الجمعة، سبتمبر 05، 2025

العمارة كخطاب عقائدي: بين تغريب التعليم وتفكك الهوية


جمال الهمالي اللافي

في هذه الورقة الجديدة على مدونة الميراث، أتناول كيف يسهم التعليم المعماري في تغريب الوعي الجمعي، ويقود المدن الليبية نحو فقدان هويتها البصرية. هل يمكن للعمارة أن تكون وسيلة مقاومة لا أداة استلاب؟

المقدمة

في زمن تتنازع فيه الطرز المعمارية مرجعيات متباينة، لم تعد العمارة مجرد بناء يُؤوي الإنسان، بل غدت خطابًا ثقافيًا وعقائديًا يعيد تشكيل الوعي الجمعي من الداخل. فالمباني التي نعيش فيها، ونتعلم ونتسوق داخلها، ليست حيادية كما يُظن، بل تحمل في طياتها رؤى ومعتقدات قد تتصادم مع قيم المجتمع أو تُعيد توجيهها.
هذه الورقة لا تكتفي بتشخيص أزمة التعليم المعماري، بل تطرح سؤالًا أكثر عمقًا: كيف تحوّل التعليم المعماري إلى منصة تغريب، تُنتج معماريين يحملون توجهات متضاربة، ويُسهمون في تفكيك الهوية البصرية والثقافية للمدن الليبية؟ وما السبيل إلى استعادة العمارة كأداة تعبير عن الذات الجمعية، لا كوسيلة لفرض قيم دخيلة؟

1.      العمارة ليست حيادية

العمارة، في جوهرها، ليست مجرد بناء وظيفي، بل هي خطاب ثقافي محمّل بالمعتقدات والتوجهات. سواء تجلت في مبنى سكني أو مخطط عمراني، فهي تعكس رؤية المعماري ووعيه أو انبهاره، وتنقل إلى الواقع مشروعًا فكريًا قد يتصادم مع قيم المجتمع.

2.      التعليم المعماري كمنصة تغريب

يُغرق التعليم المعماري الطالب في طرز عالمية متضاربة دون أن يُبصره بخلفياتها الفكرية والعقائدية، مما يؤدي إلى إنتاج معماريين يحملون توجهات متصادمة. هذا الانفصال بين الشكل والمضمون يسهم في انحراف تدريجي للمجتمع عن قيمه، عبر مشاريع معمارية تُنفذ دون وعي بمآلاتها الثقافية.

3.      العمارة كأداة لإعادة تشكيل المجتمع

خطورة العمارة تتجاوز الأدوات الأخرى، لأنها تحتضن الإنسان وتعيد تشكيل وعيه اليومي. ومع تضارب الطرز، تتعدد القناعات داخل المجتمع الواحد، ويصبح كل فرد رهينًا للبيئة المعمارية التي يعيش فيها، مما يُضعف إمكانية تكوين رأي عام موحد.

4.      تغريب العمارة وطمس المحلي

في التعليم المعماري المعاصر، يُروَّج للطراز الغربي بوصفه معيارًا للحداثة والتطور، بينما تُهمَّش العمارة المحلية ذات البُعد الإسلامي وتُقدَّم كأثر تجاوزه الزمن. هذا التحيّز لا يقتصر على الشكل، بل يمتد إلى المضمون، حيث تُغذّى الأجيال المعمارية الجديدة بفكر مادي أو إلحادي، يُترجم عمليًا في مشاريع تفتقر إلى الروح الإسلامية. وهكذا، تُصنع بيئة عمرانية تُكرّس قيمًا دخيلة تحت شعار "مواكبة العصر"، في مقابل طمس الهوية وتهميش الجذور.

5.      أزمة الخطاب الثقافي في ظل تعدد المصادر

تعدد مصادر الثقافة داخل المجتمع الواحد يجعل من كل خطاب يحمل مضمونًا مغايرًا عرضة للرفض، مما يُعمّق الانقسام ويُضعف القدرة على بناء وعي جمعي متماسك.

6.      المدن الليبية بين فقدان الهوية وتضارب الرسائل البصرية

إن المدن الليبية اليوم تعاني من تشوّه بصري ناتج عن تضارب الطرز المعمارية المستوردة، التي لا تنتمي إلى السياق المحلي لا في مادتها ولا في روحها. هذا التراكم غير المنسجم يُنتج بيئة عمرانية مفككة، تُربك الوعي الجمعي وتُضعف الإحساس بالانتماء. فحين تغيب المرجعية العقائدية والثقافية عن التصميم، تتحول المدينة إلى معرض طرز متنافرة، لا تعكس هوية أهلها ولا تحفظ ذاكرتهم. وهكذا، تصبح العمارة أداة تغريب لا وسيلة تعبير، ويغدو الفضاء اليومي للمواطن الليبي مشحونًا برسائل بصرية لا يفهمها ولا ينتمي إليها.

الخاتمة

إن العمارة، بما تحمله من رموز ومضامين، لا تبني الجدران فقط، بل تُعيد تشكيل الإنسان داخلها. وحين يُغفل التعليم المعماري هذا البُعد، يتحوّل إلى أداة تغريب تُنتج بيئات عمرانية مفككة، تُربك الوعي وتُضعف الانتماء.
لذا، فإن إعادة النظر في مناهج التعليم المعماري ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة ثقافية لحماية المجتمع من التصدّع القيمي.
إن استعادة العمارة المحلية، لا بوصفها تراثًا جامدًا بل كخطاب حيّ متجدد، هو السبيل إلى بناء مدن تعبّر عن أهلها، وتحفظ ذاكرتهم، وتُقاوم الاستلاب البصري والفكري باسم الحداثة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...