حين يُختزل الانتماء في الجغرافيا ويُغفل جوهر التربية
جمال الهمالي اللافي
هل تصنع
المدينة الإنسان؟ أم أن الإنسان هو من يمنح المدينة معناها؟
سؤالٌ يتكرر كلما رأينا من يُحسبون على أهل
المدن، وقد صدرت عنهم سلوكيات لا تمت للحضارة بصلة، ولا تعكس أي انتماء حقيقي لقيم
المكان الذي نشأوا فيه. فليس الانتماء الجغرافي كافيًا لتشكيل الوعي، ولا يكفي أن
يولد الإنسان في قلب المدينة أو يعيش بين أحيائها ردحًا من الزمن ليكون من أهلها
حقًا.
في المدن الليبية... حين يغيب
السلوك وتبقى الواجهة
في
طرابلس وبنغازي وترهونة وزليتن ومصراتة وغدامس وسبها، كما في سائر المدن الليبية،
لا تزال المفارقة قائمة بين من يسكن المدينة، ومن ينتمي إليها حقًا. فالمشهد
الحضري، رغم ما فيه من عمران وتاريخ، لا يعكس بالضرورة سلوكًا حضاريًا متجذرًا.
كثيرًا ما نرى من يُحسبون على أهل المدن، وقد صدرت عنهم تصرفات تُخالف روح المكان،
وتُخدش نسيجه الاجتماعي. هذا التناقض لا يعود إلى المدينة نفسها، بل إلى البيوت التي لم تُربِّ،
وإلى قيمٍ غابت في زحمة التحولات، فصار الانتماء مجرد عنوان، لا مضمونًا.
التربية
أولًا... لا الجغرافيا
الرقي
الأخلاقي لا يُكتسب من الشوارع ولا من المعالم، بل يُغرس في البيوت التي تعففت،
وتربّت على شيوع الخير في النفوس، وصون الكرامة في التعامل. البيوت التي لا تكتفي
بتعليم الأبجديات، بل تزرع في أبنائها حسًّا بالمسؤولية، ووعيًا بالآخر، واحترامًا
للمكان.
في
المقابل، حين تغيب هذه التربية، لا يعود للمدينة معنى. بل تتحول إلى مسرحٍ مشوّه،
تُمارس فيه الخسّة والنذالة تحت لافتة الانتماء المكاني، بينما الحقيقة أن السلوك
لا يعكس إلا ما تربّى عليه صاحبه، لا ما يحيط به من عمران.
المفارقة بين
الانتماء المكاني والانتماء القيمي
المدينة،
في جوهرها، ليست مجرد تجمع عمراني، بل منظومة قيم وسلوكيات. من يمنحها روحها هم
أهلها الحقيقيون، الذين يلتزمون بآدابها، ويحترمون نسيجها، ويصونون علاقتها بالزمن
والناس. أما من نشأوا في بيئات خالية من القيم، فمهما تظاهروا بالانتماء، يظلون
غرباء عن روح المدينة، حتى لو عاشوا فيها عمرًا.
هذه
المفارقة تطرح سؤالًا أعمق: هل نحن نُخطئ حين نربط بين السكنى والانتماء؟ وهل آن
الأوان لإعادة تعريف من يُحسب على المدينة، لا بالبطاقة الشخصية، بل بالسلوك
اليومي؟
المدينة
ككائن حي... والإنسان روحها
حين
يُفسد الإنسان المدينة بسلوكه، لا تتشوه معالمها فقط، بل يتصدّع معناها. فالمكان
لا يصنع الإنسان، بل الإنسان هو من يمنح المكان روحه، أو يسلبه إياها. ولهذا، فإن
إصلاح المدن لا يبدأ من الحجر، بل من البشر. من إعادة الاعتبار للتربية، ومن ترميم
القيم التي تهدمت في بعض البيوت، لا في بعض الشوارع.
خاتمة
المدن لا
تُختزل في معمارها، بل في أخلاق من يسكنها. وإن أردنا أن نعيد لها وجهها الحقيقي،
فعلينا أن نعيد النظر في ما يُغرس في البيوت، لا في ما يُبنى في الساحات. فالحضارة
تبدأ من الداخل، من التربية، من الصدق، من التعفف، ومن الإيمان بأن الانتماء لا
يُقاس بالمكان، بل بما نمنحه له من معنى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق