الأربعاء، أكتوبر 15، 2025

الفن التشكيلي بين التبرير والتأسيس: حوار في مرآة العقيدة

 

من أعمال الفنان التشكيلي: التيجاني أحمد زكري

جمال الهمالي اللافي

    في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة التعبير البصري، وتتشابك فيه حدود الجمال مع حدود الشرع، يبرز سؤال جوهري: هل يمكن للفن التشكيلي أن يكون شاهدًا على التوحيد، لا مجرد انعكاس للذوق؟


    هذا النص لا يأتي ردًا على شخص، بل تفكيكًا لخطاب بات يتكرر في أوساط الفنانين التشكيليين: خطاب يبرر رسم ذوات الأرواح باعتباره "تعبيرًا عن الضعف الإنساني أمام عظمة الخلق"، ويعتبر أن "عجز الفنان عن بث الروح هو في ذاته نوع من الشهادة على قدرة الخالق".


    لكن هذا التبرير، مهما بدا متماسكًا ظاهريًا، يتجاهل أصل المسألة: أن الشرع لم يحرّم التصوير لأنه ينجح في المضاهاة فعليًا، بل لأنه يفتح باب المضاهاة رمزيًا، ويُغري النفس بما لا تملك.

    من هنا، يأتي هذا الحوار بين "المفكر" و"الحكيم" لا ليجادل، بل ليؤسس. لا ليُقصي الفن، بل ليعيد له رسالته ضمن حدود العقيدة.

المفكر:
في أحد المعارض، سمعتُ تعليقًا لفنان تشكيلي يقول إن رسم البورتريه لا يضاهي خلق الله، بل يشهد على عظمته من خلال عجز الفنان عن بث الروح. بدا لي الطرح أنيقًا، لكن شيئًا ما في منطقه ظل معلقًا.

الحكيم:
لأنه يخلط بين العجز والتقوى. العجز عن بث الروح ليس فضيلة، بل حدّ فاصل وضعه الخالق. والشرع لم يحرّم التصوير لأنه ينجح في المضاهاة، بل لأنه يقترب منها، ويُغري بها، ويفتح بابًا لا يُغلق بسهولة.

المفكر:
لكن أليس في هذا العجز نوع من التذكير بحدود الإنسان؟ أليس في اللوحة التي لا تنبض بالحياة اعتراف ضمني بأن الحياة لا تُمنح إلا من الله؟

الحكيم:
الاعتراف لا يُعفي من التعدي. آدم عليه السلام لم يُنكر أمر الله، لكنه اقترب من الشجرة. والفنان حين يقترب من ذوات الأرواح، حتى لو لم يضف لها روحًا، فقد دخل منطقة محرّمة. لا لأن نيته فاسدة، بل لأن الفعل في ذاته متجاوز.

المفكر:
إذن، هل ترى أن الفن التشكيلي يجب أن يُعيد تعريف ذاته ضمن حدود الشرع، لا ضمن حدود الذوق أو التعبير؟

الحكيم:
بل يجب عليه ذلك. الفن ليس حرًا حين يتجاوز الشرع، بل منفلت. والفنان المسلم لا يُطلب منه أن يُقلّد الغرب، بل أن يُعيد اكتشاف الجمال ضمن منظومة التوحيد. الحضارة الإسلامية فعلت ذلك، ونجحت دون أن ترسم وجهًا أو تجسّد جسدًا.

المفكر:
لكن اليوم، لا يجتمع الفنانون إلا على المجاملة، ولا يملكون ميثاقًا يُنظّمهم. من يملك مشروعًا لا يجد من يؤازره، ومن يلتزم يُتهم بالجمود.

الحكيم:
وهنا يأتي دور الكتابة النقدية. أن تُعيد ترتيب المفاهيم، وتُحصّن الوعي، وتُمهّد لتأسيس نواة صلبة. لا نحتاج إلى إجماع، بل إلى وضوح. والمقالة ليست ترفًا، بل واجب. أن نكتب لا لنُعجب، بل لنُوقظ.

المفكر:
هل ترى أن هذه النواة يمكن أن تُبنى من داخل التجربة الليبية، دون أن تذوب في نماذج مستوردة؟

الحكيم:
بل يجب أن تُبنى منها، وتُمحّص غيرها. فالدول الإسلامية اليوم، شكل بلا مضمون. وبعضها لا يملك من الإسلام إلا رسمه. ونحن لا نبحث عن رسم، بل عن روح. عن فن يُعبّر دون أن يُضاهي، ويُجسّد المعنى دون أن يُجسّد الجسد.

المفكر:
إذن، فلنبدأ من هنا. من هذا الحوار. ليكن نقطة ضوء لا تُجامل، بل تُنير. وليكن الفن التشكيلي شاهدًا على التوحيد، لا على التبرير.

خاتمة: الفن بين التوحيد والمراوغة

    ما دار في هذا الحوار ليس جدلًا حول تقنية الرسم، بل مساءلة عميقة لوظيفة الفن في ظل العقيدة. لم يكن السؤال عن قدرة الفنان على التعبير، بل عن حدود هذا التعبير حين يقترب من منطقة الخلق.

    الطرح الذي يرى في العجز عن بث الروح "قيمة جمالية" يتجاهل أن الشرع لا يُحاسب على النية وحدها، بل على الفعل ومآله. وأن الاقتراب من المحظور، حتى لو كان بنية التأمل، يظل تجاوزًا لا يُغتفر بالتبرير.

    في خلفية هذا الحوار، كانت هناك إشارات لم تُذكر صراحة:

  • أن المجاملة بين الفنانين تُعطّل التأسيس، وتُبقي الالتزام في دائرة الفرد لا الجماعة.
  • أن غياب الميثاق الإسلامي في الوسط التشكيلي الليبي ليس نتيجة نقص في الوعي، بل نتيجة تواطؤ ناعم مع خطاب الحداثة الذي يُجمّل الانحراف.
  • أن الفن الإسلامي ليس بحاجة إلى إعادة اختراع، بل إلى استعادة واعية، تُعيد تفعيل البدائل التي أثبتت عبر قرون أنها قادرة على التعبير دون أن تُضاهي.
  • أن الكتابة النقدية ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة شرعية، حين يصبح الفن وسيلة لتزييف العقيدة تحت غطاء الجمال.

    هذا النص لا يدعو إلى إقصاء الفن، بل إلى تحريره من وهم المضاهاة، ومن غواية التقليد. ولا يطلب من الفنان المسلم أن يُنكر ذاته، بل أن يُعيد تعريفها ضمن منظومة التوحيد، لا ضمن ذائقة السوق أو استعراض المعارض.

    إن نقطة البدء ليست في التنظيم، بل في الوضوح. ومن يملك مشروعًا، عليه أن يكتبه، لا أن ينتظر الإجماع. فالنواة الصلبة لا تُبنى من الحشود، بل من الصدق، ومن الجرأة على المواجهة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...