التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بيت القادة لا بيت العبيد




جمال اللافي

راودتني هذه الأيام رغبة شديدة بإعادة إدخال خريطة معمارية صممتها ورسمت مساقطها الأفقية على الورق في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، ونقلها على برنامج الرسم المعماري (SketchUp)، لأقوم باستكمال ما بدأته فيها وتحويل المساقط الأفقية إلى كتلة معمارية وواجهات. ومن تمّ إعادة النظر فيها وتعديلها من وجهة نظر جديدة بعد مرور كل هذا الزمن على تصميمها الأولي.

هذه الخريطة أعادتني بدورها إلى بداياتها في نفس الفترة، حين اتصل بي الفنان التشكيلي علي العباني، ليخبرني أنه قام بتزكيتي عند أحد أركان اللجان الثورية من أبناء مدينة ترهونة كان يتولى منصب مدير الشؤون الإدارية والمالية بمكتب الاتصال باللجان الثورية واسمه حسين السويعدي. وذلك لتصميم خريطة معمارية لمسكن سيخصص لقائدهم بمدينة ترهونة، تزامناً مع حملة تخصيص بيت له في كل مدينة.

حيث رأي هذا العضو باللجان الثورية، وربما كان ما خلص إليه هو نتاج حوار دار بين مجموعة من قيادات المدينة إلى جانب الفنان التشكيلي علي العباني (وفي قناعتي أنه صاحب الفكرة)، أن قائدهم كان يرفض هذه البيوت التي تقدم له في كل مدينة ويقوم بإهدائها إلى أحد زبانيته بتلك المدينة أو غيره. فتفتق ذهن هذه المجموعة على بناء مسكن بالمزرعة التي تم تخصيصها له بمنطقة الخضراء، بحيث يتمتع هذا البيت بمواصفات العمارة المحلية الريفية لمدينة ترهونة ويتم تصميمه الداخلي بعناصر تأثيث مستوحاة مما تمتاز به هذه المدينة من عناصر تأثيث ومفروشات. كذلك زراعة حديقته بأنواع النباتات العطرية والأشجار المثمرة التي تمتاز بها أيضاً مدينة ترهونة.

تحمست للفكرة بمجملها لقناعتي الشخصية أنها ستكون الفرصة التي انتظرها لتحقيق رؤيتي للعمارة المحلية بهذه المدينة مدعومة بكل الإمكانيات المادية والتقنية المطلوبة والخبرات الفنية التي ستجند له، في زمن شُحّت فيه الفرص والإمكانيات معاً. والتقيت بهذا العضو في الفندق الكبير صحبة الفنان التشكيلي علي العباني، ودار حوار حول الموضوع، وأبديت استعدادي التام لتحقيق هذه الفكرة بالصورة المطلوبة بعد توفيق الله سبحانه وتعالى لي.

مضت أيام على ذلك اللقاء وبعد زيارتي للمزرعة المخصصة لهذا المشروع بمنطقة الخضراء، جلست فيها على طاولة التصميم، حتى وصلت إلى النتيجة التي تمكنني من مناقشتها مع ذلك العضو. التقيت به في مكتبه بشارع عمر المختار، وأخبرته بأنني قد وصلت إلى النتيجة المطلوبة، الأمر الذي يستدعي الحديث حول الأمور المالية المتعلقة بأتعاب التصميم( متجاهلا نصيحة الفنان التشكيلي علي العباني بعدم الخوض في الأمور المالية وتقديم المشروع كهدية لقائدهم، الأمر الذي سيتيح لي فرصة طلب أي شيء منهم مستقبلا قد يكون مجزياً لي أكثر من ثمن الخريطة المعمارية). وكان موقفي هذا نابعاً من عدم رغبتي بالتورط معهم في تعاملات مستقبلية ليس لها علاقة بمجالي المعماري، إلى جانب اعتبار أن التنازل عن حقي المادي لإرضاء قائدهم أو أي مسؤول منهم عني هو بمثابة سقوط بالنفس في منحدر التزلف والتسول على موائدهم.
                     رد هذا المسؤول مُستهجناً: كيف!... هذا القائد ولا يصح أن تطلب مقابلاً على خدمة أُتيحت لك الفرصة لتقدمها له.
         فأجبته: الأخ القائد يملك الملايين من الأموال والسيارات والبيوت ومتزوج ولديه أبناء. أما أنا فلا أملك منها شيئا. والتصميم المعماري هو مصدر رزقي الوحيد. وأنا لا أطالب بغير حقي.
                     ابتسم، ثم سألني: كم تريد سعراً لهذه الخريطة؟
                     ذكرت له السعر المحدد لهذه الخريطة.
                     فأجابني: هل سيدفعها نقداً أم بشيك مصدق على حسابي في المصرف.
         فكان ردي: بشيك مصدق باسم مكتب الميراث للأعمال الهندسية. وحين سيتم تحويل المبلغ سأباشر بتسليم الخريطة المعمارية لكم، في حالة لم تكن هناك أي ملاحظات عليها.

انتظرت فترة طويلة تجاوزت السنة دون أن استلم المبلغ المطلوب، وبدوري لم أُسلّم في المقابل الخريطة المعمارية. حتى اتصل بي يوماً من مدينة ترهونة ابن خالتي محمود الشوشي (هما من نفس القبيلة)، ليخبرني أنهم يريدون هذه الخريطة، وأن المبلغ سيصلني، وهو الضامن لذلك.
فكان ردي عليه: سأسلمك الخريطة مادمت ضامناً لحصولي على اتعابي. وفي حالة لم تصلني هذه الأتعاب فسيكون ذلك على مسؤوليتك.
أستلم الخريطة. ولم استلم اتعابي حتى يومنا هذا.

          اليوم وأنا أرى حال مدينة ترهونة وأهلها المزري، وأين وصل بهم الحال، تذكرت هذه القصة، وتساءلت: ماذا لو استلمت حقي في وقتها. ونُفّذت هذه الخريطة كما هو مرسوم لها، مستثمرين الإمكانيات المادية والطبيعية والبشرية وتقنيات ومواد البناء المتاحة بهذه المدينة، التي ستسخر لتنفيذ هذا البيت، كيف كان سيكون تأثير هذا المشروع على مستقبل المدينة وأهلها... بالتأكيد ستكون:
     انطلاقة على منواله يحتذي بها أبناء المدينة في تصميم بيوتهم (بيوت القادة لا العبيد) ومشاريعهم العمرانية الأخرى.
      المدى الذي ستتغير به الكثير من معالم مدينة ترهونة وتحسين بيئتها العمرانية.
     حجم الفرص التي ستتولد عنه لتحسين أوضاع أبناء المدينة المعيشية من خلال فتح أبواب عمل مرتبطة بمجال البناء وملحقاته.
      جعل مدينة ترهونة نموذجاً تحتدى به باقي المدن الليبية.

قد يسهل على المسؤول الليبي الفاسد والبطانة المحيطة به أن يسرق جهد الآخرين وحقهم المادي. ويصعب عليه أن يكون له أي إسهام على أقل تقدير في إعمار مدينته وإصلاح شؤون أهلها ورعايتهم بما يستوجبه الواجب وصلة الأرحام.

كلمة حق تؤلمني كثيراً، وآلمتني أكثر حين سطّرتُها، قبل غيري من أبناء هذه المدينة. ولكن مرارة الآلام حتماً ستوقظ يوماً ما جيلاً سيأتي، يعرف لهذه المدينة حقها عليه، فيعيد إعمارها بالنفوس الخيّرة والقيم الفاضلة قبل إعمارها بالمباني المُشيّدة. فبالأخلاق تتحرر النفوس من ربقة العبودية لغير الله سبحانه وتعالى وبها تعمر المدن وتزدهر الحرف والصناعات والفنون، ويعم السلام والأمن في ربوعها والأمان بين أهلها وجيرانها.

لمدينة ترهونة بعون الله مع المستقبل فرجاً كبيراً وخيراً كثيراً. فما سقطت أمة، إلاّ وآلمت أحرارها. فأعقب سقوطها نهضة عظيمة.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التهوية الطبيعية في المباني

م/ آمنه العجيلى تنتوش المقدمة تتوقف الراحة الفسيولوجية للإنسان على الثأتير الشامل لعدة عوامل ومنها العوامل المناخية مثل درجة الحرارة والرطوبة وحركة الهواء والإشعاع الشمسي . وللتهوية داخل المبنى أهمية كبيرة وتعتبر إحدى العناصر الرئيسية في المناخ ونق الانطلاق في تصميم المباني وارتباطها المباشر معها فالتهوية والتبريد الطبيعيين مهمان ودورهما كبير في تخفيف وطأة الحر ودرجات الحرارة الشديدة ، بل هما المخرج الرئيسي لأزمة الاستهلاك في الطاقة إلى حد كبير لأن أزمة الاستهلاك في الطاقة مردها التكييف الميكانيكي والاعتماد عليه كبير والذي نريده فراغات تتفاعل مع هذه المتغيرات المناخية أي نريد أن نلمس نسمة هواء الصيف العليلة تنساب في دورنا ومبانينا ونريد الاستفادة من الهواء وتحريكه داخل بيئتنا المشيدة لإزاحة التراكم الحراري وتعويضه بزخات من التيارات الهوائية المتحركة المنعشة . فكل شي طبيعي عادة جميل وتتقبله النفس وترتاح له فضلا عن مزاياه الوظيفية . وعلى المعماري كمبدأ منطقي عام البدء بتوفير الراحة طبيعياً ومعمارياً كلما أمكن ذلك ومن تم استكملها بالوسائل الصناعية لتحقيق أكبر قدر ممكن ...

بيوت الحضر: رؤ ية معاصرة للمسكن الطرابلسي التقليدي

تصميم وعرض/ جمال الهمالي اللافي في هذا العرض نقدم محاولة لا زالت قيد الدراسة، لثلاثة نماذج سكنية تستلهم من البيت الطرابلسي التقليدي قيمه الفكرية والاجتماعية والمعمارية والجمالية، والتي اعتمدت على مراعاة عدة اعتبارات اهتم بها البيت التقليدي وتميزت بها مدينة طرابلس القديمة شأنها في ذلك شأن كل المدن العربية والإسلامية التقليدية وهي: · الاعتبار المناخي. · الاعتبار الاجتماعي ( الخصوصية السمعية والبصرية/ الفصل بين الرجال والنساء). · اعتبارات الهوية الإسلامية والثقافة المحلية. أولا/ الاعتبار المناخي: تم مراعاة هذا الاعتبار من خلال إعادة صياغة لعلاقة الكتلة بمساحة الأرض المخصصة للبناء، بحيث تمتد هذه الكتلة على كامل المساحة بما فيها الشارع، والاعتماد على فكرة اتجاه المبنى إلى الداخل، وانفتاحه على الأفنية الداخلية، دون اعتبار لفكرة الردود التي تفرضها قوانين المباني المعتمدة كشرط من شروط البناء( التي تتنافى شروطها مع عوامل المناخ السائد في منطقتنا ). وتعتبر فكرة الكتل المتلاصقة معالجة مناخية تقليدية، أصبح الساكن أحوج إليها من ذي قبل بعد الاستغناء عن البنا...

المعلم/ علي سعيد قانة

موسوعة الفن التشكيلي في ليبيا 1936- 2006 جمال الهمالي اللافي الفنان التشكيلي" علي سعيد قانة " هو أبرز الفنانين التشكيليين الذين عرفتهم الساحة التشكيلية في ليبيا... انخرط في هذا المجال منذ نحو أربعة عقود. ولد بمدينة طرابلس الموافق 6/6/1936 ف ترعرع في منطقة سيدي سالم (باب البحر) بمدينة طرابلس القديمة.والتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما- إيطاليا سنة 1957 وتخصص في مجال النحت بمدرسة سان جاكومو للفنون الزخرفية، كما حرص خلال وجوده في روما على دعم قدراته الفنية من خلال دورات تخصصية في مجال الرسم الحر والطباعة والسباكة وبرز في هذه المجالات جميعا.• التحق عند عودته إلى ارض الوطن بمعهد للمعلمين ( ابن منظور ) للتدريس سنة 1964ف• انتقل للتدريس بكلية التربية جامعة الفاتح سنة1973 ف• انضم إلى كلية الهندسة/ جامعة الفاتح بقسم العمارة والتخطيط العمراني سنة 1974- وتولى تدريس أسس التصميم و الرسم الحر لغاية تقاعده سنة 2001 ف• عمل مستشارا للشئون الفنية بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة. مساهماته الفنية/ اقتنى متحف مدينة باري للفنون بإيطاليا لوحتين من أعماله الفني...