جمال الهمالي اللافي
في ستينيات القرن الماضي، أجرى
عالم السلوك جون كالهون تجربة عُرفت باسم "الكون 25"، حيث أنشأ بيئة
مثالية للفئران: وفّر لها الطعام والماء والمأوى، وأزال عنها كل تهديد خارجي. في
البداية، ازدهر المجتمع الفأري، لكن سرعان ما ظهرت سلوكيات غير مألوفة: عزلة،
عدوانية، انكفاء على الذات، ثم انهيار كامل في التفاعل والتكاثر، وصولًا إلى
الانقراض. خلص كالهون إلى أن الاكتظاظ، حتى في ظل الوفرة، يؤدي إلى انهيار اجتماعي
وسلوكي، وهو ما اعتبره تحذيرًا من مصير المجتمعات البشرية إذا فقدت التوازن بين
النمو والاحتواء.
لكن هذه التجربة لم تستوقفني
في حيثياتها، ولا في خلاصتها كما أراد صاحبها. ما استوقفني هو ما تكشفه عن أثر
البيئة العمرانية حين تُبنى بلا رؤية، وتُحشد فيها الكتل السكانية دون اعتبار
للكرامة أو التفاعل أو الانتماء.
خطر الاكتظاظ لا يكمن في العدد
وحده، بل يتضاعف حين يقترن بـ العشوائية العمرانية، وشيوع الفقر، وغياب البنية
التحتية والخدمات الأساسية. في مشاريع العمارات السكنية التي تُبنى بنموذج مكرر،
دون مرافق ترفيهية أو مساحات خضراء، يتحوّل السكن إلى عزلة جماعية، ويصبح الحيّز
العمراني طاردًا لا حاضنًا. فالمكان، حين يُصمَّم بلا اعتبار للكرامة، يُعيد تشكيل
السلوك بصمت، ويُغذّي الانكفاء بدل الانتماء.
وقد أثبتت دراسات علم النفس
البيئي أن غياب الضوء الطبيعي، وانعدام التهوية، وضيق المساحات، تؤثر مباشرة على
الصحة النفسية، وتزيد من معدلات الاكتئاب والعدوانية. كما أن التصميمات المغلقة،
التي لا تتيح التفاعل البصري أو الاجتماعي، تُنتج شعورًا بالانفصال، وتُضعف
الإحساس بالانتماء للمكان.
غياب المساحات الخضراء،
والمرافق التي تتيح التفاعل الآمن، لا يُنتج فقط بيئة فقيرة، بل يُعيد تشكيل
العلاقة بين الفرد والمكان، ويحوّل الحيّ إلى معبر لا إلى مستقر. وقد أشار علماء
الاجتماع إلى أن المجتمعات التي تفتقر إلى رموزها الثقافية والمعمارية، تُنتج
أفرادًا يشعرون بالاغتراب، حتى لو كانوا في موطنهم.
ما رأيته في الواقع لا يُفسَّر
بتجربة "الكون 25"، بل يُفصح عن أن الانهيار لا يأتي من الاكتظاظ وحده.
فالمدن التاريخية كانت تتميز بكثافتها العالية، وتلاصق مبانيها، وضيق شوارعها، ومع
ذلك كانت المكان الآمن لسكانها، الحافظة لقيمهم، والعامل على قوتهم. في تلك المدن،
كانت الكثافة تعني التقارب، لا التنافر؛ أما اليوم، فالكثافة تُنتج عزلة حين تُبنى
بلا رؤية، وتُكرّس الانفصال حين تُصمّم بلا روح.
وقد بيّنت أبحاث علم النفس
الاجتماعي أن الشعور بالكرامة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالبيئة العمرانية التي تحترم
الحاجات النفسية والاجتماعية، لا تلك التي تختزل الإنسان في وظيفة سكنية. حين
يُختزل السكن إلى مأوى جسدي، ويُستبعد منه ما يُراعي الحاجات النفسية والاجتماعية،
يتحوّل الحيّ إلى فضاء طارد، ويُصبح العمران أداة تكديس لا وسيلة حياة.
الانهيار يأتي من غياب القيم حين تتوفر الوسائل.
والعمارة، حين تُبنى بلا رؤية، تُصبح جزءًا من هذا الفراغ، لا
علاجًا له.
بل إن العمارة المعاصرة، في
كثير من نماذجها الإسكانية، لا تُبنى بلا رؤية فحسب، بل تُبنى برؤية تستهدف تدمير
كرامة الإنسان، وتدفعه إلى العزلة، والعنف، وانعدام الإنتاجية، عبر بيئات مكتظة،
مغلقة، تفتقر إلى الضوء، والمساحات، والمرافق التي تُنعش الروح وتُحفّز التفاعل.
وقد أشار علماء النفس إلى أن البيئات التي تُقصي الإنسان من التفاعل، وتُحاصره في
وحدات سكنية مغلقة، تُغذي السلوكيات الانكفائية، وتُضعف القدرة على بناء علاقات
صحية.
فحين يُختزل السكن إلى مأوى
جسدي، ويُستبعد منه ما يُراعي الحاجات النفسية والاجتماعية، يتحوّل الحيّ إلى فضاء
طارد، ويُصبح العمران أداة تكديس لا وسيلة حياة.
فهل نعيد التفكير في ما نبنيه، أم نواصل التعايش مع فراغ لا
يملؤه الإسمنت؟

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق