جمال الهمالي اللافي
الاتجاه الذي يتبناه المعماري- سواء نحو تأصيل
العمارة المحلية أو مواكبة الاتجاهات العالمية المتجددة- ليس خياراً مهنياً قابلاً
للتفاوض، بل هو قناعة راسخة تنبع من خلفية عقائدية وثقافية متجذرة في وجدان كل
معماري. والتغيير، إن حدث، لا يأتي إلا من داخل الذات، نتيجة تراكم الاطلاع، وتوسع
الحوار، وتعدد المشاهدات. إنه تأثير ذاتي صرف، قد يخلخل تلك القناعات أو يقتلعها
في لحظة انفعال، حين يشعر المعماري بخواء ما كان يسير في ركابه وينصاع لتوجيهاته.
العمارة، قبل أن تكون شكلاً أو وظيفة، هي بناء
فكري له قواعد وأساسات، وله بنيان وتفاصيل تتشكل من خليط من المواد والتقنيات،
شأنه شأن أي منشأة مادية. وكما أن بناءه يستغرق زمناً ليكتمل، فإن هدمه لا يتم إلا
بقرار داخلي من ساكنه، لا يُنتزع من الخارج إلا في حال امتلاك ذلك الآخر لسلطة
القهر والتنفيذ. حينها يكون التغيير جبراً لا اقتناعاً، ولا ينتج عنه إلا خفوت
الصوت، إلى أن تتغير الظروف وتُتاح الفرصة لمعاودة الإعلان عن الذات، بصوت أعلى،
وعبر كل وسائل الإعلام ومواقع التشييد والإعمار.
ولكي لا نُضطر يوماً إلى هدم شواهد معمارية
بُنيت وفق رؤى أصحابها، فقط لأنها أساءت للمحيط وشوهت صورته وأفسدت على الناس
حياتهم، فإن من الضروري مراجعة البناء الفكري لطلبة العمارة في ليبيا. مراجعة
دقيقة تضمن سلامة الأسس، وجودة المواد، ومتانة التقنيات، وفاعليتها على المدى
البعيد، بما يضمن أن تكون نتائجها في صالح المجتمع والبيئة، دون أن تلحق بها أضرار
يصعب معالجتها أو تعويضها، وقد يمتد أثرها لعقود، وربما قرون، تبعاً لعمق الضرر
واتساعه.
وحين نتحدث عن البناء الفكري للمعماري الليبي،
فإننا نشير بالضرورة إلى المؤسسات التعليمية التي تتولى صياغة هذا الفكر، ممثلة
أولاً في أساتذتها، ثم في مناهجها ومرافقها. ومراقبة هذه المؤسسات لا تقتصر على
الدولة، بل تتعداها إلى المجتمع المدني، لأنه المتضرر الأول من نتائجها، على
بيئته، واحتياجاته، ومتطلباته، وتأثيراتها النفسية.
وهنا يبرز دور الإعلام، لا بوصفه ناقلاً
للأحداث فحسب، بل كأداة توعية وتوجيه، تسهم في تنبيه المجتمع إلى الجوانب التي
تمسه في حياته اليومية، وتبتعد عن إفراغ المحتوى الإعلامي من قيمته التربوية
والإرشادية، بإغراقه في مواضيع سطحية لا تنفع الأمة، بل تشتتها عن همومها
الحقيقية، وتُقصيها عن مناقشة عوامل نهضتها ورقيها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق