الثلاثاء، سبتمبر 30، 2025

نحو مشروع إبداعي ليبي: من التفكيك إلى البناء

قراءة تأسيسية في سؤال الانطلاقة الثقافية ومسؤولية الفعل الإبداعي

 


جمال الهمالي اللافي

في لحظة صامتة من مساء ليبي متقلب، وبين جدران لا تزال تحتفظ بصدى الحكايات القديمة، يتوقف المعماري، أو الكاتب، أو الفنان، أمام مشروعه القادم. لا يسأل: "كيف أُبهر؟" بل "لماذا أبدأ؟"
تتراكم حوله أدوات العصر، وتُغريه المنصات، وتُلح عليه الجوائز وتستهويه المعارض الخارجية المشتركة مع أقرانه، لكنه يعرف أن المشروع الذي لا ينبثق من حاجة محلية، يظل زخرفًا، مهما بدا متقنًا. في تلك اللحظة، لا يعود الإبداع فعلًا فرديًا، بل موقفًا من العالم. لا يعود التصميم مجرد شكل، بل خطاب. ولا تعود الكتابة وسيلة تعبير، بل وسيلة مقاومة للغفلة. هنا، في هذا المفترق، يبدأ السؤال الحقيقي: كيف نُنجز مشروعًا ليبيًا خالصًا، لا ليُلفت أنظار الآخر، بل ليُعيد بناء الذات؟ كيف نُفكك التشويش، لا لنُدين، بل لنفهم؟ وكيف نُعيد البناء، لا لنُنافس، بل لنُفيد؟

1.   كيف نضمن أن تنطلق مشاريعنا الإبداعية من رغبة صادقة للنهوض بالوطن، لا من مجاراة للموضات العالمية أو انتصار لوجهات نظر شخصية؟

2.      وكيف نجعل هذه المشاريع خالصة للمجتمع الليبي، تتحرى الصدق في الطرح والإخلاص في الغاية، لا لتلفت أنظار الآخر أو تنال اعترافه؟

في زمن تتكاثف فيه الظواهر وتتشابك فيه المرجعيات، لم يعد السؤال عن انطلاقة المشاريع الإبداعية مجرد ترف فكري، بل أصبح ضرورة وجودية تمس جوهر الفعل الثقافي في ليبيا. فالمشروع الذي لا ينبثق من رغبة صادقة للنهوض بالوطن، يظل عرضة للتشويش، مهما بدا متماسكًا أو متقنًا.

إن مجالات العمارة، والتصميم، والفنون التشكيلية، والإبداع الأدبي، والخطاب الفكري والسياسي، لا يمكن أن تُنجز من موقع المجاراة أو الانبهار، أو التبعية العمياء، بل من موقع المسؤولية. فكل مشروع يُصاغ من رغبة في الظهور أو انتصار لوجهة نظر شخصية، هو مشروع هش، يفتقر إلى الجذر، ويعيد إنتاج التشويش الذي يدّعي مقاومته.

التفكيك كمرحلة تأسيسية لا عدميّة

التفكيك هنا لا يُستعار من النظرية التفكيكية لجاك دريدا، بكل ما حمله معه من مضامين التمرد على والقواعد المنضبطة بالقيم الدينية والأخلاقية، بل يُعاد توظيفه في سياق ليبي خاص، بوصفه فعلًا نقديًا يهدف إلى فهم الواقع لا زعزعة المعنى. نحن لا نمارسه على النصوص المجردة، بل على الخطابات والممارسات الثقافية التي تشكل الوعي الجمعي.

التفكيك لا يعني الهدم، بل إعادة ترتيب المفاهيم، وتحريرها من التزييف أو التكرار. وهو لا يُنجز دفعة واحدة، بل عبر تراكم النصوص التي تفضح الغفلة وتدعو للوعي، وتُعيد الاعتبار للسياق المحلي بوصفه مرجعية لا بوصفه عائقًا.

كل شيء قابل للتفكيك، مهما تعقدت تقنياته وكثرت تفاصيله. ذلك ممكن متى توفرت الإرادة، لا الرغبة فقط. فالبنية الثقافية المشوشة تحمل في داخلها تناقضاتها، وكثرة التفاصيل لا تعني صلابة، بل قد تكون دليلًا على ارتباكها. والالتحام الظاهري يخفي هشاشة داخلية، حين يُبنى على مجاراة لا على قناعة.

البناء كفعل مسؤول يتلو الفهم

لكن التفكيك وحده لا يكفي. إن توقفنا عنده، نكون قد شخّصنا المرض دون أن نُقدّم العلاج. لذلك، لا بد أن يتلوه بناءٌ موازٍ، لا يُستعجل، بل يُنجز على مهل، بعد أن تتضح الغايات وتُصاغ الأهداف من داخل السياق الليبي، لا من خارجه.

البناء الذي يُنجز دون فهم مسبق، هو إعادة إنتاج للتشويش، ولو بدا متماسكًا. وهو غالبًا ما يُستدرج إلى مجاراة الآخر، أو إلى استعراض داخلي لا يملك مرجعية واضحة. لذلك، لا بد أن يتأخر البناء قليلًا، لا لضعف في الإرادة، بل لحكمة في التوقيت.

إعادة تعريف المشروع الإبداعي الليبي

لهذا، فإننا ندعو إلى منهج نقدي ليبي مستقل، يبدأ بالتفكيك لفهم الواقع، ويتلوه بناء مسؤول يعيد الاعتبار للبساطة والصدق. لا نطلب اعترافًا خارجيًا، بل نُراهن على الزمن كحكم أخير. فما ينتفع به الناس يبقى، وما يُحبس في الأدراج يختفي.

إن العمارة التي لا تُصمم من حاجة محلية، تظل زخرفًا. والتصميم الذي لا يُراعي السياق، يصبح تكرارًا. والفن الذي لا يُنصت للوجدان الليبي، يتحول إلى استعراض. والأدب الذي لا يُكتب من موقع التماسك، يُقرأ من موقع الشفقة. والخطاب السياسي الذي لا يُبنى على فهم الواقع، يُعيد إنتاج أزماته.

نحن نكتب ونصمم ونفكر، لا لنُنافس، بل لنُعيد بناء الوعي. لا لنُبهر، بل لنُفيد. لا لننال الاعتراف، بل لنستحقه.

هذا النص ليس إعلانًا نظريًا، بل خطة طريق لكل من يكتب أو يصمم أو يفكر من موقع الالتزام، لا من موقع الاستعراض. وهو دعوة مفتوحة لإعادة تعريف المشروع الإبداعي الليبي، لا بوصفه منتجًا، بل بوصفه موقفًا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...