جمال الهمالي اللافي
في
كثير من الأحيان، لا يكون الخلل في غياب الإبداع، بل في توجيهه نحو التشويه بدلًا
من الإثراء. يحدث ذلك حين يُعاد إنتاج عناصر الموروث الثقافي- من عمارة وحرف فنية
وملبوس وأكل وعادات وتقاليد- دون دراسة عميقة لمفرداته وتفاصيله، أو فهمٍ
لجمالياته التي انطلقت من بيئته المحلية ومصادره الأصلية، أو حتى مؤثراته الخارجية
التي امتزجت معه تاريخيًا دون أن تبتلعه.
إن
العناصر الزخرفية والتفاصيل التي تدخل في تشكيل جماليات المنتج المحلي المعاصر، قد
تكون مدخلًا للإثراء حين تُستعاد بوعي، لكنها تتحول إلى أدوات للتشويه حين تُستبدل
بعناصر دخيلة لا تنتمي إلى السياق الثقافي أو البيئي. فتغدو العمارة، والصناعات
الحرفية، والزي التقليدي، وحتى المأكولات، مجرد نسخ متقنة لما يبدعه الآخر، لا
امتدادًا لما أبدعه الحرفي الليبي في لحظة صدق مع بيئته.
لقد
طال هذا التشويه الزي التقليدي للرجال والنساء، حيث بات يُعاد إنتاجه وفق أذواق
مستوردة، تُفرغ الملبوس من رمزيته وتحوّله إلى زينة سطحية. كما أصابت العدوى صناعة
الفخار في موطنه الأصلي بغريان، حيث تُستبدل تقنيات الصنع اليدوية بمنتجات شبه
صناعية لا تحمل روح المكان ولا ذاكرته. أما المدينة القديمة، فتعاني من موجة
"صيانة" لا تراعي أصول الترميم، حيث يُستبدل الطين بالحجر، والحجر
بالإسمنت، فتُطمس المعالم تحت ادعاءات التحديث، ويُمحى التاريخ باسم الحفاظ عليه.
وواقعنا
اليوم يشهد على حرب شعواء تُشنّ على الموروث الثقافي، لا من الخارج، بل من الداخل،
حين يُنسب إلى مؤثرات دخيلة، ويُعاد إنتاجه بمنطق الاستلاب لا بمنطق الاستيعاب.
ويبدو ذلك جليًا في الخطاب السائد حول العمارة المحلية، التي تُختزل في قوالب
مستوردة، وتُحاكم بمعايير لا تنتمي إلى تربتها.
في ضوء ما
سبق، يتضح أن الإشكالية لا تكمن في مجرد تغيّر الشكل أو تطوّر الوسائل، بل في غياب
الوعي النقدي الذي يميّز بين الإثراء الواعي والتشويه المقنّع. فحين يُستبدل
الموروث الحرفي بعناصر دخيلة دون فهمٍ لجذوره أو احترامٍ لخصوصيته، لا نكون بصدد
تحديث أو تطوير، بل نكون أمام فعل محوٍ تدريجي للذاكرة الجمعية، يُنفّذ بأدوات
محلية وبأيدٍ تظن أنها تُحسن صنعًا.
إن ما
يحدث في غريان من تراجع في صناعة الفخار، وما يُرتكب بحق المدينة القديمة تحت شعار
"الترميم"، وما يُعاد إنتاجه من زيّ تقليدي منزوع الدلالة، ليست حالات
معزولة، بل مؤشرات على خلل أعمق في فهم العلاقة بين الهوية والممارسة. فالموروث
ليس مادة خامًا تُعاد صياغتها حسب الذوق، بل هو خطاب بصري وثقافي يحمل في طياته
طبقات من التاريخ والرمزية والانتماء.
ولذلك،
فإن الدفاع عن الموروث لا يعني تجميده أو تقديسه، بل يعني مساءلة كل تدخل فيه: هل
يُعيد الاعتبار لما كان؟ أم يُعيد إنتاج ما لا يجب أن يكون؟ وهل نحن نُعيد بناء
الذاكرة، أم نُعيد إنتاج النسيان؟ هذه الأسئلة وحدها كفيلة بأن تضع كل ممارسة
حرفية أو تصميمية أمام امتحان الصدق، لا أمام استعراض الإتقان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق