الخميس، سبتمبر 04، 2025

أزمة التخصصات المتجاورة: غياب الرؤية التكاملية في المشهد المعماري الليبي


جمال الهمالي اللافي

    في هذا النص، لا أطرح رأيًا عابرًا ولا أبحث عن جدل نظري. بل أشارككم تشخيصًا لمشكلة مهنية تتكرر في المشهد المعماري الليبي، وتُفرغ العمل الإبداعي من روحه التكاملية. وفي ختامه، أوجّه دعوة محددة، ليست عامة ولا مفتوحة، بل موجهة لمن يشتركون معي في الرؤية، ويؤمنون أن المعنى يسبق المكسب، وأن التكامل لا يُشترط، بل يُبنى.

المشهد الإبداعي الليبي: تقاطع التخصصات وتباعد الرؤى

    في الحقل الإبداعي الليبي، حيث تلتقي العمارة بالتصميم الداخلي، وتتقاطع مع تصميم الجرافيك وتنسيق الحدائق، يُفترض أن نجد بيئة خصبة للتعاون المثمر. فهذه التخصصات، رغم استقلاليتها، تشترك في هدف جوهري واحد: خلق فضاءات إنسانية متناغمة وذات قيمة وظيفية وجمالية. إلا أن الواقع المهني يكشف عن ظاهرة مقلقة تتمثل في هيمنة النزعة الفردية، التي تحوّل إمكانية العمل المشترك إلى مجرد طموح نظري بعيد المنال.

    إن إشكالية "التفرد" تضرب بجذورها في منهجية العمل السائدة. فبدلاً من أن يكون المشروع عملية تطوير تكاملية منذ مراحله الأولى، يتحول إلى سلسلة من المهام المنفصلة. يبدأ المعماري بوضع رؤيته، سواء كانت متجذرة في التراث المحلي، أو منساقة نحو الحداثة، أو حتى شاطحة في اتجاهات تجريبية. وعند هذه النقطة، بدلاً من أن يجد شركاء يثرون رؤيته ويضيفون إليها من منظور تخصصاتهم، يُطلب منه غالباً "التنحي جانباً".

    هنا تبدأ المرحلة الثانية من التشظي؛ حيث يضع كل متخصص "بصمته الخاصة" بمعزل عن روح التصميم الأصلي. فتأتي حلول التصميم الداخلي، أو هوية الجرافيك، أو تنسيق المناظر الطبيعية، كطبقات منفصلة تُضاف إلى الهيكل المعماري، وغالباً ما تتنافر معه بشكل صارخ. يصبح هذا التضارب في الأسلوب والرؤية بمثابة "ضريبة" حتمية للاستعانة بهذه الخبرات، مما ينتج عنه بيئة مبنية تفتقر إلى الانسجام والتناغم، أشبه ما تكون بقطع فنية جميلة وُضعت معاً قسراً بلا رابط.

    تتعمق هذه الأزمة حين يتحول التعاون من شراكة مهنية ضرورية إلى ما يشبه "الخدمة العابرة". ينظر المتخصصين الآخرين إلى مساهمتهم على أنها التزام مؤقت يجب إنجازه بأسرع وقت ممكن للانتقال إلى مشاريع أخرى، مما يفرغ العملية الإبداعية من أهم عناصرها: الصبر، والحوار، والنضج المشترك للوصول إلى حل تصميمي متكامل ومتفوق.

    وفي مواجهة هذا التشظي المهني، لا تبدو الحاجة إلى "شراكة تكاملية" ترفًا تنظيريًا، بل ضرورة ملحّة لإعادة الاعتبار للفعل الإبداعي بوصفه ممارسة جماعية ناضجة. إنها دعوة مفتوحة لكل من يعمل في هذه التخصصات المتجاورة، لتجاوز منطق "الخدمة العابرة" نحو تأسيس رؤية مشتركة، تُعيد للعمارة المحلية المعاصرة معناها المتكامل. رؤية لا تُختزل في المكسب المادي، بل تنشد عملًا إبداعيًا تتضافر فيه الخبرات، وتتكامل فيه البصمات، ويُصاغ فيه المشروع ككلٍّ حيّ، لا كأجزاء متنافرة. فالتأصيل لا يتحقق بالاجتهاد الفردي وحده، بل بالوعي الجمعي الذي يرى في التكامل قيمة، وفي الحوار وسيلة، وفي الصبر شرطًا للتميز.

نحو شراكة واعية: اختبار التناغم قبل الالتزام

    ومن موقعي كممارسٍ ومتابعٍ لهذا الحقل، أتوجه بدعوة صريحة إلى من يشتركون معي في الرؤية، ويؤمنون بأن التكامل ليس خيارًا تجميليًا، بل ضرورة مهنية وأخلاقية. لا أطرح هذه الدعوة على العموم، فقد خضت مرارًا تجارب تعاون لم تُفضِ إلا إلى مزيد من التنافر، حين كانت الغاية مكسبًا لا معنى، أو حضورًا لا أثر. لذلك، أخص بها من يرى في العمل الإبداعي غاية تتجاوز المكسب، وفي الشراكة وسيلة لبلوغ مشروع متكامل، حيّ، ناضج، يُصاغ بتفاعل حقيقي بين التخصصات لا بتجاورها الصامت. وستنطلق هذه الشراكة أولًا من محاولة تقريب أساليب العمل والتفكير، عبر مشاريع منجزة سابقًا قُدّمت لزبائنها، لا من مشاريع جديدة يُفترض أن تُنتج فورًا. فالتجربة المشتركة هي الشرط الأول، والانسجام المهني هو المعيار، قبل أي تورط في التزامات حالية أو قادمة. إن تأصيل العمارة المحلية المعاصرة لا يتحقق بالاجتهاد الفردي، ولا بالتعاون العابر، بل باللقاء الواعي بين من يطلبون المعنى قبل الشكل، ويؤمنون أن التكامل لا يُشترط، بل يُبنى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...