؟
                     ذكرت له السعر المحدد لهذه الخريطة.
                     فأجابني: هل سيدفعها نقداً أم بشيك مصدق على حسابي في المصرف.
         فكان ردي: بشيك مصدق باسم مكتب الميراث للأعمال الهندسية. وحين سيتم تحويل المبلغ سأباشر بتسليم الخريطة المعمارية لكم، في حالة لم تكن هناك أي ملاحظات عليها.

انتظرت فترة طويلة تجاوزت السنة دون أن استلم المبلغ المطلوب، وبدوري لم أُسلّم في المقابل الخريطة المعمارية. حتى اتصل بي يوماً من مدينة ترهونة ابن خالتي محمود الشوشي (هما من نفس القبيلة)، ليخبرني أنهم يريدون هذه الخريطة، وأن المبلغ سيصلني، وهو الضامن لذلك.
فكان ردي عليه: سأسلمك الخريطة مادمت ضامناً لحصولي على اتعابي. وفي حالة لم تصلني هذه الأتعاب فسيكون ذلك على مسؤوليتك.
أستلم الخريطة. ولم استلم اتعابي حتى يومنا هذا.

          اليوم وأنا أرى حال مدينة ترهونة وأهلها المزري، وأين وصل بهم الحال، تذكرت هذه القصة، وتساءلت: ماذا لو استلمت حقي في وقتها. ونُفّذت هذه الخريطة كما هو مرسوم لها، مستثمرين الإمكانيات المادية والطبيعية والبشرية وتقنيات ومواد البناء المتاحة بهذه المدينة، التي ستسخر لتنفيذ هذا البيت، كيف كان سيكون تأثير هذا المشروع على مستقبل المدينة وأهلها... بالتأكيد ستكون:
     انطلاقة على منواله يحتذي بها أبناء المدينة في تصميم بيوتهم (بيوت القادة لا العبيد) ومشاريعهم العمرانية الأخرى.
      المدى الذي ستتغير به الكثير من معالم مدينة ترهونة وتحسين بيئتها العمرانية.
     حجم الفرص التي ستتولد عنه لتحسين أوضاع أبناء المدينة المعيشية من خلال فتح أبواب عمل مرتبطة بمجال البناء وملحقاته.
      جعل مدينة ترهونة نموذجاً تحتدى به باقي المدن الليبية.

قد يسهل على المسؤول الليبي الفاسد والبطانة المحيطة به أن يسرق جهد الآخرين وحقهم المادي. ويصعب عليه أن يكون له أي إسهام على أقل تقدير في إعمار مدينته وإصلاح شؤون أهلها ورعايتهم بما يستوجبه الواجب وصلة الأرحام.

كلمة حق تؤلمني كثيراً، وآلمتني أكثر حين سطّرتُها، قبل غيري من أبناء هذه المدينة. ولكن مرارة الآلام حتماً ستوقظ يوماً ما جيلاً سيأتي، يعرف لهذه المدينة حقها عليه، فيعيد إعمارها بالنفوس الخيّرة والقيم الفاضلة قبل إعمارها بالمباني المُشيّدة. فبالأخلاق تتحرر النفوس من ربقة العبودية لغير الله سبحانه وتعالى وبها تعمر المدن وتزدهر الحرف والصناعات والفنون، ويعم السلام والأمن في ربوعها والأمان بين أهلها وجيرانها.

لمدينة ترهونة بعون الله مع المستقبل فرجاً كبيراً وخيراً كثيراً. فما سقطت أمة، إلاّ وآلمت أحرارها. فأعقب سقوطها نهضة عظيمة.



الخميس، يونيو 18، 2020

نظرة على عمارة مدن البحر المتوسط

مما لا شك فيه أن هذا المبنى يتسم بالبساطة والجمال. ولكن هل يمكننا تحديد هويته؟



جمال اللافي

عمارة المدن المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط في عمومها وبلا إستثناءات إسلامية التأثر. وهي في بساطة تكويناتها وبياض سطوحها مثلما نهلت من بعضها البعض إلاّ أنها تمايزت عن بعضها في تفاصيل مفرداتها المعمارية والزخرفية ما بين الإطناب والتبسيط. كما تمايزت هذه المدن في فترة الحكم الإسلامي بتعدد ألوان سطوح مبانيها وتنوع تفاصيل مفرداتها المعمارية والزخرفية بما يعكس التمايز في دياناتها وشرائعها.
فكان بذلك اللون مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بشريعة أو عقيدة أصحاب كل بيت من بيوتها وكل مبنى من مبانيها. ولم تخضع حتى وقت قريب العهد هذه الألوان لذوق صاحب البيت أو مالك المبنى، أو لفكرة توحيد اللون في هذه المدن تبعا للعقيدة المسيطرة أو للون الأزرق باعتباره لون هذه البحيرة المتوسطية أو لون سمائها، متجاهلين بذلك (مثلاً) اللون الأخضر باعتباره لون طبيعة أراضيها السائدة، أو الأصفر باعتباره لون شمسها الساطعة طوال أشهر السنة.

مع انتشار ظاهرة الاقتصاد السياحي في منتصف القرن العشرين وسقوط الرمزية العقائدية في اختيار ألوان سطوح المباني ومفرداتها المعمارية والزخرفية، وذلك يعود لسببين جوهريين وهما:
·        انحسار المد الإسلامي على شعوب المنطقة بعد سقوط آخر معاقل الإسلام في الأندلس.
·   التغريب الثقافي الذي واكب احتلال الشعوب الاسلامية من طرف الدول الغربية وهيمنتها على المنطقة لعقود طويلة عسكرياً وإلى يومنا هذا سياسياً وتعليمياً وثقافياً.
انتشر اللون الأزرق وطغى على باقي الألون في طلاء المفردات المعمارية من أبواب وشبابيك وقباب في مدن تونس واليونان بشكل ملفت للنظر. بينما احتفظت العديد من المدن الأخرى بحالة التمايز اللوني تبعاً للعقيدة السائدة. وكانت المدن الساحلية في ليبيا الأكثر تمسكاً بثقافة اللون الأخضر إلى عهد قريب.

استلهم العديد من المعماريون الغربيون المعاصرون معمارهم المعاصر المعتمد على نقاء الكتل وبياض السطوح من العمارة التاريخية لهذه المدن، متجاهلين صرخة الحداثة وما أعقبها من صرخات الثورة على عمارة هذه المدن التاريخية والانطلاق بالعمارة من الصفر. وأضحى تحديد الهوية المعمارية لهذه التصاميم وعلاقتها بالبيئة الثقافية لكل مدينة متوسطية رهين حالتين:

الأولى مرتبطة بلون السطوح والعناصر المعمارية وذلك على هذا النحو:
·   لو طليت هذه العناصر باللون الأزرق وسطوح المباني الخارجية باللون الأبيض فسيتبادر إلى الذهن أن هذا المبنى موجود في اليونان أو تونس مع ترجيح ضعيف أنها موجودة في فرنسا.

·   أما إذا طليت هذه العناصر باللون البني وسطوح المباني الخارجية باللون الأصفر فستذهب الترجيحات المؤكدة إلى إيطاليا ثم إسبانيا وبصورة غير مؤكدة إلى ليبيا والمغرب.

·   وفي حالة طليت هذه العناصر باللون الأخضر وسطوح المباني باللون الأبيض فمن المؤكد أن المبنى موجود في ليبيا وتأتي في المرتبة الثانية إيطاليا ثم إسبانيا.

ومن هنا نستنتج مدى تأثير ثقافة اللون على الصورة الذهنية لموقع المبنى وهويته المعمارية. والاستثناءات موجودة بصورة محدودة في كل مدينة متوسطية تم ذكرها أو لم يتم التطرق إليها بالذكر.

وهذا يقودنا إلى نقطة أخرى وهي الثانية في مسألة تحديد هوية المبنى بين المدن المتشابهة في ألوان مبانيها، وهي تلك التفاصيل المعمارية والزخرفية المتعلقة بالمشغولات الخشبية كالأبواب والنوافذ وعناصر التأثيث، والمشغولات الزخرفية المعدنية المرتبطة بحديد الحماية، بالإضافة إلى الأعمال الجصية التي تدخل في زخرفة الأسقف والحوائط. فهي التي تُضفى خصوصيتها على كل مدينة من المدن المتوسطية وكل بيت من بيوتاتها تبعا لعقيدة الساكن وثقافة المدينة. وما يحدث اليوم من تجاوز لهذا الأمر يعود لمسألة انتفاء هذه الخيارات من انتمائها لثقافة العقيدة، والتماهي مع ثقافة التقليد المرتبطة بالتبعية  أو التأثر بثقافات الدول المستعمرة سواء كانت عن وعي وإدراك أو عن جهل معرفي.

إلغاء هذه التفاصيل المرتبطة باللون والزخرفة من حسابات المعماري المعاصر في تصاميمه لا يعبر عن محاولة للنأي بنفسه عما يسميه استنساخ ولصق لهذه العناصر والتفاصيل، إنما يعني ذلك أنه يفقد تصاميمه تلك الخصوصية التي تميز هوية المبنى وموقعه من رقعة هذا العالم الممتد. كما يفقد المبنى تواصله مع التاريخ، ليرمي به في منحدر الحداثة التي دعت قبل سقوطها المدوي إلى القطيعة مع الماضي (وهي تستهدف به بالدرجة الأولى ماضي الأمة الإسلامية) والانسلاخ من الهوية الثقافية المرتبطة بالعقيدة والانطلاق من نقطة الصفر (التي تعني بداية موجة الاحتلال العسكري وتوابعه التعليمية والثقافية)، التي وضع منظروها الغربيين أساساتها واتجاهاتها ومبادئها وعناصرها، وبالتالي سقوط المعماري (المسلم) من حيث يعلم أو لا يعلم في مطب التقليد المقرون بالتبعية الذي يدعي الترفع عنه.

وهنا يمكننا القول، من حيث المبدأ، قد نُقر من حيث المبدأ أن من حق هذا المعماري أن لا يصبغ عمارته بهويتها التي تعبر عن البيئة التي صممت لها، فهذا شأنه الخاص مادامت قوانين الدولة وتشريعات مبانيها تقر له بذلك. ولكن في مقابل ذلك لا يحق له أبداً الادعاء بأنه يقدم طرحاً معاصراً لعمارته المحلية بمجرد طلاء عناصر مبناه باللون الأخضر. فاللون هو أحد العناصر التي تشكل هوية المبنى وليس كل ما فيه. فاللون الأخضر منتشر في العديد من المدن المتوسطية بغض النظر عن اللون المسيطر على تلك المدينة أو عقيدة ساكنها.

ولا يفوتني هنا الإشارة إلى أن تفاصيل بعض العناصر المعمارية كفتحات النوافذ في مساحتها التي تتسع أو تضيق طولاً وعرضاً تبعاً للظروف المناخية والمؤثرات الاجتماعية، بين بيئة تبحث عن الحماية من أشعة الشمس الساطعة وارتفاع درجات حرارة الجو، والبحث عن الخصوصية. وبيئة أخرى باردة- في غالب فصول السنة- تبحث عن الدفء المفقود، ولا تضع اعتباراً للخصوصية في جميع الأحوال. بل وصل الأمر بالعمارة الأوروبية المسيحية الاتجاه إلى زيادة رقعة المساحات المفتوحة (النوافذ) من حيث العدد في الواجهة الواحدة وأبعادها دون مراعاة لمسألة سطوع الشمس وارتفاع درجات الحرارة في الدول المتوسطية المقابلة للشاطئ الأوروبي ضاربين بالخصوصية عرض الحائط السميك.

كذلك لا يعني الانفتاح على الأفنية والاتجاه بفتحات المبنى إلى الداخل أننا اكتفينا بهذا الحل للتعبير عن انتماء المبنى لعمارته المحلية. فهذه أيضا من القواسم المشتركة لعمارة مدن البحر المتوسط وغيرها من العمائر التاريخية والمعاصرة.

وأخيرا/
أن مرد هذه السطحية التي يتعامل بها المعماري في تصاميمه، وتلك النظرة القاصره في فهمه لمعنى التأصيل والمعاصرة، ناتج بالدرجة الأولى عن فقره المعرفي الذي يحدد ضحالة ما يدعيه، وهو الأمر نفسه الذي يدفع غيره من أفراد المجتمع إلى القبول بهذا المنتوج الذي يقدمه لهم هذا المعماري أو ذاك على علاته دون مراجعة أو تمحيص وفي الغالب دون مبالاة، في ظل الجهل المعرفي الذي أحاط بأفراد المجتمع بخواصه وعوامه. بل أن جهل الخواص أشد من جهل العوام. وهم من قاد مسيرة التجهيل لتصل إلى ما نحن عليه اليوم من تطاول على الموروث الثقافي، وخوض محموم في أوحال التبعية وقذاراتها المنتشرة اليوم في مدننا المعاصرة تحت مسمى الحداثة والمعاصرة.



المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية