مما لا شك فيه أن هذا المبنى يتسم بالبساطة والجمال. ولكن هل يمكننا تحديد هويته؟ |
جمال اللافي
عمارة
المدن المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط في عمومها وبلا إستثناءات إسلامية التأثر.
وهي في بساطة تكويناتها وبياض سطوحها مثلما نهلت من بعضها البعض إلاّ أنها تمايزت
عن بعضها في تفاصيل مفرداتها المعمارية والزخرفية ما بين الإطناب والتبسيط. كما
تمايزت هذه المدن في فترة الحكم الإسلامي بتعدد ألوان سطوح مبانيها وتنوع تفاصيل
مفرداتها المعمارية والزخرفية بما يعكس التمايز في دياناتها وشرائعها.
فكان بذلك اللون
مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بشريعة أو عقيدة أصحاب كل بيت من بيوتها وكل مبنى من
مبانيها. ولم تخضع حتى وقت قريب العهد هذه الألوان لذوق صاحب البيت أو مالك
المبنى، أو لفكرة توحيد اللون في هذه المدن تبعا للعقيدة المسيطرة أو للون الأزرق
باعتباره لون هذه البحيرة المتوسطية أو لون سمائها، متجاهلين بذلك (مثلاً) اللون
الأخضر باعتباره لون طبيعة أراضيها السائدة، أو الأصفر باعتباره لون شمسها الساطعة
طوال أشهر السنة.
مع
انتشار ظاهرة الاقتصاد السياحي في منتصف القرن العشرين وسقوط الرمزية العقائدية في
اختيار ألوان سطوح المباني ومفرداتها المعمارية والزخرفية، وذلك يعود لسببين
جوهريين وهما:
·
انحسار المد
الإسلامي على شعوب المنطقة بعد سقوط آخر معاقل الإسلام في الأندلس.
·
التغريب الثقافي
الذي واكب احتلال الشعوب الاسلامية من طرف الدول الغربية وهيمنتها على المنطقة
لعقود طويلة عسكرياً وإلى يومنا هذا سياسياً وتعليمياً وثقافياً.
انتشر اللون
الأزرق وطغى على باقي الألون في طلاء المفردات المعمارية من أبواب وشبابيك وقباب
في مدن تونس واليونان بشكل ملفت للنظر. بينما احتفظت العديد من المدن الأخرى بحالة
التمايز اللوني تبعاً للعقيدة السائدة. وكانت المدن الساحلية في ليبيا الأكثر
تمسكاً بثقافة اللون الأخضر إلى عهد قريب.
استلهم
العديد من المعماريون الغربيون المعاصرون معمارهم المعاصر المعتمد على نقاء الكتل
وبياض السطوح من العمارة التاريخية لهذه المدن، متجاهلين صرخة الحداثة وما أعقبها
من صرخات الثورة على عمارة هذه المدن التاريخية والانطلاق بالعمارة من الصفر. وأضحى
تحديد الهوية المعمارية لهذه التصاميم وعلاقتها بالبيئة الثقافية لكل مدينة
متوسطية رهين حالتين:
الأولى مرتبطة بلون
السطوح والعناصر المعمارية وذلك على هذا النحو:
·
لو طليت هذه
العناصر باللون الأزرق وسطوح المباني الخارجية باللون الأبيض فسيتبادر إلى الذهن
أن هذا المبنى موجود في اليونان أو تونس مع ترجيح ضعيف أنها موجودة في فرنسا.
·
أما إذا طليت
هذه العناصر باللون البني وسطوح المباني الخارجية باللون الأصفر فستذهب الترجيحات
المؤكدة إلى إيطاليا ثم إسبانيا وبصورة غير مؤكدة إلى ليبيا والمغرب.
·
وفي حالة طليت
هذه العناصر باللون الأخضر وسطوح المباني باللون الأبيض فمن المؤكد أن المبنى
موجود في ليبيا وتأتي في المرتبة الثانية إيطاليا ثم إسبانيا.
ومن
هنا نستنتج مدى تأثير ثقافة اللون على الصورة الذهنية لموقع المبنى وهويته
المعمارية. والاستثناءات موجودة بصورة محدودة في كل مدينة متوسطية تم ذكرها أو لم
يتم التطرق إليها بالذكر.
وهذا
يقودنا إلى نقطة أخرى وهي الثانية في مسألة تحديد هوية المبنى بين المدن
المتشابهة في ألوان مبانيها، وهي تلك التفاصيل المعمارية والزخرفية المتعلقة
بالمشغولات الخشبية كالأبواب والنوافذ وعناصر التأثيث، والمشغولات الزخرفية
المعدنية المرتبطة بحديد الحماية، بالإضافة إلى الأعمال الجصية التي تدخل في زخرفة
الأسقف والحوائط. فهي التي تُضفى خصوصيتها على كل مدينة من المدن المتوسطية وكل
بيت من بيوتاتها تبعا لعقيدة الساكن وثقافة المدينة. وما يحدث اليوم من تجاوز
لهذا الأمر يعود لمسألة انتفاء هذه الخيارات من انتمائها لثقافة العقيدة، والتماهي
مع ثقافة التقليد المرتبطة بالتبعية أو
التأثر بثقافات الدول المستعمرة سواء كانت عن وعي وإدراك أو عن جهل معرفي.
إلغاء
هذه التفاصيل المرتبطة باللون والزخرفة من حسابات المعماري المعاصر في تصاميمه لا
يعبر عن محاولة للنأي بنفسه عما يسميه استنساخ ولصق لهذه العناصر والتفاصيل، إنما
يعني ذلك أنه يفقد تصاميمه تلك الخصوصية التي تميز هوية المبنى وموقعه من رقعة هذا
العالم الممتد. كما يفقد المبنى تواصله مع التاريخ، ليرمي به في منحدر الحداثة
التي دعت قبل سقوطها المدوي إلى القطيعة مع الماضي (وهي تستهدف به بالدرجة الأولى
ماضي الأمة الإسلامية) والانسلاخ من الهوية الثقافية المرتبطة بالعقيدة والانطلاق
من نقطة الصفر (التي تعني بداية موجة الاحتلال العسكري وتوابعه التعليمية
والثقافية)، التي وضع منظروها الغربيين أساساتها واتجاهاتها ومبادئها وعناصرها،
وبالتالي سقوط المعماري (المسلم) من حيث يعلم أو لا يعلم في مطب التقليد المقرون
بالتبعية الذي يدعي الترفع عنه.
وهنا
يمكننا القول، من حيث المبدأ، قد نُقر من حيث المبدأ أن من حق هذا المعماري أن لا
يصبغ عمارته بهويتها التي تعبر عن البيئة التي صممت لها، فهذا شأنه الخاص مادامت
قوانين الدولة وتشريعات مبانيها تقر له بذلك. ولكن في مقابل ذلك لا يحق له أبداً الادعاء
بأنه يقدم طرحاً معاصراً لعمارته المحلية بمجرد طلاء عناصر مبناه باللون الأخضر.
فاللون هو أحد العناصر التي تشكل هوية المبنى وليس كل ما فيه. فاللون الأخضر منتشر
في العديد من المدن المتوسطية بغض النظر عن اللون المسيطر على تلك المدينة أو
عقيدة ساكنها.
ولا
يفوتني هنا الإشارة إلى أن تفاصيل بعض العناصر المعمارية كفتحات النوافذ في
مساحتها التي تتسع أو تضيق طولاً وعرضاً تبعاً للظروف المناخية والمؤثرات
الاجتماعية، بين بيئة تبحث عن الحماية من أشعة الشمس الساطعة وارتفاع درجات حرارة
الجو، والبحث عن الخصوصية. وبيئة أخرى باردة- في غالب فصول السنة- تبحث عن الدفء
المفقود، ولا تضع اعتباراً للخصوصية في جميع الأحوال. بل وصل الأمر بالعمارة
الأوروبية المسيحية الاتجاه إلى زيادة رقعة المساحات المفتوحة (النوافذ) من حيث
العدد في الواجهة الواحدة وأبعادها دون مراعاة لمسألة سطوع الشمس وارتفاع درجات
الحرارة في الدول المتوسطية المقابلة للشاطئ الأوروبي ضاربين بالخصوصية عرض الحائط
السميك.
كذلك
لا يعني الانفتاح على الأفنية والاتجاه بفتحات المبنى إلى الداخل أننا اكتفينا
بهذا الحل للتعبير عن انتماء المبنى لعمارته المحلية. فهذه أيضا من القواسم
المشتركة لعمارة مدن البحر المتوسط وغيرها من العمائر التاريخية والمعاصرة.
وأخيرا/
أن
مرد هذه السطحية التي يتعامل بها المعماري في تصاميمه، وتلك النظرة القاصره في
فهمه لمعنى التأصيل والمعاصرة، ناتج بالدرجة الأولى عن فقره المعرفي الذي يحدد ضحالة
ما يدعيه، وهو الأمر نفسه الذي يدفع غيره من أفراد المجتمع إلى القبول بهذا
المنتوج الذي يقدمه لهم هذا المعماري أو ذاك على علاته دون مراجعة أو تمحيص وفي
الغالب دون مبالاة، في ظل الجهل المعرفي الذي أحاط بأفراد المجتمع بخواصه وعوامه.
بل أن جهل الخواص أشد من جهل العوام. وهم من قاد مسيرة التجهيل لتصل إلى ما نحن
عليه اليوم من تطاول على الموروث الثقافي، وخوض محموم في أوحال التبعية وقذاراتها
المنتشرة اليوم في مدننا المعاصرة تحت مسمى الحداثة والمعاصرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق