![]() |
| مدينة القلعة بيفرن، من المدن القديمة التي هجرت وتركت لعوامل الزمن |
جمال الهمالي اللافي
ينظر
المعماريون في الغرب إلى حاضرهم فيرونه امتداداً عضوياً لماضٍ عمراني متجذر، تربطه
سلسلة متصلة من الحلقات الحضارية، لا انقطاع فيها ولا قطيعة. كل طبقة عمرانية
لديهم تنهل من سابقتها، وتضيف إليها دون أن تمحوها، فتتشكل المدن ككائن حيّ ينمو
ويتطور دون أن يفقد ذاكرته.
أما
نحن، ففي ظل ما يتعرض له العمران الليبي من خراب ممنهج، وما يُمحى يومياً من
معالمنا التاريخية، نقف أمام سؤال مؤلم: كيف سيكون شكل العمارة في ليبيا بعد نصف
قرن؟ وهل ستبقى لنا ذاكرة عمرانية نحتكم إليها، أم سنُسلّم مدننا لعشوائيات تُرسم
اليوم بلا رؤية، ويُحتفى بها غداً بوصفها "عمارة محلية أصيلة"؟ أتخيل
معماريّاً شاباً في ذلك المستقبل، يقف مفتخراً أمام هذه العشوائيات، ويُسميها
امتداداً للهوية، بينما هي في حقيقتها انقطاعٌ عنها، وتشويهٌ لها.
في هذا السياق، يُطرح
أحياناً سؤال من بعض المعماريين:
"لماذا ينبهر المعماري الليبي بالعمارة الحديثة في البلدان
الأخرى، بينما يرفضها في بلاده بحجة الحفاظ على الهوية؟"
والجواب
أن ما يُنظر إليه هناك ليس انبهاراً، بل إعجابٌ نابع من إدراكٍ واعٍ بأن تلك العمارة
الحديثة نشأت من رؤية متكاملة، منسجمة مع قيم المجتمع، ومع البيئة والتقنيات
والمواد المتاحة. أما ما يُفرض عليه في بلاده، فهو غالباً عمران بلا رؤية، بلا
انسجام، وبلا احترام للذاكرة الجمعية. لهذا، فالإعجاب هناك لا يعني الرغبة في
التقليد، بل هو دعوة لأن ننهج نحن أيضاً طريقاً خاصاً بنا، نبني فيه عمارة معاصرة
تعبّر عن قيمنا، وتراعي معطياتنا البيئية والاقتصادية، وتستثمر ما لدينا من مواد
وتقنيات، لا ما لدى غيرنا.
أما
الانبهار، فهو حالة من فقدان البوصلة، يسعى فيها الفرد إلى التقليد الأعمى، ضارباً
بعرض الحائط كل ما لديه من خصوصية، فلا يصل إلى شيء، ولا يبني شيئاً. فقط يعيش
حالة تخبط دائم، ويُنتج عمراناً بلا روح.
ولعل
ما يزيد الأمر تعقيداً هو أن التعليم المعماري نفسه، في كثير من الأحيان، لا
يُدرّس كفعل ثقافي نقدي، بل كتمرين شكلي وتقني، مما يُخرج أجيالاً من المعماريين
بلا حسّ تاريخي، ولا وعي سياقي، ولا قدرة على مساءلة ما يُطلب منهم إنجازه. حين
يُدرّس الطالب كيف يرسم، لا كيف يفكر، فلا عجب أن يُنتج عمراناً بلا ذاكرة.
وبينما
كانت مدن مثل برشلونة أو إسطنبول تعيد قراءة تراثها لتصوغ منه عمراناً معاصراً،
كانت مدننا تُهدم بلا بديل، وتُبنى بلا ذاكرة، ويُحتفى فيها بالفراغ وكأنه إنجاز.
لهذا،
فإن السؤال الحقيقي ليس عن ازدواجية المعايير، بل عن غياب الرؤية، وعن الحاجة إلى
وعي نقدي يعيد للعمارة الليبية مكانتها كخطاب حضاري، لا كزينة شكلية أو تكرارٍ
أجوف.
فهل
نملك الشجاعة لنُعيد تعريف المعاصرة من داخلنا، لا من خلال مرآة الآخر؟

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق