جمال الهمالي اللافي
مدخل
ليست
المدن الليبية في حاجة إلى المزيد من المخططات المركزية، بل إلى إعادة التفكير في
علاقتها بسكانها. فالبيئة العمرانية، بما تحمله من تفاصيل مادية ورمزية، لا تُبنى
فقط بالإسمنت والحجر، بل بالوعي الذي يربط الإنسان بالمكان. في ظل غياب الرؤية المحلية، وتراكم القرارات الفوقية، يتشكل مشهد حضري
لا يُعبّر عن الناس، ولا يستجيب لاحتياجاتهم، ولا يحترم خصوصياتهم الثقافية. ما يُفتقد ليس التصميم، بل الرؤية. وما يُشوَّه ليس الواجهة، بل
العلاقة بين الإنسان والمحيط.
أين الخلل؟
- مركزية
التخطيط التي تُقصي المجتمعات المحلية.
- غياب
الهوية البصرية المشتركة بين المدن.
- تدهور
الفراغات العامة وتحولها إلى فضاءات مهملة أو تجارية عشوائية.
- ضعف
المشاركة المجتمعية في اتخاذ القرار العمراني.
هذا
المقال لا يقدّم حلولًا جاهزة، بل يطرح رؤية تستوعب الواقع، وتعيد الاعتبار
للمجتمعات المحلية كفاعل حضري، وتفكك المركزية الإدارية التي عطّلت قدرة المدن على
التنفس.
أولًا:
المدينة ليست منتجًا إداريًا
المدينة
ليست مشروعًا هندسيًا يُدار من مكتب مركزي، بل كيان حيّ يتشكّل من تفاعل الناس مع
المكان. حين يُختزل التخطيط في قرارات فوقية، تُفقد المدينة قدرتها على التعبير عن
ذاتها، وتتحول إلى واجهة مشوّهة، لا تنتمي لمن يسكنها.
ثانيًا:
المجتمعات المحلية كفاعل حضري
تحسين
البيئة العمرانية لا يبدأ من المخطط، بل من الوعي المحلي. حين يُمنح السكان حق
التفكير في محيطهم، تتغير طبيعة التدخلات العمرانية. المجالس المحلية، والمكاتب
الهندسية، والمؤسسات التعليمية، يمكن أن تشكّل نواة فعل حضري متكامل، إذا ما أُعيد
لها الاعتبار، وأُزيلت عنها القيود الإدارية.
ثالثًا:
البيئة العمرانية كمرآة للهوية
المدن
الليبية، في تنوعها، تحمل ملامح ثقافية غنية، تتراوح بين الطابع الإسلامي،
والمتوسطي، والصحراوي، والجبلي. لكن هذه الخصوصيات غالبًا ما تُهمَل في التصاميم
المعمارية، لصالح نماذج مستوردة، لا تنتمي للمكان.
في هذا
السياق، لا يكون التحسين الحضري مشروعًا رسميًا، بل فعلًا مجتمعيًا، يبدأ من
الممكن، لا من المثالي. وهذه بعض المقترحات العملية، القابلة للتطبيق حتى في غياب
الدعم المؤسسي:
1.
تفعيل
المبادرات المجتمعية الصغيرة
- فرق
تطوعية لتنظيف وصيانة الفراغات العامة.
- أيام
عمل جماعي تُعيد الاعتبار للمكان.
- إشراك
المدارس والمساجد كمراكز تنسيق محلية.
2.
تحسين
الواجهة البصرية بوسائل بسيطة
- توحيد
الألوان بما يعكس رمزية ثقافية أو يبرز مادة البناء المحلية.
- إزالة
الإعلانات العشوائية، واستبدالها بلوحات توجيهية مصممة محليًا.
- استخدام
النباتات المحلية لتأطير الفراغات.
3.
إعادة تأثيث
الفراغات العامة بمواد محلية
- تحويل
المساحات المهملة إلى ساحات تفاعل.
- تثبيت
عناصر تُشير إلى هوية المكان.
- استخدام
مواد محلية في التأثيث الحضري.
4.
تنظيم النشاط
التجاري بشكل تلقائي
- توحيد
واجهات العرض وتقنين استخدام الأرصفة.
- تخصيص
أيام لنشاطات شعبية.
- دعم
الحرفيين المحليين في عرض منتجاتهم.
5.
حماية
المعالم التاريخية والطبيعية
- توثيق
رقمي للمعالم.
- لافتات
تعريفية تُبرز القيمة.
- التوعية
المجتمعية كوسيلة حماية.
6.
بناء شبكات
تنسيق غير رسمية
- ربط
الحيّ بمكاتب هندسية مستقلة.
- التعاون
مع جمعيات ثقافية وبيئية.
- نشر
التجارب عبر وسائل التواصل.
هذه
المقترحات لا تدّعي الكمال، لكنها تُعيد للحيّ قدرته على التنفس، وتحوّل الفعل
العمراني من انتظار إلى مبادرة.
رابعًا:
المقترح التنشيطي للمجمعات المحلية
ضمن هذا
التصور، يمكن اقتراح آلية تنشيطية للمجمعات المحلية، لا تُقدَّم كمشروع مركزي، بل
كمبادرة داخلية.
تقوم الفكرة على تخصيص مواقع محددة في كل منطقة،
تُعاد دراستها حضريًا، وتُطوَّر من خلال مساهمة المكاتب الهندسية المحلية،
بالتنسيق مع المجالس البلدية، وبدعم من المؤسسات التعليمية والمجتمعية.
لا تُطرح هذه المبادرة كمسابقة، بل كفعل تحفيزي،
يُمنح فيه الحيّ فرصة لإعادة تشكيل صورته، وفق اشتراطات بسيطة، قابلة للتنفيذ،
وتُقيَّم بناءً على أثرها الفعلي، لا على شكلها الخارجي.
خامسًا:
نحو نموذج حضري غير مركزي
ما
يُقترح هنا ليس بديلاً عن التخطيط الرسمي، بل مكمل له، يُعيد التوازن بين المركز
والمحيط. المدن الليبية لا تحتاج إلى المزيد من المشاريع الكبرى، بل إلى نماذج
صغيرة، متكاملة، تُبنى من الداخل، وتُدار من قبل من يعرفها.
الخاتمة
تحسين
البيئة العمرانية ليس مهمة هندسية فقط، بل مسؤولية ثقافية واجتماعية. والمجتمعات المحلية، إن مُنحت المساحة، قادرة على صياغة مدنها من جديد،
دون حاجة إلى مركز يُملي، أو جهة تُصنّف.
ما يُطرح هنا ليس وصفة جاهزة، بل دعوة للتفكير في
المدينة ككائن حيّ، يتشكل من الوعي، ويتنفس حين يُحترم، ويختنق حين يُهمَل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق