جمال الهمالي اللافي
في الغرب، لا تُبنى العمارة
على فراغ، بل تنبت من تربة الوعي الجمعي، وتتشكل من عناصر البيئة، واحتياجات
المجتمع، وقيمه المتجددة. فالمعماري الغربي، حين يخطّ مشروعه، لا يستورد أدواته من
الخارج، بل يستنبتها من سياقه المحلي، مستندًا إلى تقنيات ومواد أنجزها حرفيوه،
وإلى هوية معاصرة صاغها مفكروه ومبدعوه. ورغم اختلاف الأساليب بين الكلاسيكية
والمعاصرة، فإن ما يجمعهما هو انتماؤهما إلى بيئة واحدة، لا إلى موضة عابرة أو
مرجع مستعار.
وهنا يتضح الفارق بين التقليد
والابتكار: فالتقليد يكتفي باستنساخ الشكل، ويغفل عن الروح التي أنتجته. أما
الابتكار، فهو فعل مقاومة للفراغ، واستجابة واعية للزمن والمكان. إنه لا يرفض
الماضي، بل يعيد تأويله، ويمنحه امتدادًا حيًّا في الحاضر. العمارة المبتكرة لا
تُعرض، بل تُحاور؛ لا تُبهر، بل تُعبّر. وهي بهذا، ليست مجرد بناء، بل خطاب ثقافي
بصري، ينهض من الأرض التي يقف عليها، ويخاطب الناس بلغتهم، لا بلغة مستعارة.
في المدن التي غزتها العمارة
المستوردة، يبدأ التحوّل النفسي بصمت: يشعر الناس أن الفضاء لا يُشبههم، أن
النوافذ لا تُطلّ على ذاكرتهم، وأن الألوان لا تُخاطب وجدانهم. ومع الوقت، يتحول
هذا الشعور إلى حياد بصري، ثم إلى اغتراب داخلي. المباني التي لا تُشبهنا لا
تُطمئننا، بل تُربكنا. إنها لا تحتضننا، بل تُقصينا.
هذا الاستلاب لا يقتصر على
الشكل، بل يتسلل إلى تفاصيل الحياة اليومية: في طريقة الجلوس، في توزيع الضوء، في
علاقة الداخل بالخارج. حتى الحميمية تُعاد قولبتها وفق نمط لا نعرفه، ولا نختاره.
وهكذا، يُعاد إنتاج الغربة في كل زاوية، ويُعاد تشكيل الذائقة الجمعية وفق مرجع لا
علاقة له بالبيئة أو بالعادات أو بالوجدان.
الخطير في الأمر، أن هذا
التحوّل لا يُواجه غالبًا بالوعي، بل يُمرّر تحت شعار "الحداثة" أو
"التطور"، وكأن الانتماء إلى الذات صار تهمة، وكأن الأصالة لا تُناسب
العصر. وهنا، لا يكون الاستيراد مجرد خيار تصميمي، بل فعلًا ثقافيًا يُعيد تشكيل
الهوية من الخارج، ويُضعف قدرة المجتمع على إنتاج رموزه البصرية الخاصة.
العمارة، حين تُفقد وظيفتها
التعبيرية، تتحول إلى قشرة. وحين تُستورد دون وعي، تُصبح أداة لإعادة إنتاج
التبعية، لا وسيلة للتعبير عن الذات. والمجتمع الذي يعيش في فضاء لا يُشبهه، لا
يملك إلا أن يُعيد إنتاج الغربة، حتى في تفاصيل حياته اليومية.
خاتمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق