جمال الهمالي اللافي
تأملات في التوتر المعماري بين
الرغبة والرهبة
في تصميم
الاستراحات، يطلب الزبائن نوافذ واسعة، يطمعون في إطلالة على الطبيعة، كأنهم في
بلادٍ لا تُقلقهم الهواجس. وحين تُنفذ، لا يطيلون النظر إلى الخارج، بل يطيلون
التحديق في احتمالات التعدي على خصوصيتهم. تبدأ المطالبات: حديد حماية لا يمنع ولا
يسمح، زجاج لا يكشف ولا يعزل، إطلالة لا تُرى ولا تُراقب.
النافذة،
التي كانت وعدًا بالانفتاح، تتحول إلى مصدر قلق. تصبح سببًا لرفض المبيت، خصوصًا
لمن يبيت بمفرده. يتراجع الزبون عن رغبته الأولى، ويطلب ما يناقضها، لأن الواقع لا
يشبه الصور.
من
معايشتي، لا أحد ينظر للخارج حين يكون داخل الاستراحة. الحديث، الأكل، النوم، كلها
تشغلهم عن الإطلالة. النافذة إذًا ليست للمنظر، بل للضوء، وربما للشعور بأن الخارج
ممكن، دون أن يكون حاضرًا.
الصورة
النمطية كدافع تصميمي
في كثير
من الطلبات، لا ينبع الذوق من الحاجة، بل من الصورة. الزبون لا يطلب نافذة واسعة
لأنه يحتاجها، بل لأنه رآها في مكانٍ آخر، في منزلٍ أنيق، في لقطةٍ عابرة على
شاشة. يريد أن "يكون مثلهم"، دون أن يسأل نفسه: هل نحن مثلهم فعلًا؟
هذه
الرغبة في التشبّه لا تقتصر على النوافذ، بل تمتد إلى تفاصيل كثيرة: الألوان،
الأثاث، توزيع الفراغات. لكنها في النوافذ تأخذ شكلًا أكثر حدة، لأنها تمسّ
العلاقة بين الداخل والخارج، بين الأمان والانكشاف.
الزبون
يطلب نافذة واسعة، ثم يطالب بحماية مشددة. يريد إطلالة، ثم يخاف منها. هذا التناقض
يكشف أن الطلب لم يكن نابعًا من وعي بالبيئة، بل من انبهار بصورة. وحين تصطدم
الصورة بالواقع، يبدأ التراجع، ويظهر الخوف، وتُعاد صياغة الرغبة.
الإطلالة
على الهواجس
النافذة
هنا ليست مجرد فتحة معمارية، بل مرآة لهواجس الداخل. كلما اتسعت، اتسعت معها
المخاوف. فهي تطل على الخارج، لكنها تفضح الداخل. وتُذكّر الساكن بما لا يريد أن
يُكشف.
الزبون
يريد نافذة "مثلهم"، لكنه يعيش في واقع لا يشبههم. يطلب الانفتاح، ثم
يطالب بالحماية. يريد أن يرى، دون أن يُرى. وهذه الازدواجية تكشف عن أثر الصورة
النمطية في تشكيل الطلب، دون وعي بالبيئة المحلية.
الوظيفة
الفعلية مقابل المتخيلة
من خلال
المعايشة، يتضح أن الإطلالة ليست ممارسة فعلية، بل فكرة متخيلة. حين يدخل الزبون
إلى الاستراحة، ينشغل بالحديث، بالأكل، بالنوم. لا أحد ينظر إلى الخارج. النافذة
لا تُستخدم كما يُظن، بل تُترك كخلفية صامتة.
وهذا
يعيد تعريف وظيفتها: ليست للإطلالة، بل للضوء والتهوية، وربما للشعور بأن الخارج
موجود، دون أن يكون حاضرًا. النافذة إذًا ليست عينًا على الطبيعة، بل فتحة رمزية
على الاحتمال.
تناقض
مجتمعي بين الرغبة والرهبة
هذا
التوتر لا يخص الزبون وحده، بل يعكس حالة مجتمعية أوسع: رغبة في الانفتاح على
الآخر، وفي الوقت ذاته خوف من انكشاف الذات. يسعى المجتمع إلى صورة منفتحة، لكنه
يرتد إلى الانغلاق حين يقترب التنفيذ. يريد أن يُشبه "الآخر"، لكنه لا
يحتمل تبعات التشابه.
النافذة،
في هذا السياق، ليست تفصيلًا معماريًا، بل تعبير عن صراع داخلي بين التطلع
والارتداد، بين الرغبة والرهبة، بين ما يُطلب وما يُراد حقًا.
خاتمة
لهذا، لا
أساير الزبون في اتساع النوافذ. أحكي له عن تجارب سابقة، لا لأقنعه، بل لأحميه من
نفسه. فالنافذة التي لا تُطل، قد تكون أصدق من تلك التي تُطل على قلقٍ لا يُحتمل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق