الجمعة، أكتوبر 17، 2025

الهُوية المعمارية: من حضور المادة إلى حضور المعنى

العمارة ليست استجابة تقنية، بل فعلٌ ثقافيٌ يُعبّر عن الذات الجماعية

تفصيل داخلي يُجسّد حضور الهُوية في أبسط عناصرها: حديدٌ أخضر مزخرف، أصصٌ فخارية، ونظرةٌ معمارية لا تُستعرض بل تُفصح عن نفسها بهدوء.

جمال الهمالي اللافي

مواد البناء وتقنيات الإنشاء تتغير وتتطور أو تبقى على حالها لا فرق. أما الهُوية المعمارية التي تعكس ثقافة وخصوصية أمة وشعب ومنطقة فراسخة في البنيان، لا يعيبها تجدد مواد البناء أو اختلاف طرق الإنشاء. في اعتقادي وجب فهم هذه النقطة والوعي بها وعياً متجذراً في العقل والوجدان.

هذا الوعي ليس ترفًا فكريًا، بل شرطٌ أساسيٌ لفهم العمارة بوصفها خطابًا ثقافيًا لا مجرد ممارسة تقنية. فحين تُختزل العمارة في أدواتها، تُفقد قدرتها على التعبير، وتتحول إلى قشرة وظيفية بلا روح. أما حين تُستوعب الهُوية بوصفها جوهرًا متجذرًا، فإن كل مادة، مهما كانت حداثتها، تصبح قادرة على حمل المعنى، إن وُظّفت بصدق.

الهُوية المعمارية لا تُقاس بنوع الطوب أو شكل النوافذ، بل تُقاس بقدرتها على استدعاء الذاكرة، على محاورة المكان، على احترام الإنسان الذي يسكنها. إنها ليست استنساخًا للماضي، ولا انبهارًا بالمستقبل، بل موقفٌ نقديٌ من الحاضر، يُوازن بين الوفاء للجذور والانفتاح على العصر.

في زمنٍ تتسارع فيه التقنيات وتُستورد فيه النماذج، لا يكون التمسك بالهُوية انغلاقًا، بل فعلًا واعيًا. إنه موقفٌ فاعل، لا ردّ فعل. ليس رفضًا للآخر، بل تأكيدًا للذات. اختيارٌ نابع من إدراك عميق لما يُشبهنا، وما يُعبّر عنا، لا انجرارًا وراء أنماط مستوردة تُفرغ البنيان من روحه.

الهُوية المعمارية لا تُدافع عن نفسها، بل تُعلن حضورها. لا تُقاوم الذوبان، بل تُفصح عن خصوصيتها بثقة، وتُعيد تشكيل السياق بما يليق بها. إنها ليست في موقع ضعف، بل في موقع تحديد المعايير، حين يُحسن المعماري الإصغاء للذاكرة، والبيئة، والناس.

المواد تتغير، والتقنيات تتطور، لكن هذه كلها أدوات في يد المعماري، وليست محددات للهُوية. يمكن للخرسانة أن تحمل روح الطين، ويمكن للزجاج أن يعكس دفء الحجر، إن وُظّفت بوعي سياقي. فالهُوية لا تُقاس بنوع المادة، بل بقدرتها على التعبير عن الإنسان والمكان والزمان.

الهُوية لا تعني التكرار الذي يُفرغ العمارة من معناها، بل تعني التمايز. أن يكون للبنيان لهجة، وللجدار ذاكرة، وللنافذة نظرة تُشبه أهل المكان. إنها ليست استنساخًا للماضي، ولا انبهارًا بالمستقبل، بل موقفٌ نقديٌ من الحاضر، يُعيد تعريف العلاقة بين الشكل والمعنى.

إن فهم هذه النقطة لا يقتصر على المعماري وحده، بل هو مسؤولية جماعية: من صانع القرار إلى المواطن، من الأكاديمي إلى الحرفي. لأن العمارة، في جوهرها، مرآةٌ للوعي الجمعي، لا مجرد منتج فردي.

خاتمة

فليكن وعينا بالهُوية المعمارية متجذرًا، لا عاطفيًا. متزنًا، لا انفعاليًا. وليكن البناء فعلًا ثقافيًا بامتياز، لا مجرد استجابة لحاجة وظيفية. فالهُوية لا تُستحضر من خارج السياق، بل تُولد من داخله، حين يُصغي المعماري للناس والمكان والزمن،  لا للموضة أو السوق.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...