حوار تأملي بين المفكر والحكيم
جمال
الهمالي اللافي
في زمنٍ
تتكاثر فيه المباني وتقلّ فيه المعاني، يصبح الحديث عن المدينة حديثًا عن الذات،
وعن العمارة حديثًا عن الوعي. هذا الحوار لا يُقدّم إجابات جاهزة، بل يُعيد فتح
الأسئلة التي تُهمّش عادةً خلف زخرفة الواجهات. بين المفكر الذي يرى بعينٍ
تحليلية، والحكيم الذي ينفذ ببصيرته إلى جوهر الأشياء، تتكشّف المدينة ككائن حيّ،
لا كخريطة، وكخطابٍ بصريّ، لا كزينة.
المفكر:
أنظر إلى
المدينة، فأراها تتبدل كل يوم. الخرائط تتغير، المباني
تتكاثر، لكن شيئًا ما يظل غائبًا. كأنها تبصر، لكنها لا ترى نفسها.
الحكيم:
لأنها لم
تُصغِ بعد لصوتها الداخلي. المدينة لا تُعرّف
بجدرانها، بل بما تحتضنه من معنى. وحين تُبنى بلا وعي، تُعيد إنتاج الغربة.
المفكر:
هل العمارة تُعبّر عنّا؟ أم أننا نُسقط عليها ما
نريد أن نقوله؟
هل يمكن للمدينة أن تحمل هوية، لا مجرد وظيفة؟
الحكيم:
العمارة
ليست حيادية. هي موقف، وهي ذاكرة، وهي
أحيانًا صرخة مكتومة. حين نبني بلا معنى، نُكرّس
الغفلة. وحين نُرمّم بلا وعي،
نُعيد إنتاج التشويه.
المفكر:
طرابلس القديمة، مثلاً، هل ما زالت تتكلم؟
أم أن صمتها هو صمت من لم يُصغِ لها؟
الحكيم:
هي لا
تصمت، لكنها تُهمّش. كل قوسٍ مهمل، كل نافذة
مطموسة، تحمل سردية لم تُكتب بعد. المدينة تُقاوم النسيان، لكنها تحتاج من يُنصت، لا من يُراقب فقط.
المفكر:
أرى
فراغات بلا وظيفة، زخرفة بلا معنى، تصميمًا بلا كرامة. هل هذا هو التقدم؟ أم تكرارٌ بلا وعي؟
الحكيم:
التقدم
لا يُقاس بالارتفاع، بل بالاتساق. العمارة التي تنسى
الإنسان، تُنتج ما لا يُسكن. والمعماري حين يُصمّم
للعرض، يُقصي الوظيفة، ويُهين الكرامة.
المفكر:
هل يمكن للمعماري أن يُعيد تشكيل المدينة؟
أم أنه مجرد منفّذ لما يُطلب منه؟
الحكيم:
المعماري
الحقيقي لا يُصمّم مبنى، بل يُصمّم معنى. هو من يربط الإنسان بالمكان، ويعيد للفراغ روحه. وإن غاب وعيه، تحوّل إلى أداة في يد الغفلة، لا في يد الوعي.
المفكر:
إذاً،
نحن لا نُصمّم المدينة فقط، بل نُصمّم علاقتنا بها. هل يمكن للمدينة أن تُشفى؟ أن تستعيد خطابها، صدقها، هويتها؟
الحكيم:
نعم، حين
نكفّ عن التعامل معها كسلعة، ونبدأ في رؤيتها ككائن حيّ. حين نُعيد الاعتبار للبساطة، للصدق، للوظيفة التي تحترم الإنسان. وحين نُدرك أن كل حجرٍ فيها إما أن يكون شاهدًا على وعي، أو أثرًا
لغفلة.
بالطبع يا جمال، إليك خاتمة متزنة تُلخّص جوهر الحوار، وتُعبّر
عن رؤيتك دون استعراض، بل بلغة تأملية واضحة، تُغلق النص دون أن تُغلق التفكير:
المدينة ليست ما نُشيّده، بل
ما نُصغي إليه
هذا الحوار لا يُنهي الأسئلة،
بل يُعيد ترتيبها. فالمدينة ليست مجرد عمران، بل كائن حيّ يحمل
ذاكرة، ويختبر وعينا، ويُطالبنا بالصدق في علاقتنا بها. العمارة ليست زينة، بل
خطابٌ بصريٌّ يحمل موقفًا، والفراغ ليس حيادًا، بل إمّا أن يحتضن الإنسان أو
يُقصيه.
حين يرى المفكر التناقض،
ويُسائل المعنى، وحين ينفذ الحكيم إلى جوهر الوظيفة والكرامة، تتكشّف المدينة
كمرآة للوعي، لا كخلفية للعيش. والمعماري، إن أدرك مسؤوليته، لا يُصمّم مبنى،
بل يُعيد بناء العلاقة بين الإنسان والمكان، بين الزمن والذاكرة، بين البصر
والبصيرة.
فالمدينة لا تُشفى بالخرائط، بل بالوعي. ولا تُبنى لتُعرض، بل لتُسكن بكرامة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق