أي لغة نُدرّس بها العمارة؟
جمال الهمالي اللافي
موجز المقالة
أي لغة نصنع بها المعماري؟ سؤال يتجاوز حدود القاعة الدراسية ليصل إلى عمق الوعي والهوية. فاللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي وعاء للفكر، وحامل للثقافة، ومفتاح لإدراك الزمن والمكان. حين يتعلم الطالب بلغته الأم، يتماهى مع جذوره ويصوغ خطاباً معمارياً متجذراً في بيئته، أما حين يُفرض عليه التفكير بلغة الآخر، فقد يجد نفسه أسيراً لرؤية لا تخصه. هذه المقالة تفتح النقاش حول لغة تدريس مناهج العمارة، بين الهوية والانفتاح، بين المحلية والعالمية، مستحضرةً نماذج راسخة مثل مكية والجادرجي، ومحذّرة من غواية التفكيك كنظرية وتطبيق. لتخلص إلى أن اختيار لغة التدريس ليس قراراً تقنياً، بل هو قرار سيادي يرسم مستقبل العمارة، ويحدد أي معمار نصنعه للأجيال القادمة.
يطرح
التعليم المعماري سؤالاً مصيرياً: بأي لغة نصوغ وعي الطالب ونفتح أمامه أبواب
التفكير النقدي؟ هل نكتفي باللغات الأجنبية ومصطلحاتها، فنُدخل الطالب في مسار قد
يقوده إلى الاغتراب، أم نمنحه لغة بيئته المحلية بما تحمل من عمق وثراء وارتباط
بالإنسان والمكان؟
اللغة وتشكل
الوعي
لقد
أثبتت الدراسات اللسانية أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي أداة لتشكيل
الوعي ذاته. فهي تحدد كيف يفكر الإنسان، وكيف يرى العالم، وكيف يعيد إنتاج القيم
والمعاني في حياته اليومية.
· اللغة كحامل للثقافة: اللغة
تنقل القيم الحضارية وتعيد إنتاجها في ذهن المتلقي. فهي ليست محايدة، بل مشبعة
بالتصورات الثقافية والدينية والسياسية. الطالب الذي يتعلم بلغته الأم يتشرب هذه
القيم ويعيد صياغتها في خطابه المعماري، بينما الطالب الذي يُفرض عليه التفكير
بلغة أجنبية قد يجد نفسه أسيراً لقيم لا تنتمي إلى بيئته.
· اللغة كأداة إدراك: علم
اللغة المعرفي يوضح أن المفاهيم التي نصوغها مرتبطة بالبنية اللغوية، أي أن طريقة
التعبير تحدد طريقة التفكير. على سبيل المثال، لغات ذات تراكيب زمنية مختلفة تؤثر
في إدراك الزمن والحدث. وهذا يعني أن اللغة التي يُدرّس بها المنهج تحدد طريقة
إدراك الطالب للفضاء والزمن، وهما جوهر العمارة.
· اللغة والصراع المعرفي: هناك
أبحاث تؤكد أن الصراع اللغوي في المجتمعات ليس مجرد مسألة تواصل، بل هو صراع على
تشكيل الوعي والسيطرة على المعنى. حين تُفرض لغة أجنبية على التعليم، فإنها لا
تنقل المعرفة فقط، بل تفرض أيضاً منظومة فكرية قد تُوجّه الطالب نحو توجهات لا
تخدم بيئته ولا مجتمعه.
اللغة
المنطوقة كمسار للتفكير الواعي
اللغة
التي يُدرّس بها المنهج ليست تفصيلاً تقنياً، بل هي قرار يحدد مسار التفكير
المعماري للأجيال القادمة. التركيز على اللغة العربية، بما تحمله من عمق وثراء في
الألفاظ والحروف وامتداد تاريخي متصل بالمعتقد الإسلامي، يمنح الطالب مساراً
للتفكير يتماهى مع هذه اللغة ويستوعب أبعادها الثقافية والروحية. فاللغة ليست مجرد
وسيلة للتواصل، بل هي وعاء للفكر، ومفتاح لفهم الذات والبيئة.
رموز ومعالم
إن
استحضار فكر المعماريين الكبار مثل محمد مكية ورفعت الجادرجي يفتح أمام الطلاب
باباً لفهم العمارة كخطاب نقدي أصيل، لا كموضة عابرة. هؤلاء علّمونا أن العمارة
موقف فكري وأخلاقي قبل أن تكون شكلاً بصرياً.
التفكيكية:
النظرية والتطبيق
أما
عمارة التفكيك، فهي ليست مجرد أشكال هندسية متكسرة، بل نظرية فكرية تسعى إلى هدم
الثوابت وإعادة تركيبها في صورة بصرية صادمة. لكن تطبيقاتها كثيراً ما تتحول إلى
استعراض شكلي يقطع الصلة بالجذور، ويحوّل العمارة إلى مشهد بصري بلا مضمون. الطالب
الذي يُدفع إلى هذا المسار يفقد القدرة على إنتاج عمارة تخدم الإنسان والبيئة،
ويصبح تابعاً لصرخات السوق لا لنداء المكان.
أثر اللغة
على البحث العلمي والمجتمع
اعتماد
اللغة المحلية في تدريس العمارة لا يقتصر على تكوين الطالب، بل ينعكس على جودة
البحث العلمي. فحين تُكتب الدراسات بلغة البيئة، تصبح أكثر ارتباطاً بمشكلاتها العمرانية،
وأكثر قدرة على تقديم حلول واقعية. أما حين تُكتب بلغة أجنبية، فإنها كثيراً ما
تُوجَّه إلى بيئات أخرى، بعيدة عن الواقع المحلي.
كما أن
تدريس العمارة باللغة المحلية يسهّل وصول المعرفة إلى المجتمع، ويجعل الخطاب
المعماري مفهوماً للمهندسين والفنيين والجهات التنفيذية، لا محصوراً في نخبة تتقن
الإنجليزية. هذا يعزز التكامل بين المعماري والمجتمع، ويمنع عزله في برج لغوي مغلق.
سياسات
التعليم ومسؤولية صناع القرار
إن
اعتماد اللغة المحلية في تدريس العمارة هو حماية للهوية وضمان لسيادة معرفية تنطلق
من البيئة والإنسان. أما اللغات الأجنبية، فيجب أن تبقى في موقعها الطبيعي كمادة
مساعدة، تفتح أبواب التحصيل العلمي لمن يرغب في مواصلة دراسته في الخارج، دون أن
تتحول إلى لغة التفكير الأساسية التي قد تفرض على الطالب أن يرى بعين الآخر قبل أن
يرى بعينه.
تجارب
دولية عديدة تثبت أن التعليم المعماري يمكن أن يُدرّس باللغة الوطنية (كما في
اليابان أو ألمانيا)، ومع ذلك يظل منفتحاً على العالم. وهذا يبرهن أن الهوية لا
تتعارض مع العالمية، بل هي شرطها الحقيقي.
خاتمة
إن تعليم
اللغة الأجنبية لا يُرفض، لكنه يوضع في موقعه الطبيعي: أداة مساعدة، لا جوهر
التكوين. أما جوهر العمارة فيبقى في فهم المكان، والإنسان، والهوية، وصياغة خطاب
نقدي معاصر ينطلق من الجذور ليواجه تحديات العصر. العمارة ليست زخرفة أو تقليداً،
بل لغة حياة.
فأي لغة نصنع بها المعماري؟ وأي مستقبل نرسمه حين
نختار لغة التدريس؟
المراجع
- عمروش عبد الحميد، اللغة وتشكيل الوعي:
حفريات معرفية في اللغة والثقافة والمصطلح، مجلة إشكالات في
اللغة والأدب، المجلد 10، العدد 4، 2021.
- جورج لاكوف ومارك جونسن، الاستعارات
التي نحيا بها (Metaphors
We Live By)،
1980.
- جورج لاكوف ومارك جونسن، الفلسفة
في الجسد (Philosophy
in the Flesh)،
1999.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق