السبت، سبتمبر 13، 2025

من رسومات الكهوف إلى الإزميل والماوس: هل تغيّرت الأداة أم تغيّر المعنى؟



تربط هذه الصورة بين الإدراك الحسي والتفكير الإبداعي والتنفيذ اليدوي، وتُظهر كيف تتفاعل الحواس والعقل مع الفعل المعماري. الصورة تُجسد أن المعمار ليس فعلًا تقنيًا فقط، بل مسارًا إدراكيًا متكاملًا، مهما تطورت أدواته.


جمال الهمالي اللافي

في كل مرحلة من مراحل تطور أدوات المعماري، كان هناك من يرفع راية الدفاع عن "الأصالة"، وكأنها حكر على الوسيط اليدوي. من رسومات الكهوف الأولى، إلى الإزميل الذي حفر على الصخور، ثم قلم الرصاص والحبر، وصولًا إلى الماوس والشاشة، ظلّ الخطاب المعماري يتأرجح بين تقديس الأداة ومساءلة الفكرة. واليوم، حين يستعين المعماري ببرامج الرسم الحديثة، يُتهم أحيانًا بالتخلي عن "الروح"، وكأن الإبداع لا يتحقق إلا عبر الورقة والقلم.

لكن هذا النقد، وإن بدا حريصًا على جوهر المهنة، يغفل عن أن جوهر المعمار لا يكمن في الأداة، بل في الفكرة، وفي القدرة على تجسيدها بدقة وصدق. الرسم اليدوي ليس معيارًا للإبداع، بل وسيلة من وسائل التعبير. ومن يجيد التعبير عبر الماوس أو الشاشة لا يقل صدقًا عن من يرسم بالقلم. بل إن البرامج الحديثة، من أوتوكاد إلى سكيتش أب، منحت المعماريين أدوات أكثر توافقًا مع تسارع الأفكار، وحررتهم من عناء التكرار اليدوي، ومن الملل الذي يرافق إعادة تعديل الاسكتشات بعد اكتشاف خلل ما.

لقد رسم بعض النقاد المعماريين صورة شهيرة تُظهر كيف تنتقل الفكرة من الرأس إلى العين إلى اليد، في سلسلة إدراك لا تنكسر. هذه الصورة لا تُدين التحول من الورقة إلى الشاشة، بل تُذكّرنا بأن جوهر العملية التصميمية لم يتغير. الرأس لا يزال يفكر، والعين لا تزال ترى، واليد لا تزال تُنفّذ. ما تغيّر هو القلم والورقة، من رصاص إلى ماوس، ومن ورقة إلى شاشة. ولا ندري ما الجديد الذي سيأتي، لكننا نعلم أن المعماري الصادق سيظل يبحث عن أداة تُجسّد فكرته بأوضح صورة، لا عن وسيلة تُرضي الحنين.

إن الانتقال من الرسم اليدوي إلى الرقمي ليس تخليًا عن الحرفة، بل هو انسجام مع طبيعة المعماري نفسه، ومع حاجته إلى آلية تنفيذ تتفق مع إيقاعه الذهني. فلكل معماري آلية ينفذ بها رسوماته، وليس بالضرورة أن تكون يدوية. وما دامت البرامج تساعده على تحقيق فكرته وتوصيلها بأوضح صورة لزبائنه، فإن التشكيك في مشروعيتها لا يعدو أن يكون حنينًا غير مبرر، أو مقاومة لتغير لا يمكن إيقافه.

الأصالة لا تُقاس بنوع القلم، بل بصدق الفكرة، وبقدرة المعماري على أن يكون مرآة لذاته، لا نسخة من ماضٍ لا يعود. وما يهم في النهاية، ليس كيف رُسمت الفكرة، بل كيف وصلت، وكيف أثّرت، وكيف بقيت.

من الفكرة إلى الواقع: هل تحقق المشروع أم أُضيف إلى التشويه؟

الرسم المعماري، في جوهره، ليس لوحة تشكيلية تُعلّق على الجدار، بل أداة توضيح دقيقة تُوجّه العمالة المنفذة على أرض الواقع. بعد أن يقتنع الزبون بأن هذا هو المشروع الذي يريده، تبدأ مرحلة الاختبار الحقيقي: هل ينجح التصميم في تحقيق معايير الكفاءة والملاءمة؟ أم يتحول إلى كتلة جديدة تُضاف إلى مشهد عمراني مشوّه، تساهم في تفاقمه رغم دقة خطوطها اليدوية ورقيّ إخراجها على الورق؟

العبرة ليست في جمال الرسم، بل في صدق التنفيذ. فكم من مشروع رُسم بإتقان، لكنه عند التنفيذ أضحى جزءًا من العشوائية، لا من الحل. وهنا يتضح أن الأداة، سواء كانت قلمًا أو ماوسًا، ليست هي الحكم، بل النتيجة التي تترك أثرها في الواقع، وتُعيد تشكيله أو تُشوّهه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...