أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الجمعة، أكتوبر 24، 2025

المسجد الليبي: من المركز إلى الهامش


  

جمال الهمالي اللافي

تمهيد

ليست المساجد مجرد مبانٍ لأداء عبادة مفروضة، بل هي تجسيد حي لروح الأمة الإسلامية، ومعمار يعكس موقع العقيدة الإسلامية في وجدان المسلمين وفي قلب المدينة. ومع تراجع هذه المكانة، تراجعت صورة المدينة الإسلامية ذاتها.

"المسجد ليس بناءً وظيفيًا فحسب، بل هو مرآة للوجدان الجمعي، ومحرابٌ للهوية."

المسجد في المخطط الإسلامي التقليدي

في التخطيط الإسلامي التقليدي، كان المسجد الجامع مركز المدينة، والمحراب هو نقطة الانطلاق في التشكيل العمراني. مآذنه كانت علامات حضرية تحدد الاتجاهات، وتربط الإنسان بالمكان والزمان. حوله تنشأ الأسواق، وتتموضع مؤسسات الدولة، ويُبنى الحي على أساس القيم الروحية التي يغذيها المسجد.

الاستعمار الإيطالي (1911–1943): التهميش المعماري المقصود

مع دخول المستعمر الإيطالي، تغيّرت أولويات التخطيط. أُقصي المسجد عن مركزية المدينة، لصالح الكنائس والمباني الإدارية التي احتلت مواقع استراتيجية، كما في ميدان الجزائر بطرابلس وكاتدرائية بنغازي. هذا التهميش لم يكن عشوائيًا، بل كان انعكاسًا لعقيدة المستعمر، التي أعادت تشكيل هوية المدينة على نحو يتعارض مع وجدان أهلها.

ما بعد الاستقلال (1951–الآن): غياب المسجد عن المشهد

رغم رحيل المستعمر، بقيت رؤيته حاضرة في التخطيط العمراني. ظهرت الأبراج والبنوك في قلب طرابلس، بينما حُشر المسجد في الزوايا المهملة. لم يعد يمثل معلمًا حضريًا، ولا يحظى باهتمام المصممين أو الحرفيين المهرة. وغابت الطرز المحلية لصالح أشكال دخيلة، تتراوح بين الطرز المستوردة، والإسراف الزخرفي، والابتذال، والحداثة الهلامية.

التحولات الاجتماعية والعمرانية: أثر التهميش على الوعي الجمعي

تراجع حضور المسجد يعكس تراجع حضور العقيدة في الحياة العامة. ومع طغيان القيم المادية، فقدت المدينة الإسلامية مركزها الروحي، وتحوّل التخطيط إلى فعل مادي مجرد، يفتقر إلى البعد القيمي الذي كان المسجد يجسده.

ومن منطلق الإيمان العميق بتأثير العمارة في تشكيل سلوك الإنسان، فإن تغييب المسجد عن قلب المدينة وعن نسيج الحي السكني لم يكن مجرد قرار تخطيطي، بل فعلٌ رمزيٌّ ترك أثره في النفوس. فكما تراجع حضور المسجد في المشهد العمراني، تراجعت معه مكانة العقيدة في وجدان الناس، وتبدلت أولوياتهم، حتى غدت المادة هي المرجع، لا الروح.

نحو استعادة المكانة

لا بد من إعادة الاعتبار للمسجد، ليس فقط في المخططات العمرانية، بل في وجدان الناس. وذلك عبر:

  • إعادة مركزية المسجد الجامع في تخطيط المدن والمناطق والمشاريع الإسكانية.
  • ربط مؤسسات الدولة والبلديات حضريًا بالمسجد.
  • تنظيم الأسواق والمرافق العامة حوله.
  • مراعاة التنوع البيئي والثقافي في التصميم.

التوصيات

من أجل استعادة المكانة المركزية للمسجد في تخطيط المدن الإسلامية المعاصرة، لا بد من فتح باب الحوار المعماري والتخطيطي عبر تنظيم ندوات ومؤتمرات متخصصة، تُعنى بمناقشة المحاور التالية:

  • إعادة التفكير في التخطيط الحضري للمدن من منظور يعيد للمسجد دوره المحوري في تشكيل الصورة العمرانية، لا بوصفه مرفقًا وظيفيًا فحسب، بل باعتباره نواة روحية وثقافية تنبع منها باقي مكونات المدينة.
  • صياغة معايير تصميم معماري للمساجد تستلهم الطرز المحلية وتراعي خصوصية كل منطقة من حيث التضاريس والمناخ والبيئة الثقافية، بما يضمن تنوعًا أصيلًا في أنماط المساجد، ويمنع الاستنساخ المعماري الذي يطمس الهوية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...