جمال
الهمالي اللافي
تميد
في فضاءٍ
معماري تتقاطع فيه الأزمنة والتأثيرات، تبرز جدلية الانتماء بوصفها سؤالًا يتجاوز
الشكل إلى الجوهر: هل العمارة تعبيرٌ عن الذات أم انعكاسٌ للمحيط؟
في المدن
المطلة على المتوسط، حيث المناخ واحد والتاريخ متشابك، تتداخل المفردات المعمارية
بين الأصالة والتأثر، بين الفخر المحلي والتنازع الرمزي. لكن في ليبيا، يغيب هذا الاعتزاز، ويحل محله إنكارٌ يطال حتى ما تشكّل
بفعل التجربة والبيئة. هذا النص لا يبحث عن إجابة
جاهزة، بل يعيد طرح السؤال من زاوية أكثر إنصافًا: كيف نُعرّف الأصالة حين تكون
العمارة مرآةً للهوية، لا مجرد أثرٍ منسي؟
غياب الإعلام التوعوي وتكرار السؤال
نعود إلى
معضلة تبدو بلا حل في المستقبل القريب، في ظل غياب الإعلام التوعوي في مقابل دور
الإعلام الهدام الذي يؤثر سلبًا على مقومات المجتمع الأخلاقية والحضارية والثقافية. لذا، نجد دائمًا السؤال الذي يحمل معه إجابةً ضمنية يُطرح مرارًا
وتكرارًا على لسان مختلف فئات المجتمع الليبي:
هل يوجد عمارة ليبية يمكننا تلمس ملامحها في
تصميم البيوت والمساجد والمباني العامة والخاصة؟
هذا السؤال لا يبحث عن إجابة بقدر ما يُقر بعدم
وجود أي ملمح للعمارة الليبية التقليدية، حيث يُنسب كل ما هو موجود إلى تأثيرات
خارجية.
تفكيك النفي الضمني عبر نماذج متوسطية
لن أكرر ما طرحته سابقًا بشأن هذا الموضوع، بل
سألتفت إلى منظور آخر للرد على هذا النفي الضمني:
· في عمارة البحر المتوسط، يبرز نظام التسقيف
بالقبو والقبة بصورة واضحة في البيوت، كما هو الحال في العمارة اليونانية
والتونسية. وإذا سألت أي تونسي أو يوناني عن مصدر هذا النظام، فلن تجد إجابةً
شافية من أي من الطرفين، فكلاهما سيؤكد أن هذه العمارة تمثل أصالتهم، ولا يُعيرون
اهتمامًا للتشابه أو الاختلاف. إنما يُعتبر مجرد صدفة محضة، يظهر ذلك أيضًا في
استخدام الطلاء الأبيض للحوائط والأزرق لتفاصيل ومفردات البناء في كلا البلدين.
· في عمارة البحر المتوسط، نجد انتشاراً لأعمال
القيشاني والجص في تلبيس الحوائط بشكل يُعتبر من سمات العمارة المغربية والتونسية.
وإذا ناقشت تونسيًا أو مغربيًا حول من تأثر بالآخر في هذا السياق، فلن تحصل على
إجابة واضحة، حيث سيصر كلاهما على أن هذه العناصر جزءٌ من هويتهما الثقافية. ولعل
التباين بينهما مجرد تزامن طبيعي بعيدًا عن الأسباب التقليدية.
· إضافة إلى ذلك، يتجلى وجود الأبراج الخشبية في
واجهات البيوت بشكل أكبر في العمارة المالطية، بينما يظهر في العمارة التونسية
بنسبة أقل. وفي حالة سؤال أي منهما عن مصدر هذه المفردة المعمارية، ستحصل على ذات
النتيجة، مع التأكيد على الأصالة والفخر المحلي.
دعوة للإنصاف في تقييم العمارة الليبية
في سياق
النقاش حول خصوصية العمارة الليبية، كثيرًا ما يُستشهد بنماذج من عمارات دول
الجوار بوصفها أكثر أصالة أو استقلالًا، دون الالتفات إلى أن كل عمارة، مهما تأثرت
أو أثّرت، تحمل ملامحها الخاصة التي صاغتها التجربة المحلية والجذور الثقافية على
مدار الزمن. فمن غير المنصف أن يُرفض
على سبيل القطع وجود خصوصية ليبية، بينما يُحتفى في المقابل بعمارات أخرى دون
مساءلة تأثيراتها الخارجية. وفي زمنٍ بات فيه البعض
يفاخر بما لا يملكه، فإن الأجدر بنا أن نفخر بما نملك، وأن نحافظ عليه ونستلهِم
منه. فمن لا ماضي له، لا حاضر
له ولا مستقبل.
الروح الإسلامية المشتركة في مدن المتوسط
نستطيع
القول إن هذه المدن تجمعها روح واحدة مبعثها تشابه البيئة المناخية.
والأهم أن جميع المدن الواقعة على البحر الأبيض
المتوسط (والاستثناء إن وجد قليل) كانت تحت الحكم الإسلامي لعدة قرون، لهذا نجد
ملامح مشتركة بينها في إطارها العام وليس في تفاصيلها. وإن كان لتعايش بعض الديانات الأخرى مع المسلمين، ولفترة الاحتلال
الغربي لهذه البلاد العربية، تأثيرات في بعض التفاصيل المعمارية في البيوت
والمعابد الخاصة بهم، فإنها لا تخرج بأي صورة عن الروح العامة لهذه المدن
باعتبارها إسلامية.
خاتمة
وهذا
يدعونا إلى إعادة تعريف الأصالة، لا باعتبارها انغلاقًا على الذات، بل قدرة على
التفاعل مع المحيط دون فقدان الخصوصية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق