جمال الهمالي اللافي
في
ليبيا، حيث تتجاور المدن النشطة مع القرى الخاملة، تبرز الحرف التقليدية كإمكانات
كامنة لم تُستثمر بعد. ليست الحرف مجرد تراث يُحفظ، بل أدوات إنتاج يمكن أن تُفعّل
لتعيد تشكيل الواقع الاقتصادي والاجتماعي في المدن المنسية. ليس تعليم هذه الحرف
في القرى الخاملة ترفًا، بل ضرورة تنموية تفتح أبواب العمل، وتمنح السكان معنى
جديدًا للوقت والهوية.
تجربة درج: مشروع لم يُكتب له
الاكتمال
منذ
عقود، عُرض على مكتبنا مشروع تصميم منارة إسلامية في مدينة درج، قدمه البخاري
المدني، أمين اللجنة الشعبية لشعبية نالوت آنذاك. لم يكن المشروع دينيًا صرفًا، بل
كان يحمل رؤية تنموية واضحة في ثوب ديني. قال البخاري:
"مدينتي لا يتوفر فيها أي نشاط اقتصادي لأهلها،
رغم شهرتهم بالصناعات الحرفية من سعف النخيل، ولكنها مدينة منعزلة عن حركة الزوار.
لهذا أريد تنفيذ هذه المنارة لتستقطب الطلاب من المدن المجاورة، مما سيفتح أبواب
العمل لسكان هذه القرية."
كانت
الفكرة بسيطة وعميقة: تحويل المعلم الديني إلى نقطة جذب، تُعيد وصل المدينة
بالعالم، وتُنعش الحرف التقليدية عبر الطلب المتزايد على الخدمات والسكن والمنتجات
المحلية. لكن المشروع توقف عند لحظة التنفيذ، بعد تنحية البخاري واستبداله بغيره.
هكذا، أُجهضت الفكرة لا لضعفها، بل لتقلبات السياسة وسلوكيات بعض القيادات التي لا
تحتمل أن ترى مدنًا تنتعش خارج دوائر نفوذها.
دعوة للمسؤولية المحلية
هذه
التجربة تدعو إلى إعادة تعريف دور القيادات المحلية. لا يكفي انتظار قرارات
مركزية، بل يجب أن تتحمل كل مدينة وقرية مسؤولية الارتقاء بالحرف فيها، دعمًا
وتسويقًا وتنظيمًا. فالحرف ليست هامشًا، بل قلبٌ نابضٌ إذا أُحسن توظيفه. ولا
ينبغي أن تُربط المشاريع التنموية بمزاج المناصب، بل تُصان بمنظومة مؤسسية تضمن
استمراريتها واستقلالها.
ما بين الحرف والسياسة: مفارقة
ليبية
في ليبيا، كثيرًا ما تُجهض المبادرات لا لضعفها، بل لأن نجاحها يُربك من اعتادوا على مشهد الخمول. ثمة سلوك سياسي مريض يرى في انتعاش المدن تهديدًا، لا فرصة. وهذا ما يجب أن يُقاوَم، لا فقط بالنقد، بل بالفعل المحلي المستقل، الذي يرى في الحرف وسيلة للنجاة، لا مجرد زينة تراثية.
الصورة المرفقة
منذ العام 1998، ظل مجسم المنارة الإسلامية لمدينة درج يرافق مسيرتي المعمارية. ولا يزال يؤنس وحدتي في مكتبي. لم يكن مجرد تمثيل معماري، بل شاهدًا على مشروع لم يُنجز، وعلى إيمانٍ لم يخفت. دفعته من مالي الخاص، بأضعاف ما قبضت من أتعاب التصميم، لأنه حمل وعدًا لمدينةٍ تستحق أن تُرى... لا أن تُنسى.
شارك في
تصميم المنارة:
- الخرائط التنفيذية: المعماري/ عزت خيري
- الخرائط الإنشائية: المهندس/ طارق الراجل
- الخرائط الكهربائية: المهندس/ عادل ابوقرين
- الخرائط الصحية: المهندس/ وجيه باشا إمام (رحمه الله وغفر له(
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق