الاثنين، سبتمبر 15، 2025

من رغيف الخبز إلى عمارة البيت: كيف يُقاس تراجع الإبداع في تفاصيلنا اليومية؟

  

جمال الهمالي اللافي

ما يحدث لفردة الخبز، يحدث لجدار البيت، ولتفصيل الباب، ولتوزيع الضوء في المسكن. غياب الشغف في صناعة الخبز هو ذاته غيابه في تصميم البيت الليبي المعاصر، حين يُستبدل الحس بالمخطط، والضمير بالمقاول، والهوية بالاستيراد البصري. هذا الربط ليس مجازًا بل واقعًا، يُظهر كيف أن الرداءة لم تعد استثناءً، بل نمطًا معمّمًا في تفاصيل الحياة اليومية.

1.      الشغف كشرط للإبداع

في زمنٍ غير بعيد، كانت الحرف تُنجز بشغف، من فردة الخبز التي تُخبز بحب، إلى زخرفة الأبواب التي تُنقش بصبر. كان الصانع، والمعماري، والحرفي، والفنان، ينهلون من معين التأني، ويُقبلون على الصنعة كمن يُقبل على عبادة، لا كمن يُؤدي وظيفة. الشغف لم يكن ترفًا، بل شرطًا للإبداع، وكان الصبر بوابته، والاتقان ذروته. أما اليوم، فقد تحولت الحرفة إلى أداء وظيفي مجرد، تُنجز على عجل، وتُفرغ من معناها، وتُباع بلا روح.

2.      الخبز كمجاز حضاري

فردة الخبز التي تباع اليوم في المخابز، ليست مجرد منتج رديء، بل هي مجاز حضاري لانهيار المعايير. نعلم جميعًا كيف صار حالها، مثلما نعلم كيف كانت حين كان الشغف مغلفًا بالإبداع، ومخافة الله تسبق اليد إلى العجين. هذا التدهور لا يمس الخبز وحده، بل يمتد إلى العمارة، واللباس، والفنون، وكل ما يُفترض أن يُصنع ليُكرّم الإنسان، لا ليُهين ذائقته. حين يُفقد الحس الجمالي والمهني، يُفقد المعنى، ويُفقد الإحساس بالكرامة في تفاصيل الحياة اليومية.

تنويه واجب: الخبز ليس مجرد صنعة

إن امتهان صناعة الخبز بالتحديد، ورفع سعره رغم رداءة صنعته، هو امتهان مباشر لكرامة المواطن في أبسط حقوقه المعيشية. فالمسألة هنا تتجاوز الإهمال في إتقان الصنعة، لتُلامس جوهر الحق في الغذاء الكريم، وفي الحد الأدنى من الاحترام لاحتياجات الإنسان اليومية. لكنها لا تقف عند حدود الرغيف، بل تمتد إلى جدار البيت، وسقف المسكن، وتفصيل الباب، وتوزيع الضوء. فما يُمارس على الخبز من رداءة في التصنيع وغلاء في السعر، يُمارس أيضًا على المباني وموادها، حيث ترتفع الكلفة وتنهار الجودة، ويُقدّم للمواطن منتج معماري لا يراعي بيئته، ولا يُكرّم ذائقته، ولا يُحترم فيه حقه في السكن الكريم. حين يُباع الرديء بسعر مرتفع، يُصبح المواطن ضحية مرتين: مرة في جسده، ومرة في كرامته، سواء أكان ذلك في رغيفه أو في سقف بيته. وهذا ليس خللًا في السوق فحسب، بل خلل في منظومة القيم، حيث يُستباح ما لا يُستباح، ويُهان ما لا يُهان، ويُختزل الإنسان في مستهلك لا يستحق إلا ما يُلقى إليه.

3.      المواطن كطرف في المعادلة

المواطن الليبي يتحمل المسؤولية الكاملة في الرضى بقبول ما خالف أصول الصنعة. يدفع الثمن مرتين: مرة في سعرها المرصود، ومرة في صحته، وراحة باله، ونفسيته، ومتعة النظر، وجمال المنظر في مخبره قبل مظهره. القبول بالرداءة ليس مجرد ضعف، بل هو تواطؤ صامت، يُكرّس الرداءة ويمنحها شرعية الاستمرار. ولا يُطلب من المواطن أن يثور، بل أن يستعيد وعيه، لا من باب التوبيخ، بل من باب المقاومة الصامتة، التي تبدأ برفض الرديء، والمطالبة بالأجود، والامتناع عن تمويل الرداءة.

الإبداع لا يُستورد، بل يُستعاد حين نُعيد الاعتبار للشغف، ونُعيد الصنعة إلى أهلها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...