الخميس، سبتمبر 11، 2025

العمارة كملاذ: حين يصبح الفضاء شريكًا في التوازن النفسي

 

جمال الهمال اللافي

في عالم يزداد توترًا، وتضيق فيه المساحات النفسية، تبرز العمارة كأحد آخر الحقول التي لا تزال تحتفظ بقدرتها على الاحتواء. ليست العمارة مجرد بناء، ولا المصمم مجرد موزّع للكتل والفراغات. العمارة، حين تُمارس بصدق، هي فعل رعاية. هي استجابة صامتة لحاجات لا تُقال، وملاذٌ لمن أنهكته الحياة ولم يعد يطلب سوى مساحة لا تُحاكمه، ولا تُرهقه، ولا تُذكّره بما فاته.

الفضاء كامتداد للذات المنهكة

حين يدخل الإنسان إلى فضائه الخاص، لا يبحث عن ترف بصري، بل عن توازن داخلي. الغرفة ليست مجرد أربعة جدران، بل مرآة لحالته النفسية، وامتداد لهشاشته أو صلابته. الضوء، التوزيع، الملمس، وحتى الصمت، كلها عناصر تُسهم في صناعة الراحة، أو في تعميق التوتر. العمارة لا تُداوي الجسد، لكنها تُهيّئ له شروط التعافي.

تجربة حية: حين ينصت التصميم لما لا يُقال

في أحد البرامج المعمارية، طُلب من مصممة داخلية تعديل غرفة نوم لطبيبين جراحيين، يقفان لساعات طويلة في غرفة العمليات. لم يكن طلبهما متعلقًا بالذوق أو الترف، بل بالحاجة إلى ملاذ يعيد لهما توازنهما النفسي والجسدي بعد أيام مرهقة.

عندما اكتملت الغرفة، ودُعيت الزوجة لرؤيتها، اغرورقت عيناها بالدموع. لم يكن ذلك بكاءً على جمال التصميم، بل انفعالًا نابعًا من شعور عميق بأن أحدًا أخيرًا أنصت لحاجتها الداخلية، واحتضن هشاشتها دون أن يطلب منها الصلابة.

هذه اللحظة، العابرة في ظاهرها، تكشف جوهر العمارة حين تُمارس بصدق: لا كاستعراض بصري، بل كفعل إنصات لما لا يُقال، واحتواء لما لا يُعبّر عنه بالكلمات. العمارة، حين تنجح، لا تُجمّل المكان فقط، بل تُداوي ما لا يُداوى بالقول.

المعماري كمنصت قبل أن يكون موجّهًا

المعماري الحقيقي لا يبدأ من الهوية، بل من الإنسان. إنه يُنصت أولًا للحاجات النفسية والجسدية لمن يقصده، ويستوعب ظروفه وتوتراته وهشاشته، قبل أن يخوض في مسائل الهوية المعمارية، أو يختار مواد البناء، أو يقرر أساليب الإنشاء. فالمطلب الإنساني هو نقطة الانطلاق، وما يأتي بعده من خيارات تصميمية يجب أن يُبنى عليه، لا أن يسبقه أو يطغى عليه.

الهوية المعمارية ليست فرضًا، بل استجابة واعية تنبع من فهم عميق للإنسان في سياقه، وتُصاغ بما يليق براحته وكرامته، لا بما يُرضي الذوق العام أو يُجاري السوق.

العمارة في مواجهة التوتر اليومي

في زمن التسرّع، تصبح العمارة فعل مقاومة. مقاومة للضجيج، للتشظي، للانفصال عن الذات. حين يُصمم الفضاء ليكون مأوى، لا مجرد مكان، فإنه يُعيد للإنسان شيئًا من توازنه المفقود. العمارة، في هذه الحالة، لا تُقدّم حلولًا جاهزة، بل تُتيح للساكن أن يستعيد نفسه، أن يتنفس، أن يهدأ.

خاتمة

العمارة ليست استجابة لطلب وظيفي، بل لحاجة إنسانية عميقة: أن يجد الإنسان مكانًا لا يُطالبه بشيء، ولا يُحمّله أكثر مما يحتمل. حين يُصمم المعماري بوعي، لا يخلق مكانًا فحسب، بل يخلق لحظة تنفس. وفي زمن التوتر، تصبح العمارة فعل رحمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...