الاثنين، سبتمبر 22، 2025

العمارة المحلية بين التبعية والادعاء: حين يُختزل الحاضر في الزجاج

من بوابة الزمن إلى مفترق المعنى

شخصان يعبران من قلب طرابلس القديمة نحو المدينة المعاصرة، كأنهما يقطعان المسافة بين ذاكرة المكان وواقعٍ يتبدّل.
هذه البوابة ليست مجرد حجرٍ منحوت، بل حدٌّ فاصل بين عمارةٍ تحكي قصة الناس، وأخرى تروي حكاية الانبهار.
هنا، يقف الموروث شامخًا، بينما المعاصرة تلوّح براياتها الزجاجية في الأفق.
فهل العبور فعلُ تواصلٍ أم قطيعة؟


جمال الهمالي اللافي

يطيب للبعض حين يتحدث عن مدينة ما، أن يصفها بأنها تجمع بين الماضي العريق والحاضر، ثم يسارع إلى استعراض ناطحات السحاب والمباني الزجاجية المغتربة على أنها "رموز حضارية". والمغالطة هنا ليست في التوصيف فحسب، بل في جوهر الفهم: فهذه المباني ليست إلا انعكاسًا لحالة تبعية وانتكاسة حضارية، لا تجديدًا ولا إثراءً.

الحضارة لا تُقاس بمقدار ما نخلعه من جلدنا، بل بقدرتنا على التواصل مع جذورنا وإثرائها. فكل مرحلة عمرانية تحكي عن تواصل حضاري لشعب ما، حيث تتكيف العمارة مع تجدد الاحتياجات دون أن تقطع حبل الوصل بين عمارة الأجداد وعمارة الأحفاد. الحضارة ليست استبدالًا ولا تخليًا، بل سلسلة متصلة لا تنفصم عراها.

هذا الطرح يناقش الفكرة، لا الأشخاص. ومن شمله النقد، فليأخذ المغزى لا المأخذ. لا مجاملة في الحق، ولا خشية من لومة لائم، فقد خرجت الأمور عن نصابها.

حين تكون مرجعيتك مشاريع لوكوربوزييه أو عمارة التفكيك، ثم تدّعي أنك تستلهم من العمارة المحلية، فأنت لا تكذب فقط، بل تضلل. حين تملأ تصاميمك بمسطحات الزجاج والمساحات المفتوحة وتغيب الخصوصية، ثم تزعم مراعاة الظروف المناخية والاجتماعية، فأنت تجهل معنى العمارة المحلية ومقتضياتها ومعطياتها وأصولها ومفرداتها وخصائصها وتاريخها.

العمارة المحلية ليست زخارف ولا أقواس، بل علم متعدد الفروع، يبدأ من توزيع الفراغات ويتفاعل مع البيئة والإنسان. كما قال المهندس صالح المزوغي:

"العمارة المحلية مساقط وفراغات قبل أن تكون أقواسًا وفتحات... تستوقفك لتجلس على ركابة، تستمتع بما حبس أنفاسك، في بيئة وفرها لك المعماري، سواء كان مهندسًا أو بنّاءً أو حتى مقلدًا لمعلم خالد أبقاه الزمان رغم التقنية والتقدم العلمي."

الإلمام الواعي بخصوصية العمارة المحلية يجعل المعماري يتعامل معها بعقلية الجراح، لا المغامر. فليس من مهامه قلب الطاولة، بل إعادة ترتيبها بحكمة.

المعادلة التي لا يفقهها كثيرون: ما نبنيه اليوم هو عمارة المستقبل، وما بناه أجدادنا كان عمارة حاضرنا. حين هدمنا تلك الصروح بزعم أنها "ماضٍ"، كنا في الحقيقة نهدم حاضرنا. فخسرنا الجميل، وورثنا القبح، ونعمل جاهدين لنصدّره لأحفادنا.

التصميم المعماري الناجح لا يكتفي بالإبهار، بل يحكي قصة ترتبط بالتاريخ والواقع. أما من يتقن نسج الحكايات حول تصاميمه ليغري بها مالك المشروع، ثم يناقضها في التنفيذ، فهو كاذب. لأنه يعلم أن المجتمع لا يفرق بين الحكاية والواقع، ويحب من يخدعه أكثر من من يصارحه، ما دام ذلك المخادع يملك أدوات الإبهار القادمة من وراء البحار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...