الثلاثاء، سبتمبر 23، 2025

طرابلس القديمة: من فضاء إلى منهج



مدخل للنص: الذاكرة كمنهج

ليست العمارة مجرد بناء، بل هي ذاكرة تتجسد في المكان، وتُعيد تشكيل الذات عبر الزمن. وفي سياق التجربة الليبية، حيث تتداخل الجغرافيا بالتاريخ، ويُثقل التراث كاهل الحاضر، تصبح العلاقة بالمدينة الأولى أكثر من مجرد انتماء، إنها علاقة تكوين.

هذا النص لا يُروى بوصفه سيرة شخصية، بل بوصفه شهادة تلمذة واعية، تُعيد الاعتبار لطرابلس القديمة كمعلمة، لا كمتحف. فالمعماري لا يُصاغ فقط في قاعات الدراسة، بل في الأزقة، والفراغات، والتفاصيل التي تُلقّنه الصبر، وتُعلّمه التدرج، وتُهذّب انفعاله.

في هذا النص، أكتب من موقع النضج، لا لأستعرض، بل لأوثّق العلاقة التي شكّلت منهجي، ووجّهت رؤيتي، وألهمتني مقاومة الاستلاب البصري والوظيفي. ولا أكتب عن طرابلس القديمة بوصفها "محبوبة"، بل بوصفها "منهجًا"، يُعلّم ولا يُدلّل، يُنقّح ولا يُغوي، ويُبقي المعماري على صلة بالجوهر، لا بالانبهار.

 

هذا النص كتب بعد استقالتي في العام 2001 من عملي بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة:

لكل معماري، في ليبيا أو في العالم، معلمٌ تتلمذ على يديه، ويدين له بالفضل الأكبر فيما بلغ من فهمٍ وممارسة. وغالبًا ما ينعكس أثر هذا المعلم في أعمال تلميذه، ظاهرًا أو خفيًا.

أما أنا، وقد دخلت عقدي السابع، فأدين بكل الفضل لمعلمةٍ نهلت من معينها منذ مراحل مبكرة. انتبهت لشغفي بالعمارة وأنا لا أزال في المرحلة الإعدادية، ففتحت لي أبواب فضائها الرحب، وأدخلتني عالمها الواسع، وبدأت تلقنني أسرارها في سلسلة من الدروس الممتعة والمشوقة. علمتني كيف أصبر عليها، وألا أطالبها بكل شيء دفعة واحدة، بل أتلقى معارفها بالتدرج، مبنيًا على الملاحظة والفهم العميق لكل سر من أسرارها. حتى حببتني في العمارة، وجعلتها هدفي ورسالةً أعبر من خلالها عن رؤيتي وفهمي لدوري في هذه الحياة.

وبعد التحاقي بقسم العمارة والتخطيط العمراني بجامعة طرابلس، بقيت هي معلمتي الحقيقية، وحرصت على التواصل معها دون انقطاع، في فضائها الذي لا يضيق. ومن أجلها، التحقت بمشروع تنظيم وإدارة مدينة طرابلس القديمة، لأكون قريبًا منها، لا يشغلني عنها شيء. وحتى بعد انقطاعي عن العمل في هذه المؤسسة، حافظت على صلتي بها، ولا زلت حتى اليوم أزورها، فتزودني بما يضيء الطريق، وتحتضن هواجسي، وتستوعب أفكاري، وتمنحني من أصالتها ما يُبقيني على صلة بالجوهر.

ولأجل ألا توصم علاقتي بمدينة طرابلس القديمة، كما يروق للبعض أن يصفها، بالعشق أو الجنون، أُوضح أن هذه العلاقة ليست اندفاعًا عاطفيًا ولا انبهارًا غير واعٍ:

  • فالعاشق لا يرى في محبوبته أي عيب أو قصور، ويختزن في عقله اللاواعي صورةً مخالفةً للحقيقة، تجعله يتصرف وفق تصور مغلوط، بعيد عن الواقع.
  • والمجنون لا يعقل ولا يدرك ماهية الأشياء من حوله، وأعماله لا تخضع للمنطق السليم، ولا تستند إلى علاقة تفاعلية واعية ومدركة بين الأنا والموضوع، قائمة على البحث والاستقصاء والتقييم المنهجي.

علاقتي بمدينة طرابلس القديمة:

  • علاقة واعية، مدركة، مستقلة عن أي اندفاع عاطفي أو استلاب عقلي يثير الشفقة.
  • علاقة تلمذة واعتراف بالفضل، وتحديد للمدرسة التي استلهمت منها منهجي الفكري ورؤيتي المعمارية لمستقبل العمارة في بلادنا.

كبرت معلمتي في السن، وبدأت الأمراض تنهش جسدها الجميل، لكنها بالنسبة لي لا تزال فتية، تنبض بالحياة، ولا تنقطع عن العطاء.

معلمتي الفاضلة، مدينة طرابلس القديمة، لكِ فائق التقدير على كل ما تعلمه منك تلميذٌ يفتخر بأنك معلمته الأولى والأخيرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...