حين تُخاط الهوية بالإبرة والخيط
جمال الهمالي اللافي
في زمن
تتكاثر فيه الأزياء المستوردة وتُختزل الهوية في المناسبات، وتتسارع فيه أنماط
الاستهلاك وتُستورد الرموز جاهزة من وراء البحار، يظل الزي التقليدي الليبي أحد
أكثر التعبيرات صدقًا عن الهوية الثقافية، وشاهدًا حيًا على تنوع المجتمع وعمق
انتمائه. إنه ليس مجرد لباس، بل حرفة متجذرة في الوجدان، تُنسج بخيوط الذاكرة،
وتُطرّز فيها ملامح الوطن، وتُخاط على مقاس البيئة والناس. هذا النص محاولة لتأمل
قيمة الزي الوطني، لا بوصفه موروثًا يُحتفى به، بل مشروعًا ثقافيًا واقتصاديًا
يستحق أن يُبنى عليه.
الحرفة
كذاكرة حية
خياطة
الزي التقليدي ليست عملية تقنية فحسب، بل هي فعل ثقافي. الحرفيون الذين يتقنون هذه
الصناعة لا ينقلون مهارة فقط، بل ينقلون ذائقة، ورؤية، ووعيًا متراكمًا. وكل غرزة
في الثوب تحمل أثر اليد التي صنعتها، وخصوصية المكان الذي نشأت فيه. ولهذا، فإن
استيراد هذه الأزياء جاهزة من مصانع خارجية يُفقدها معناها، ويحوّلها إلى قشرة بلا
روح.
مدرسة
ومتحف: من الحفظ إلى التفعيل
إنشاء
مدرسة وطنية لحرفة الزي التقليدي ليس ترفًا، بل ضرورة ثقافية. مدرسة تُدرّس فيها
تقنيات الخياطة والتطريز والصباغة، وتُوثّق فيها أنماط الأزياء الليبية المتنوعة،
وتُمنح فيها الحرفة مكانتها الأكاديمية والمهنية. هذه المدرسة ستكون حاضنة للجيل
الجديد من الحرفيين، وضمانًا لاستمرار الحرفة في وجه الاستلاب الصناعي.
أما
المتحف، فهو ليس مجرد فضاء للعرض، بل منصة للتوثيق والتأمل. متحف يُبرز تنوع
الأزياء الليبية، ويُظهر كيف أن كل زي هو مرآة لمجتمع، وطقس، وموقف. متحف يُعيد
الاعتبار للزي كوثيقة بصرية، ويمنح الزائرين فرصة لفهم ليبيا من خلال خيوطها
وألوانها.
الورش
والمصانع: من الحرفة إلى الاقتصاد
دعم
الورش المحلية والمصانع الوطنية التي تنتج هذه الأزياء وفقًا للمعايير التقليدية،
يُحوّل الحرفة من هامشية إلى مركزية. إنه استثمار في الاقتصاد الثقافي، وفي خلق
فرص عمل ترتبط بالهوية لا تنفصل عنها. حين يُخاط الزي على يد أهل المنطقة، يُصبح
امتدادًا للذاكرة، لا منتجًا معلبًا.
الزي كأداة مقاومة
في وجه
التغريب البصري، يُصبح الزي التقليدي أداة مقاومة ناعمة. حين يرتديه المسؤولون،
والمثقفون، والمواطنون، لا يُعلنون فقط انتماءهم، بل يُعيدون تشكيل الفضاء العام
ليكون أكثر صدقًا، وأكثر ارتباطًا بالجذور. إنه فعل رمزي، لكنه عميق الأثر، يُعيد
ترتيب الولاءات، ويُفعّل الذاكرة الجمعية.
الزي
التقليدي ليس مجرد تراث يُحتفى به في المناسبات، بل هو مشروع ثقافي واقتصادي
وتربوي، يُسهم في بناء وطن لا ينسى ملامحه، ولا يستورد رموزه، بل يصوغها من خيوط
الحرفة، ووعي الناس، وصدق الانتماء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق